الوضع المظلم
الخميس ٠٢ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
النقد الذاتي قبل هزيمة كُردية أخرى
عبد الوهاب أحمد

صدر في العام ١٩٦٨، أي بعد عامٍ من هزيمة العرب في حرب حزيران ١٩٦٧، كتاب قيّم للمفكر السوري، صادق جلال العظم، بعنوان "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، تحدث فيه عن جملة مسائل ذاتية، سياسية وعسكرية وأيديولوجية، كانت تعيشها الدول العربية قبل خوضهم لتلك الحرب التي أدّت إلى هزيمتهم المتوقعة أمام إسرائيل لاحقاً.

ولأنّ الدول الشرق أوسطية، ومنها العربية ومجتمعاتها بقواها السياسية ونظم حكمها، يفتقرون غالباً إلى مراجعات نقدية جديّة، ليس فقط قبل وقوع الكارثة بل وحتى بعدها، باعتبارهم لا يجدون في النقد الذاتي إلا عملية تجريح أو تعداد لعيوب ومثالب ونقائض لا تنتهي، تجدهم ينفذون عبر ثقوب شمّاعة «الخارج المتآمر» وعدم «تكافئ موازين القوى» للهروب من تحمل مسؤوليتهم في الهزيمة والخيبات، والحالة الكردية قديماً وحديثاً ضمن هذه الدول ليست بمنأى عن هذا الوصف.

في الثالث من هذا الشهر، عاد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مرة أخرى وعبر تقنية الفيديو ليعلن للعالم والسوريين، أن أنقرة تعد «مشروعاً لإعادة طوعية لمليون لاجىء سوري إلى بلادهم" موزعين في ثلاثة عشرة منطقة محاذية لحدودها، وتقع تحت سيطرة جيشها وحلفائها من المعارضة المسلحة السورية تمتد من إدلب إلى سري كانيه (رأس العين)، بعد أن تشيد لهم "مخيمات من الطوب تكون مجهزة بكل مستلزمات الحياة". وجاء هذا الإعلان بعد أيام من تصريحات مشابهة لزعيم المعارضة التركية، كمال كليشدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري التركي، الذي «توعد بترحيل السوريين إلى بلادهم» حال فوز حزبه وحلفائه في الانتخابات القادمة، وهذه ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها حكومة العدالة والتنمية ملف اللاجئين السوريين في تركيا كورقة سياسية لخدمة مصالحها الخارجية تجاه الغرب والعالم، وأجنداتها الداخلية أمام المعارضة لكسب صوت الناخب التركي قبل أي عملية انتخابية، لا سيما وأن الشعور بالاستياء ضد اللاجئين السوريين من قبل الشعب التركي قد بدأ بازدياد ملحوظ مع تراجع قيمة ليرتهم في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعصف ببلادهم خلال السنوات الأخيرة الماضية.

هنالك حقيقة جليّة، إن تركيا وعبر نظامها السياسي الحالي، كانت من أكثر الدول استثماراً في الأزمة السورية منذ انطلاقة ثورتها في بداية ٢٠١١، وأصبحت اليوم جزءاً من هذا الصراع بعد أن تدخلت سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في سوريا، وكانت المناطق الكردية وطبيعة الحكم فيها تشكلان الهاجس الأهم لحكومة العدالة والتنمية بذريعة "حماية أمنها القومي"، ومن أجلهما اجتاحت مناطق عفرين، سري كانيه (رأس العين)، وكري سبي (تل أبيض)، وعملت مع الميليشيات السورية على إفراغ هذه المناطق من أهلها الأصلاء عبر ممارسة أبشع الجرائم والانتهاكات ضدهم، بهدف تهيئة البيئة الملائمة لتنفيذ سياساتها التي تمتد إلى زمن ما قبل الأزمة السورية، وتأتي دعوات الحكومة التركية الحالية في سياق السعي المستمر لإعادة هندسة التركيبة السكانية في المناطق المحاذية لحدودها بغية الإجهاز على أهم وآخر مقومات القضية الكردية في سوريا من خلال تفريغ هذه المناطق من الكرد وتشتيتهم إلى الداخل السوري أو الدفع بهم للهجرة نحو الخارج.

يضاف إلى ذلك، التفافها على أحزاب المعارضة في تخفيف ضغط الشارع التركي عليها وملامسة مزاجه العام قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة، والحقيقة ليست كما يروّج لها إعلام حزب العدالة عبر وكالة الأناضول، بأن "٨٥ مليون تركي يتكافلون لبناء مجمعات سكنية للسوريين تمهيداً لعودتهم المليونية الطوعية إلى بلادهم".

أمام كل هذا التنافس التركي في انتهاج كل السبل الممكنة، سواءً بجهوده الفردية، أو بتنسيقه مع قوى إقليمية ودولية، أو مع النظام السوري لإعادة اللاجئين السوريين، وتوجيههم نحو جغرافيا تشغل المناطق الكردية الثلاث: عفرين، سري كانيه (رأس العين)، كري سبي (تل أبيض)، المساحة الأكبر منها، ما يزال المشهد السياسي الكردي في سوريا محل عدم ارتياح، ويبعث بمزيد من التشاؤم والخيبة في ظل احتدام الصراع بين قواه السياسية، وعمق الانقسام في مجتمعه بسبب تراكمات ممارسة سياسات خاطئة طوال فترة الصراع السوري.

وإذا كان حزب الاتحاد الديمقراطي وداعمه الرئيس، حزب العمال الكردستاني، يتحملان القسم الأعظم من هذه المسؤولية لأسباب بات الكل يدركها إلا هما، فإن المجلس الوطني الكردي ليس بريئاً تماماً من هذه المسؤولية باعتباره يعرّف عن نفسه بحامل للمشروع القومي والمدافع عن حقوق الشعب الكردي وقضيته في سوريا. سأحاول وانطلاقاً من قناعاتي الشخصية التصدي لمهمّة النقد الذاتي قبل وقوع هزيمة أخرى، من خلال البحث في قاع الهزيمة ومسائل أعتقد أنها تشكل جزءاً منها وتمهّد الطريق نحوها لطالما وبكل أسف بتنا نرد على كل هزيمة بهزيمة أخرى، وما زلنا في الماضي الذي يبدو لم يمضِ بعد:

أولاً، النقد الذاتي سياسياً: يشترط الأديب الفرنسي، أندري مالرو، على الشعوب من أجل تحولها الحضاري في كتابه الشهير «الشرط الإنساني»، "أن تتحول من الشعور بالاضطهاد إلى وعي بالاضطهاد، أي إلى قيمة". في سوريا، ما زال الشعب الكردي بمختلف قواه السياسية والمدنية والثقافية والاجتماعية والشعبية يشعر بالاضطهاد التاريخي والمظلومية التي تعرض لها على يد حكامه، ويلتقي مع حركته السياسية في تشخيص مصدر هذا الاضطهاد أثناء شرحه لأسباب إخفاق الثورات أو الإدارات الكردية التي تأسست حينها نتيجة تآمر الأنظمة في تركيا، العراق، إيران، وسوريا، إلى جانب تواطؤ بعض القوى الدولية ضدهم.

وفي متن الحديث، يتم استعراض الممارسات الديكتاتورية والاستبداد، وحجم الانتهاكات والمظالم، وسياسات التغير الديمغرافي التي استهدفت وجود الشعب الكردي على أرضه التاريخية وإنهاء  قضيته القومية، إلا أن الحركة السياسية يبدو أنها آثرت البقاء بعيداً، والتحول إلى مرحلة الوعي بالاضطهاد، عندما فشلت في الإجماع على مخاطره، والانتقال لحالة الوعي وثقافة الاستيعاب ومواجهة هذه المظلومية بأدوات سياسية علمية منهجية تماشياً مع الاعتبارات الواقعية في ممارسة السياسة ومراعاة المتغيرات والحقائق الجيوسياسية التي تمر بها المنطقة، وبشكل خاص سوريا، وبدلاً من هذا التحول، حفّت يقظة الطغاة في ممارسة المزيد من الاضطهاد ضده، ودخلت بعضها في علاقات استخباراتية مشبوهة، أو أحلاف سياسية باتت مدعومة فقط من أنظمة لم تهدأ يوماً من أجل وأد كل طموح كردي نحو الحرية والديمقراطية.

وبدلاً من تبنّي رؤية سياسية موحدة في التعامل مع الداخل الوطني والمحيط الإقليمي والتأقلم مع المتغيرات السياسة الدولية، انغمست في صراعات بينية جانبية أفرزت نتائج كارثية في كافة الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والعسكرية، وبغض النظر عن حجم المسؤولية التي يتحملها كل طرف، إلا أن تراكماتها خلقت شعوراً واستعداداً نفسياً بالهزيمة لدى قطاعات واسعة من أبناء الشعب الكردي؛ عندما شاهد وعايش احتلال مدنه، وتعرضه للتهجير والتشريد وصنوف من العذابات اليومية في صراعه الوجودي مع الحياة، ووصل لمرحلة تجاوز فيها فكرة إلقاء المسؤولية على الأنظمة التي تريد اضطهادنا، أو الأخرى التي تحيك المؤامرات وتقدم المشاريع لإنهاء وجودنا وحدها، بل أصبحت الحركة السياسية من منظوره وبشكل غير مباشر شريكة مع هذه الأنظمة في نسف كل مقومات البقاء والتمسك بهويته القومية والدفاع عن قضيته طواعية.

ثانياً، النقد الذاتي أيديولوجياً: إن من أهم خصائص التفكير الأيديولوجي باعتباره وعياً طوباوياً هو التقسيم إلى عالمين، عالم من الملائكة وآخر من الشياطين ولا شيء بينهما. لم تكن الحركة السياسية في سوريا بحاجة إلى أيديولوجيات كردية مختلفة ومتعارضة في مضمونها وأدواتها من خارج حدودها لرسم سياساتها، أو اختيار أسلوب نضالها في الدفاع عن حقوق الشعب الكردي في سوريا، أو التعريف بقضيته على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي. وإذا كانت هذه الأيديولوجيا والأفكار قد فرضت نفسها على الكرد السوريين خارج قناعاتهم في مرحلة من المراحل، إلا أن التبعية السياسية لها كانت بملء إرادتهم لاحقاً، وما زاد من الأثر السلبي لهذه التبعية هو القفز على الوقائع والخصوصية الجغرافية والسياسية للكرد السوريين في المنعطف الحاسم مع بداية انطلاقة الثورة السورية، حيث تبنى رؤىً سياسية ومشاريع هُلامية بدلالة مدى تعبيرها عن روح هذه الأيديولوجيات وتحقيق مصالح أصحابها على حساب مصالح وأهداف وتطلعات الشعب الكردي في سوريا. وانطلاقاً من هذه الحقيقة، بدأ الخلاف والشرخ يتعمّق بين قطبي الحركة السياسية الكردية في سوريا، ليأخذ مساراً نحو تفكيك بنية المجتمع وتقسيمه إلى ملائكة يدافعون عن الخير، وشياطين يزرعون الشر، ومن أجل انتصار أحدهما أصبحت الميكافيلية السياسية (الغاية تبرر الوسيلة) شريعة المتخاصمين وكالة عن أصحاب الأيديولوجيات.

ثالثاً، النقد الذاتي عسكرياً: تعتبر هزائم الكرد العسكرية مع تركيا حصيلة ونتيجة منطقية لخلل في التفكير السياسي وتداعيات الاستسلام للفكر الأيديولوجي وتنفيذ مصالح أصحابه، إلى جانب سوء في تقدير أهمية تركيا ودورها في الأزمة السورية. ويعود سبب ضمور التفكير العسكري والسياسي إلى كمية الاستخفاف بقدرات هذه الدولة وموقعها وطبيعة علاقاتها وحجم مصالحها مع القوى العالمية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية، والمغالاة في التعويل على دعم وحماية القوى الدولية (الولايات المتحدة الأمريكية والغرب) لنا لطالما قدمنا قرابين من أجل حماية مصالح هذه الدول والدفاع عن أمنها ضد خطر التنظيمات الإرهابية.

هكذا وباعتقادي، إن للحركة الكردية في سوريا أيضاً دور مهم في إنتاج الهزيمة، خلال السنوات العشر الأخيرة، لطالما من المسلمات ألا نتوقع من أعداء قضيتنا وحقوق شعبنا إلا الغدر والمؤامرة والسعي لإنهاء وجودنا ومحو هويتنا في المنطقة، وهذا الاعتقاد ليس دعوة للاستسلام، أو إثارة لإعشاش الدبابير، بقدر ما هي بقعة ضوء على مكامن الخلل في أدائنا السياسي وتفكيرنا الأيديولوجي وقدراتنا الدفاعية والعسكرية.
 

ليفانت - عبد الوهاب أحمد

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!