الوضع المظلم
الأربعاء ٢٢ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
النظامُ السوري: العميلُ الروسي بالوكالة
عبير نصر

كثيراً ما يخلص محللون إلى أنّ السمةَ الأخطر في عقلية النظام السوري هو تماهيه مع آلياتٍ عديدة استعملها من أجل جعل التغيير والمطالبة به من أكبر المحرمات. وهذا يعطينا درساً لا يُنسى في مدى توحشه ودمويته، في وقتٍ تشير فيه أرقام رصدتها لجان حقوق إنسان إقليمية ودولية إلى أنّ نظام الأسد يعتبر من بين أكثر الأنظمة في المنطقة العربية ظلماً وعدواناً على شعبه، والمجازر التي ارتكبها في الحولة وكرم الزيتون وجورة الشياح وخان شيخون ودرعا وريف دمشق.. تعكس بوضوح جليّ سلوكه الحقيقي، وتؤكد شعاره الشهير "الأسد أو نحرق البلد".

هذه السمة تقودنا ببساطة إلى فهم طبيعة اليأس الذي يسيطر اليوم على المشهد السوري، فرغم كل الاحتقان الاجتماعي والمعاناة اليومية لملايين السوريين، فإنّ الخوف من الأسوأ صار يشكل حاجزاً سميكاً أمام كلّ مبادرة للحركة والفعل، بينما أثبتت التجربة أنّ أيّ فرصة للتغيير تتحول حكماً إلى حمام من الدم والأشلاء. وحقيقة خطابُ شيطنة التغيير وجد صداه في مستويات أبعد من هذا بكثير، فهو لا يقتصر على منع سقوط نظام الأسد، بل يهدف أيضاً إلى جعل الواقع المرير قدراً لا خلاص منه، بينما لا يستمد هذا النظام شرعية وجوده من الأداء السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بقدر ما يستمدها من قدرته على كسر عزيمة المطالبين بواقع أفضل. وعليه من الطبيعي أن يستنجد بالقوة الإقليمية التي لا تقلّ عنه عنفاً وتوحشاً. نتحدث عن روسيا بالطبع، التي استفاقت فجأة على تغوّل الإمبراطوريات المنافسة، وعلى رأسها الإمبراطورية الأمريكية، المستفيدة من سقوط الاتحاد السوفياتي ومن دخول روسيا مرحلة انكماش تاريخي خلال العقد الماضي. وطبيعي أيضاً أن تغدو الثورة السورية منعرجاً حاسماً في تاريخ الصراع مع الاستبداد، وما إن تمّ إجبارها على التسلح حتى تأكدت بشاعة النظام السوري، وأنه قادر على الذهاب إلى أبعد حدود التوحش من أجل الحفاظ على كرسيه.

بطبيعة الحال، دخلت روسيا الساحة السورية بعدما أدركت أنّ النظامَ السوري، أو بتعبير أدقّ وكيلها الاستعماري، ساقطٌ لا محالة، مستعملة كلّ الأسلحة المحرمة دولياً من أجل إرهاب الشعب وإطالة عمر الحليف المتهالك. ولا يخفى على أحد أنه لم يكن التدخل العسكري الروسي يهدف لإنقاذ الأسد من السقوط، حرفياً، بقدر الإبقاء على المصالح الروسية بما فيها صفقات التسليح ومجموع القواعد العسكرية الروسية، إضافة إلى الممرات البحرية والبرية التي تشكلها سوريا لصالح القوة الروسية. وتاريخ الجيش الروسي شاهد على ذلك، بعدما دخل في حروب ومواجهات عسكرية شملت عدّة بلدان منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991. فمن الشيشان التي خاضت روسيا فيها حربين دمويتين في 1994 و1999 أدت لمقتل عشرات الآلاف، مروراً بجورجيا في 2008، وصولاً إلى سوريا عام 2015، ولن يكون آخرها بالطبع الحرب على أوكرانيا. وفعلياً أدى التدخل الروسي في سوريا، الذي ترافق مع عمليات قصف دامية ودمار هائل، إلى تغيير مسار الحرب ما سمح للنظام السوري بتحقيق انتصارات حاسمة، واستعادة المناطق التي سيطرت عليها الفصائل المقاتلة المعارضة. في المقابل المعطيات كلها تشير إلى أنّ بشار الأسد لا يمكن أن يكون رمضان قاديروف جديداً، والحديث هنا عن الرئيس الشيشاني، الذي يحكم بلاده كمندوب سامٍ روسي، لا يختلف عن المندوب الفرنسي أو الإنكليزي خلال فترة الاستعمار. ويبدو أن الأسد لن يحصل على هذه الترقية -المنصب- في سوريا، فهو ليس إلاّ وكيلاً ضعيفاً تابعاً، بعدما تحولت مناطق سيطرته إلى ساحاتٍ مفتوحة لصولات وجولات القوات الروسية. بدلالة أنه في كانون الثاني/ يناير المنصرم، أقلعت ثلاث طائرات روسية من قاعدة حميميم، واثنتان سوريتان من مطارين عسكريين بريف محافظة دمشق السورية، وفي خطوة هي الأولى من نوعها أجريت "دورية جوية مشتركة" على طول مرتفعات الجولان، وأجواء المناطق الشمالية والشمالية الشرقية لسوريا.

وسرعان ما أثار ذلك العديد من التساؤلات، فيما انعكس الأمر على وسائل الإعلام الإسرائيلية نفسها، والتي أفردت بدورها مساحة إخبارية، استعرضت من خلالها عدة قراءات لأهداف هذه الدورية، والدلالات المرتبطة بها، معتبرة أنها "تحمل رسالة". وحكماً هذه المناورات التي تجريها موسكو في الأجواء السورية ليست من باب الصدفة، بينما يتم تكثيفها الآن لاستعراض العضلات الروسية أمام الغرب. في سياق متصل لم يكن غريباً أن يسارع وزير خارجية النظام السوري إلى الاعتراف بالمنطقتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا، لوهانسك ودونيتسك، بعد ساعات من اعتراف بوتين بهما كدولتين مستقلتين. وبحسب وكالة الأنباء السورية الرسمية، قال المقداد "إنّ دمشق (ستتعاون) مع المنطقتين في شرق أوكرانيا." جدير ذكره أيضاً أن النظام السوري اعترف سابقاً بالمنطقتين الانفصاليتين، أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، بعد الحرب الروسية الجورجية عام 2008.

والحقيقة تُقال إن سيطرة روسيا على الأرض السورية، تعني فرض أمر واقع، ولهذا ذهبت لصناعة ما يسمى الدستور السوري، وصنعت عدّة مؤتمرات تخالف ما اتفق عليه في مؤتمر جنيف (1) ومخرجاته التي أصبحت المرجعية في حلّ القضية السورية. وما مؤتمر اللاجئين إلاّ جزء من إعادة تأهيل النظام وصك براءة له من كلّ جرائمه. وعودة اللاجئين تعني إعادة إعمار تتكفل به الدول الثرية، كذلك القفز على قضية المعتقلين، ومن صُفّي منهم وهم عشرات الآلاف، كما بينت تسريبات قيصر، وكلها جرائم ضد الإنسانية، والجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.

بهذا المعنى وفَّرت الأزمة السورية فرصة لتوكيد دور روسيا على المستوى الدولي، في مواجهة تجاهل واستخفاف غربيين، ورداً على ما تراه موسكو حصاراً غربياً استراتيجياً واقتصادياً. وحتى من الناحية الاستراتيجية المجردة، وبغضّ النظر عن العلاقات الروسية - الغربية المتوترة، تحتفظ موسكو بقاعدة بحرية عسكرية في طرطوس، هي القاعدة الوحيدة للروس في حوض المتوسط، ومركز تنصت تجسسي رئيسي في جبال اللاذقية، هو الوحيد في الشرق الأوسط.

نافل القول إنه لا شك مثَّل التدخل الروسي المباشر في سوريا نجاحاً تكتيكيّاً، لكنه في نفس الوقت يواجه عقبات كبيرة، تحول دون تحويله إلى نجاحٍ استراتيجي، بل قد تجعله حرب استنزاف تقضي على النتيجة السياسية المتوخاة، في وقتٍ لم يكن هدف النظام السوري من التحالف مع روسيا إلا البحث عن آلياتٍ مبتكرة لتشويه النماذج الثورية، سواء بشيطنتها ووسمها بالخيانة، أو عبر تسليحها من الداخل ليبرر قمعها والقضاء عليها، رافضاً أيّ إصلاح جدي، لكي يُفتح الباب على كلّ أشكال الفوضى الممكنة. على هذا سيكون من المستحيل حتماً حصر الطريق إلى الموت في سوريا، لكنّنا بلغنا في هذا المضمار ما لم تبلغه الأمم الأخرى، في مؤشر خطير على تآكل الأمة من الداخل.

مع هذا ومهما بالغ النظام السوري في الهروب إلى الأمام، وفي منع كلّ شروط التغيير السلمي، فإن حركة التاريخ سيكون لها رأي آخر تماماً. إذ لا يمكن لأيّ نظام قمعي مهما بلغ من التوحش والعنف أن يمنع شروط التغيير الاجتماعي، ما لم يصنع هو نفسه الشروط الحقيقية التي تضمن له البقاء، حيث لم تصمد في التاريخ الحديث والقديم أعتى الأنظمة المستبدة، لأنها بكلّ بساطة لا تمتلك شروط البقاء. 

ليفانت - عبير نصر

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!