-
المبادرات وخطر التسلّق
فرحان مطر
كلمة مبادرة ومصدرها بادَرَ في التعريف هي: سبْق إلى اقتراح أمرٍ أو تحقيقه.
انطلاقاً من هذا التعريف أود السؤال: من هو المبادر؟!.
برأيي هو من يتفاعل مع حدثٍ ما، في لحظةٍ ما، بطريقةٍ ما، عادة ما تكون جديدةً، ومثيرة للسؤال في بداياتها قبل أن تتحقق، وتتحول إلى واقع لا يمكن تجاهله، أو إنكاره.
سؤال آخر: من يجني ثمار المبادرات في نهاية المطاف؟!. هل هم الأشخاص الذين أطلقوها عن إيمان وقناعة، أم أولئك الذين يتصيّدون اللحظة، ويقفزون إلى الواجهة مستغلين المبادرات لصالح نظراتهم ومصالحهم الشخصية واعتباراتهم السياسية الضيقة؟!. ماذا عن المتسلقين؟!.
منذ بداية الثورة السورية والمبادرات لم تتوقف عن الظهور، على كل المستويات السياسية والعسكرية والإغاثية والثقافية والفنية وفي كل مجال، وعلى أي مستوى كان، وبطبيعة الحال فإن لكل مبادرة أهدافها، أو هدفها المعلن الذي يسعى صاحب، أو أصحاب المبادرة إلى تحقيقه انطلاقاً من الظروف التي دعت للقيام بها والإعلان عنها.
غير أننا وفي ظل هذا الخراب الكبير الذي وصلت إليه حالتنا السورية بفعل الظروف الموضوعية المعقّدة المحيطة بقضيتنا، بتنا نتساءل عن جدوى ومغزى وفائدة أية مبادرة جديدة نسمع بها، وقد يكون في هذا السؤال على ما يحتمل أحياناً من التشكيك بعض المشروعية بسبب اليأس الذي بات ظاهراً لدى أوساط كبيرة حتى داخل جمهور الثورة.
ولكن هل حالة العجز المسيطرة قادرة على منع أصحاب روح المبادرة من الاستمرار في طرح مبادراتهم في كل لحظة، وكل حين كمحاولة منهم للبحث عن حل ومخرج جديد؟!. طبعاً لا يمكن لكل الظروف القاهرة من منع فكرة جديدة تلتمع داخل عقل إنسان يؤمن بحتمية انتصار القيم العليا، من أن يخرج إلى العلن ليطرح مبادرته هذه.
كثيرة هي المبادرات التي لم يكتب لها أن تعيش طويلاً في الوجدان، ودخلت عالم النسيان خلال فترة قصيرة دون أن تحقق شيئاً من أهدافها، وكثيرون هم الذين حاولوا وفشلوا، وربما كانوا يعرفون مسبقاً أنهم لن يستطيعوا تغيير موازين الأمور على أرض الواقع ولكنهم كسبوا شرف المحاولة على الأقل انسجاماً مع أنفسهم وقناعاتهم التي يؤمنون بها.
ليس هذا كل شيء، وليست هي الصورة دائماً على هذه الدرجة من السوداوية والقساوة واليأس، فهناك مبادرات تركت آثارها طويلاً في الوجدان العالمي، وسأذكر مثالين هنا: الناشطة الأمريكية "راشيل كوري" عضو حركة التضامن العالمية التي وقفت في وجه جرافة عسكرية إسرائيلية كانت تقوم بهدم بيوت فلسطينيين في مدينة رفح بقطاع غزة بتاريخ 16.03.2003، وكانت حياتها ثمناً لهذه المبادرة الشجاعة، والفنانة التشكيلية السورية "هالة الفيصل" التي قامت في عام 2005 بالوقوف عاريةً في ساحة "سكوير بارك" في نيويورك وكتبت على جسدها عبارة أوقفوا الحرب، احتجاجاً على الحرب في العراق، ثم اعتقلتها الشرطة الأمريكية لبعض الوقت.
ليس من الضرورة في كلا المثالين السابقين أن تكون راشيل الأمريكية وهالة السورية قد استطاعتا وقف هدم المنازل في فلسطين أو وقف الحرب في العراق، غير أنهما بتلك الحركات الرمزية والمبادرات الشجاعة قد استطاعتا لفت أنظار العالم ووسائل الإعلام إلى تلك القضايا، ولو لبعض الوقت، وهو بحد ذاته يعتبر إنجازاً.
أصل إلى المبادرة الحالية التي أطلقها المهندس "بريتا حاجي حسن" وهو رئيس المجلس المحلي لمدينة حلب سابقاً، في إضرابه الفردي عن الطعام، احتجاجاً على ما تتعرض له محافظة إدلب من غارات يومية للطيران الروسي والأسدي، ثم تحوّل الأمر مع المثابرة والصمود إلى تفاعل سوري وعالمي مع المبادرة، حيث صارت حملة جماعية منظمة تحت عنوان: حملة الأمعاء الخاوية، وحملت شعاراً: لا طعام حتى يتوقف الإجرام.
ما يهمني الحديث عنه في هذه المبادرة عدة نقاط منها، وهي أنها:
- أثبتت باستمرارها واتساعها أن السوري ما زال حياً وقادراً على المبادرة والفعل.
- أثبتت أن اليأس ليس مسيطراً بالقدر الذي يريده ويتنماه ويروّج له البعض، وخاصة من أعداء الثورة.
- أثبتت أن الفعل الحقيقي والإيجابي حتى ولو كان رمزياً وفردياً ما دام صادقاً فهو قادر على الوصول إلى عقول الناس وقلوبهم.
- أثبتت أن وسائل الإعلام العالمي ليست نزيهةً ولا تحركها الأخلاق أساساً، بدليل عدم اكتراثها بموت السوريين المتواصل للعام التاسع على التوالي.
- أثبتت أن إشعال الشمعة لا يقارن بإطلاق اللعنات في وجه الظلام.
- أثبتت أيضاً في مقابل ذلك أننا كسوريين نزداد اختلافاً حول كل شيء، فالمبادرة السلمية التي تشكل انتحاراً بطيئاً لمن يقومون بفعل الإضراب عن الطعام (حسب تعبير بريتا حاجي حسن على صفحته على الفيسبوك)، وهي تعرض حياتهم للخطر في أية لحظة، قد تصدّى لها بعض السوريين بالتشكيك في مصداقيتها، ومصداقية بعض القائمين عليها، وفي التقليل من أهمية أية نتائج ترتجى منها.
لا بد من دعم كل المبادرات التي ترفض الرضوخ للواقع المنكسر والمتشظي المليء بالخسارة والانهيار، والشد بقوة على أيدي كل هؤلاء الذين يمتلكون الشجاعة والقدرة على التضحية براحتهم، وأوقاتهم، وربما حياتهم في لحظة ما، من أجل قضايا عادلة يؤمنون ونؤمن بها جميعاً، غير أنهم أفضل بما لا يقاس من المنكفئين عن الفعل استسلاماً لواقع، واعترافاً بظروف قاسية.
كما لا بد أيضاً من الوقوف بوضوح بوجه المتسلقين الذين يحاولوا استغلال نجاح المبادرة جماهيرياً، والقيام باستعراضات مجانية تخدم مطامحهم الشخصية وربما حب الظهور ليس إلا، وبالتالي حماية المبادرات الحقيقية من التشوّه، والتسلّق وهو أحد الأمراض التي ابتليت بها الثورة السورية خلال السنوات التسع من عمرها.
----
كاتب وصحفي سوري – فرنسا
المبادرات وخطر التسلّق
المبادرات وخطر التسلّق
المبادرات وخطر التسلّق
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!