الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
اللغة والعقل الجمعي في فلسفة حركة التاريخ
 إبراهيم أبو عواد 

الرَّمزيةُ اللغوية في العلاقاتِ الاجتماعية تُمثِّل شبكةً مِن الأفكارِ الإبداعية والتجاربِ الوجودية والظواهرِ الثقافية، وهذه الشبكةُ تُسَاهِم في إعادةِ تعريف مصادر الوَعْي في حقول المعرفة، ونقلِ شخصية الفرد مِن البَرَاءة إلى الخِبرة، وتحويلِ التفاعل الاجتماعي مِن تراكيب الفِطْرَة الإنسانية إلى عناصرِ المَنهج العِلْمِي والعَمَلِي، الذي يقوم على تحليل دَور المُجتمع في فلسفةِ حركة التاريخ ومَنطقِ العقل الجَمْعي.

وكُلُّ مَنهجٍ فَعَّال هو بالضَّرورة ثَورةٌ لُغوية تُغيِّر طريقةَ تفكير الفرد، بِحَيث يَندمج الوَعْي معَ الأحداث اليومية، ولا يَتَعالى عليها، ولا يَنفصل عن السِّيَاقات الحضارية الموجودة في البناءِ الاجتماعي والبُنيةِ الوظيفية للواقع المُعَاش. والثَّورةُ اللغويةُ غَير مَحصورة في نِطَاقِ طبيعةِ الألفاظ ومركزيةِ المَعَاني، وغَير مَحدودة في إطارِ إشاراتِ التفاهم وَدَلالاتِ التواصل. إنَّ الثَّورةَ اللغوية حياةٌ قائمة بذاتها، ومُكتملة بِنَفْسِها، وهي هَيكلٌ مَعرفي عابر للحواجز الزمنية، ونظامٌ اجتماعي مُتجاوز للحُدود المَكَانية. والمُجتمعُ القائمُ على ثنائية (الرَّمزية اللغوية / الثَّورة اللغوية) لا يُولَد في الفَرَاغ، ولا يُؤَسِّس للعَدَم، لأنَّ اللغةَ هي القُوَّةُ الدافعة للعلاقات الاجتماعية، والمُحَرِّكُ الأساسي للفِكْرِ والإبداعِ، والرافعةُ الحقيقية للمعايير الأخلاقية. وهذه الحركةُ الدَّؤُوبةُ اجتماعيّاً وفِكريّاً وأخلاقيّاً تَجعل هُوِيَّةَ المُجتمعِ مُتماسكةً، ولا تُحِيل إلى غائب، وإنَّما تستعيد التجاربَ الحياتية مِن الغِيَاب، وتسترجع أحلامَ الفردِ مِن الاستلاب.

تاريخُ العلاقاتِ الاجتماعية لَيس رُجُوعًا إلى الزمن الماضي أوْ هُروبًا مِن المكان الحاضر، وإنَّما هو خِطَابٌ وُجودي يُعاد تشكيلُه باستمرار كواقع مَحسوس يُنقِّب عن سُلطة المُجتمع في ماهيَّةِ الفرد، ويَكشِف حقيقةَ اللغة في عملية إعادة إنتاج المعرفة، باعتبارها تأسيسًا للمَعنى الإنساني في مُوَاجَهَة قَسوةِ الأحداث اليومية، وخُشونةِ الوقائع التاريخية وهذا التأسيسُ يُؤَدِّي إلى تحويل مصادر الوَعْي إلى منظومة مِن الأسئلة المصيرية، مِن أجل اختبارِ الماضي لا تَقْدِيسِه، وتفسيرِ الحاضرِ لا تَحنيطِه. وبالتالي، تنتقل العلاقاتُ الاجتماعية مِن حالة الأُسطورة إلى بُنية المُسَاءَلَة، وتنتقل الظواهرُ الثقافية مِن وَضْعِيَّة الأيقونة إلى مشروعية التأويل، مِمَّا يَكسِر وِصَايةَ الماديَّة الاستهلاكية على اللغةِ والمُجتمعِ، ويَصنع هُوِيَّةً مَعرفية خالية مِن التناقض، وذات طبيعة إنسانية بعيدة عن المصالحِ الشخصية الضَّيقة، والتفسيرِ المُغْرِض لمسارات التاريخ في العقل الجَمْعي والتجارب الوجودية والتفكير الأخلاقي. وإذا كانَ الكِيَانُ الإنساني هو النظامَ الجامع لِبُنيةِ الفِعْل الاجتماعي ومَضمونِها وتأويلِها، فإنَّ الكَينونةَ المُجتمعية هي المَنظومةُ الجامعة للظروفِ المادية زمنيًّا ومكانيّاً، والرُّؤيةِ الفلسفية لهذه الظروف ضِمن شُروطِ بناء التاريخ في الحضارة، وعواملِ قِيَام الحضارة في فلسفة حركة التاريخ. وهذا التداخلُ مِن شأنه إعادة تَفسير مُحاولات سَيطرةِ الفرد على ذاته ومُحيطه، وهَيمنةِ المُجتمع على مساره ومصيره. والتَّحَدِّي الأبرزُ في هذا السِّيَاق يتجلَّى في كيفيةِ مَنعِ الآلة مِن السَّيطرة على الفرد (حماية الشُّعور الإنساني مِن التَّحَوُّل إلى نظام ميكانيكي)، ومَنْعِ المُجتمع مِن استنزاف موارد الطبيعة لتحقيق رفاهيته، وتكريسِ سُلطته، وتعزيزِ سَطْوته.

اللغةُ تَمْنَع العَقْلَ الجَمْعي مِن التَّحَوُّل إلى أداةٍ لقمع أحلام الفرد، مِمَّا يُؤَدِّي إلى صناعة نظام اجتماعي قائم على القِيَم العقلانية والوَعْي النَّقْدِي. واللغةُ تُحَافِظ على التوازن بين المُجتمع والطبيعة، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تكوين بيئة إبداعية قائمة على المعايير الأخلاقية والتعابير الجَمَالية. وإذا كانَ الهدفُ مِن النظام الاجتماعي هو دَمْجَ هُوِيَّةِ الفرد معَ سُلطة اللغة، فإنَّ الهدفَ مِن الوَعْي النَّقْدِي هو تحريرُ إنسانيةِ الفَرْد مِن الخَوْفِ، وإعادةُ تشكيل ملامح شخصيته الوجودية بحيث تُصبح آلِيَّةً مَعرفية للانعتاقِ مِن تَسليع الكِيَان الإنساني (تَحَوُّله إلى سِلعة ضِمن ثنائية العَرْض والطَّلَب)، والتَّحَرُّرِ من الرابطة النَّفْعِيَّة المادية التي تَجعل البناءَ الاجتماعي شيئًا قابلًا للبيع والشراء. ولا يُمكن للمُجتمع أن يَترك بصمةً مُؤثِّرة في فلسفة حركة التاريخ إلا إذا تَمَّ بناءُ العلاقات الاجتماعية وَفْق مَنطِق اللغة، ولَيس مَنطِق السُّوق، وهذا يَتَطَلَّب حمايةَ شخصية الفرد الإنسانية مِن أثرِ الاغتراب وتأثيرِ الاستلاب، وتحليلَ البُنية الوظيفية الجوهرية في الأنساقِ اللغوية والسِّيَاقاتِ الواقعية، مِمَّا يَمنح الفردَ القُدرةَ على تجاوز الواقع، مِن أجل صِناعة واقع جديد قائم على الوَعْي الحقيقي لا الزائف. والوَعْيُ الحقيقي لا يتكرَّس كَهُوِيَّةٍ وسُلطةٍ وشرعيةٍ، إلا إذا نَجَحَ في انتشال الأفكارِ الإبداعية المقموعة في أعماق الذاكرة الوجودية للفرد والمُجتمع. وهذا يُحقِّق التجانسَ في الحراكِ المُجتمعي وحركةِ التاريخ معاً، وَيَحْمِي المَعنى مِن الغِيَاب، ويَحْرُس العقلَ الجَمْعِي مِن الغَيبوبة.

ليفانت - إبراهيم أبو عواد

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!