الوضع المظلم
الجمعة ٢٥ / أبريل / ٢٠٢٥
Logo
 الفيدرالية ليست تهمة وكوردستان ليست مؤامرة  2/2
د. محمود عباس

لكن الحقيقة التي يتجاهلها المتربصون بنا، عمدًا أو جهلًا، هي أننا لسنا نحن من انفصل عن الوطن، بل الوطن هو من انفصل عنّا، نحن لم نقطع العلاقة مع كوردستان، بل قُطعنا عنها، وبتنا نعيش في أوطان لم نختَرها، وتحت رايات لم نعترف بها، نُمنح فيها الحقوق مشروطة، والهوية منقوصة، والانتماء متّهم حتى يثبت العكس.

إن المطالبة بالفيدرالية ليست تمرّدًا، بل محاولة ترميم، ليست نكوصًا عن الانتماء، بل محاولة استعادته لأننا، ببساطة، لسنا طلاب انفصال، بل ضحايا انفصال مفروض، نحن المنفصلون عن أرضنا، عن لغتنا، عن ذاكرتنا الجمعية، عن حدودنا الطبيعية، وأحيانًا حتى عن بعضنا.


من يُهاجم الفيدرالية، عليه أولًا أن يعترف بأن كوردستان ممزقة، وأن الكوردي لم يكن يومًا يعيش في ظل دولة تمثله أو تعترف به كشعب، نحن لا نطالب بالتقسيم، بل نطالب بالاعتراف بما هو قائم أصلًا، أن هناك أكثر من وطن في الوطن، وأكثر من شعب في الدولة، وأكثر من ذاكرة في التاريخ الرسمي.


والمفارقة العظيمة أن الكوردي، رغم كل ما فُرض عليه، لا يزال يؤمن بالعيش المشترك، لا من باب الضعف، بل من جوهر ثقافته، لقد تعوّد الكوردي، وهو يضمد جراحه، أن يفتح قلبه للآخر، نقبل الغريب كما نقبل ابن مدينتنا، نحمي المختلف كما نحمي أخانا، بل ونطلب من الدول التي تحتل كوردستان أن تحتضن الكوردي والمكونات الأخرى معًا، فكيف نُلام إذا طالبنا، في المقابل، بدولة كوردية، أو كيانية فدرالية، تحتضن الجميع كما نطالب سوانا أن يحتضننا؟
الحقيقة التي لا نخفيها هي أن حلم كل كوردي، منذ أن عرف اسمه، هو كوردستان موحدة، هذه ليست تهمة نخجل منها، بل شرف لا ننكره، لكننا، في زمن التشظي، نعرف أن الأوطان تُبنى بالتدرج، وأن الاعتراف بالاختلافات القومية والإثنية والدينية داخل الدولة ليس ترفًا سياسيًا، بل هو شرط لبقائها، نحن نطرح الفيدرالية لا كقناع، بل كمبدأ، نريد نظامًا يضمن للكل أن يكون، لا أن يُبتلع.


إن من يهاجم الحراك الكوردي لأنه يطالب بالفيدرالية "تمهيدًا للانفصال" لا يرى الصورة كما هي. الفيدرالية، في جوهرها، نقيض التفكك، هي ما يمنحنا القدرة على البقاء معًا دون قهر، على العيش تحت سقف واحد دون ذوبان. والفيدرالية الكوردية لا تعني كوردستان ضد الآخرين، بل كوردستان مع الآخرين، على قاعدة الندية لا الإلغاء، الاعتراف لا الإنكار.


لذلك، فإن دفاعنا عن هذا النظام ليس رفاهًا أيديولوجيًا، بل ضرورة تاريخية، بل أكثر من ذلك، هو مصالحة مع الذات، مع الكوردي الآخر الذي فصلتنا عنه حدود العسكر، ولهجات العزلة، وأجندات الأحزاب، فمن يُهاجم الفيدرالية الكوردية من الداخل، بدعوى الخوف من شبهة الانفصال، إنما يُرسّخ، بوعي أو دون وعي، سردية المحتل، التي تريدنا شعوبًا مقطّعة، متباعدة، تتشكك ببعضها أكثر مما تتشكك بالمحتل ذاته.

وحين نُدافع عن الفيدرالية، فإننا لا نناور، نقولها بوضوح، نريد كوردستان موحدة، حرة، قادرة على احتضان شعوبها، تمامًا كما نريد من تركيا وإيران والعراق وسوريا أن تحتضن الكورد بكرامة، المساواة لا تُقاس باتجاه واحد.
إن الخطر الحقيقي ليس في أن نُطالب بوطن، بل في أن نُبني أوطانًا على أنقاض أنفسنا، أن نمدّ يدنا للآخر بينما نطعن أخانا، أن نبني مع الغريب ما نهدمه مع القريب، هنا تكون الهزيمة، وهنا بالضبط، يتقاطع المشروع الكوردي مع أعمق معاني الدولة العادلة، أن نُقيم كيانًا لا يُلغي أحدًا، لكنه لا يُلغي ذاته أيضًا.


في النهاية، كوردستان ليست جريمة، بل جرح، ليست مؤامرة، بل وعد لم يُنجز بعد، ومَن يَحسبنا خائفين من إعلان حقيقتنا، فليراجع تاريخه أولًا، وليرَ من الذي انفصل عمن، نحن عن أوطان لم تعترف بنا، أم هم عن ضمائرهم حين صمتوا عن تقسيمنا؟

نحن لا نخجل من الطموح، بل نخجل من الخنوع.
نحن لا نُخفي هدفنا، بل نرفض أن نُراوغ بشأنه.
نحن أبناء كوردستان، نريد أن نعود إليها، كلّها، حرة، اتحادية، وعادلة.
لكننا، في الوقت نفسه، نؤمن بسوريا وطنًا جامعًا، يتّسع لكل مكوّناته، دون إقصاء أو تفضيل.
نطمح إلى بناء دولة سورية ديمقراطية، تقوم على نظام فيدرالي لا مركزي، يُثبَّت في الدستور، ويضمن العدالة والمساواة، لا بالتمنّي، بل بالتشريع والاعتراف.
 
د. محمود عباس
 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!