الوضع المظلم
السبت ٢٣ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الصهيونية المسيحية ووعد الله لليهود بأرض فلسطين
ميرنا الرشيد

ما تزال قوات الجيش الإسرائيلي، منذ الذكرى الأولى لعملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2024، تحاصر مخيم جباليا في غزة، وتفرض حصاراً عسكرياً بكل أنواع الأسلحة القاتلة على الجهة الشمالية من القطاع، تمنع من خلاله دخول المساعدات الإنسانية والغذائية والماء إلى السكّان المحاصرين.

عائلة صديقي أيمن، الناشط المدني، من بين تلك العائلات التي تشهد الرعب والتجويع والقتل في شمال غزة. كان أيمن قد انفصل عنها قسراً، عندما اعتقله الإسرائيليون في شهر كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، مدة ثمانية أيام، برفقة كثير من الشبان الغزاويين، وحققوا معه في إحدى مراكز الاعتقال بالقدس، ثم جرى ترحيله إلى رفح، المحاذية للحدود مع مصر.

راسلتُه منذ بضعة أيام لأطمئن عليه، وسألتُه عمّا إذا تمكنت عائلته من الخروج باتجاه الجنوب، وكان ردّه: «أهلاً ميرنا، كتير صعب الوضع، ببقى طول الليل ما بعرف شي عنهم. في محيطهم كتير بيوت تم قصفها، مربع سكني كامل راح فيه 100 قتيل».

تصرّ القوات الإسرائيلية على أنّها تعطي إنذارات للمدنيين بإخلاء الأبنية التي تود قصفها، إلاّ أنّ أعداد الضحايا والجرحى، وحجم التدمير الهائل، تبين أنّ الحرب هذه هي حرب ضد أهل غزة، وضد كل نَفَس يخرج من صدورهم وهم أحياء. يقضي أيمن سواد الليالي مستيقظاً، و«على نار»، في حالة من القلق الشديد، إلى أن يطلع الصباح، وتصله رسالة من عائلته، تُبرّد قلبه. فمنذ أنْ بدأت حملة التوغل العسكرية في الشمال، صارت عائلته تفصل الاتصال بشبكة الإنترنت الدولية، خوفاً من الاستهداف، ثم تعاود الاتصال بها صبيحة اليوم التالي.

قال لي أيمن إنّه ما من سبيل أنْ تخرج عائلته إلى وجهة أخرى أقل ضرراً الآن. سيكون الأمر ممكناً، «إذا وصل الجيش لعندهم، ومتل ما صار السنة الماضية، بيعتقل الشباب، وبيترك الأطفال والنساء يمشوا، أو ينقصفوا قبل ما يصل لعندهم، أو يقرر الجيش ينهي العملية وينسحب، كلها على الله».

في كل مرة أراسل فيها أيمن، وصديقي الآخر سالم، الصحفي الذي هُجّر إلى خيمة في دير البلح، أجد نفسي عاجزة عن الرد. منذ أيام مضت، أخبرني سالم أنّه نجا من الحريق الذي تسببت به الغارات الإسرائيلية على مستشفى شهداء الأقصى. ذلك الحريق الذي طال نحو ثلاثين خيمة، ظلت مشتعلة مدة خمس وأربعين دقيقة، قبل أن تتمكن فرق الإطفاء من إخماده. كان من حصيلته، موت أربعة من المدنيين، وإصابة نحو أربعين آخرين بحروق من الدرجتين الثانية والثالثة. كتب لي سالم: «خيمتي كانت بنفس المكان اللي انحرق، رفعتها قبل يومين من الحريق. طلبوا مني أرفعها، وأفتح طريق للإسعافات. ماكنش عاجبني، طلع في سبب رباني».

في سياق تلك المشاهد التي رآها العالم بأكمله، لأجساد مدنيين احترقت وسط لهيب من النيران، وسماع صرخات لم يستجب لها أحد، أكدّ المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، أنّ «القصف الإسرائيلي هو السابع من نوعه الذي يستهدف خيام النازحين داخل أسوار مستشفى شهداء الأقصى، منذ بداية حرب الإبادة الجماعية على القطاع قبل أكثر من عام».

إنّ ما يجري تنفيذه في غزة، خاصة في الجزء الشمالي منها، هو خطة الجنرالات، التي اقترحها الجنرال غيورا آيلاند، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، وقد صرّح في يوم طوفان الأقصى، أنّه «عندما تكون في حالة حرب مع خصم، لا تمدّه بالطعام، ولا تزوده بالكهرباء أو الماء أو أي شيء آخر، فأنت تحاصره بصورة تامة»، مبرّراً ذلك بأنّه «على الشعوب تحمّل قرارات زعمائها، ويكفي مشاهدة الفرحة على وجوههم صبيحة 7 أكتوبر».

لابدّ أنّه يخطر في بال كثيرين تساؤلات عن سبب هذه الإبادة التي ترتكبها إسرائيل، وكيف يُسمح لها أن تُزهِق أرواح الآلاف في غزة ولبنان، وتخترق حدود أية دولة تشاء، وفي الوقت الذي تحدده، وتنفذ هجمات عسكرية واغتيالات، وتغيّر ملامح مدن آهلة بالحياة، إلى مآتم وهياكل وأنقاض؟ صحيح أنّ نشوء إسرائيل قد بدأ بتاريخ الخامس عشر من أيار/مايو عام 1948، لكنّ فكرة توطين يهود العالم في فلسطين، كانت سابقة لهذا التاريخ بكثير. وهي لم تبدأ مع الصهيونية اليهودية كما هو معروف، لقد كان للصهيونية المسيحية القول الأول في خريطة الشرق الأوسط الجديد، وفي جعل بلاد الشام بالتحديد، تدفع ثمن قراءات توراتية، كُتبت منذ آلاف السنين، من كتبة وحاخامات، خُيّل لهم أنّ الله قد اصطفا اليهود من بين شعوب الأرض كلها.

يتجلى وضوح هذه النقطة وضوحاً تاماً، بتعبير ويليام إي بلاكستون، الأمريكي الإنجيلي والصهيوني المسيحي، الذي سبق ثيودور هرتزل بخمس سنوات، بدعوته لإعادة تأسيس الدولة اليهودية. لقد صرّح بأنّ «الصهيونية من الناحية الإنسانية لا تدين بأصلها في المقام الأول إلى المعتقد اليهودي، بل إلى جهد المسيحي، الذي نحترمه جميعاً، والذي كان صديقاً عظيماً للبعثات اليهودية». وفي لحظة زمنية حديثة، اعترف بنيامين نتنياهو بالصعود المبكر للصهيونية المسيحية، عندما أعلن أنّها «سبقت الحركة الصهيونية الحديثة بنصف قرن على الأقل».

لقد أعطى تأسيس إسرائيل دفعة هائلة للصهاينة المسيحيين الذين اعتبروا ذلك تحقيقاً للنبوءة التوراتية، وبدا لهم توسيع رقعة المناطق المحتلة في حرب حزيران عام 1967، وبدء الاستيطان في القدس الشرقية والضفة الغربية، انتصاراً للخير على الشر. أسهم ذلك بانضمام العديد من المحافظين اليمينيين المتطرفين إلى الصهاينة المسيحيين واليهود، وتشكيل تحالف سياسي ثلاثي من القوة المتزايدة. أكدت تلك التطورات التي لم تكن في الحسبان، ووفقاً لنبوءات العهد القديم، على الدور المهم الذي ستلعبه إسرائيل في مستقبل البشرية.

الإصلاح البروتستانتي والصهيونية

تُفهم الصهيونية المسيحية على نطاق واسع على أنّها الاعتقاد بحق الشعب اليهودي بالعودة إلى إسرائيل، كما أنّها ترى اليهود باعتبارهم أحفاد بني إسرائيل التوراتيين، وورثة العهد بين الله ونبيّه إبراهيم، كما ورد في سفر التكوين: «وَأُعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ، كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ مُلْكًا أَبَدِيًّا. وَأَكُونُ إِلهَهُمْ». إنّ الصهيونية المسيحية هي إيديولوجيا سياسية ودينية، تعتمد على قراءة الكتاب المقدس المسيحي قراءة حرفية، خاصة العهد القديم منه. لذلك، فإنّ تجميع اليهود في بلاد الشام هو شرط أساسي لنهاية العالم، وعودة المسيح التي تمهد الطريق لسيناريو دراماتيكي للحكم السماوي، بعد أن يقود حرب هرمجدون المدمرة التي سينتصر فيها الخير على الشر، وتضع نهاية للعالم الذي نعرفه.

يعود شيوع الأفكار المسيحية المؤيدة للصهيونية إلى فترة الإصلاح الكنسي، التي أسس لها اللاهوتي الألماني مارتن لوثر في القرن السادس عشر في أوروبا، وأدت إلى ظهور المسيحيين البروتستانتيين. وضمن السياق التقليدي، انبثقت الإنجيلية من البروتستانتية المحافظة، وانبثقت المسيحية الصهيونية من الإنجيلية. بالطبع ليس كل الإنجيليين من الصهاينة، لكن على الأغلب، من ينتمي إلى الصهيونية، يتّبع الإنجيليين بالضرورة.

من الناحية العقائدية، يعتنق الصهاينة المسيحيون لاهوتاً يسمى التدبير الإلهي، وهو يؤكد أنّ إرادة الله تتجلى عبر عدة مراحل من التاريخ. يُعدُّ القس البريطاني جون نيلسون داربي، المبتكر الأول لنظرية التدبير الإلهي. كان داربي يعتقد أنّ خطة الله تتمحور، حول الوفاء بعهده مع شعب إسرائيل مرة واحدة في المستقبل. وضمن تدبير كهذا، تظهر الكنيسة باعتبارها المرحلة الخامسة من فترات العهد القديم؛ جنة عدن، والطوفان ونوح، وإبراهيم، وإسرائيل. وفي لحظة غير معروفة، تُرفع الكنيسة إلى السماء، تليها فترة الروح، ثم تبلغ الأحداث ذروتها في الألفية الأخيرة، أو حكم المسيح على الأرض مدة ألف عام.

وصل تأثير الإنجيليين إلى أمريكا منذ بداية تأسيسها في القرن الثامن عشر، لكنّ نفوذهم الملحوظ لم يترسخ إلاّ بعد قرن من ذلك. وفي ستينيات القرن العشرين، بدأت نهضتهم الحديثة، ثم تبلورت أكثر في الثمانينيات، خلال فترة رئاسة رونالد ريغان، عندما أصبح الحزب الجمهوري مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالإنجيليين، وغيرهم من المسيحيين المحافظين. وبفضل النفوذ المحلي القوي، تمكنت أجندة إنجيلية من الوصول إلى الهيئات التشريعية للولايات، والكونغرس الأمريكي أيضاً، الأمر الذي أدى إلى زيادة نفوذ الصهاينة المسيحيين من خلال الشخصيات المحافظة، خاصة المسيحية الإنجيلية، في كُلّ من السلطتين التشريعية والتنفيذية.

ووفقاً لإحصائية أصدرها مركز بيو للأبحاث عام 2022، فإنّ نسبة معتبرة من الإنجيليين، بلغت 70%، يؤمنون بأنّ «الله أعطى الأرض التي هي إسرائيل الآن إلى الشعب اليهودي». وفي استطلاع مجلس شيكاغو لعام 2024، أكّد 64% من الإنجيليين البروتستانت البيض، أنّ إسرائيل تدافع عن مصالحها، ولها مبرراتها في أعمالها العسكرية على غزة. وفي سؤال لهم عمّا إذا كان ينبغي على الولايات المتحدة أن تقيّد إرسال المساعدات العسكرية إلى إسرائيل، عارض 60% من الإنجيليين فرض قيود كهذه. وبناء على ذلك، أصبحت إسرائيل منذ تأسيسها أكبر متلقٍ للمساعدات الخارجية الأمريكية، وقد تجاوزت المنح السنوية المقدمة لها، ما تتلقاه أي دولة أخرى في العالم. لقد نصت اتفاقية التفاهم لعام 2016 أن تحصل إسرائيل على منح سنوية بقيمة 3.8 مليار دولار، في حين بلغ حجم المساعدات العسكرية، منذ بدء طوفان الأقصى، حوالي 17.9 مليار دولار.

لا يقتصر الدعم الأمريكي لإسرائيل على المساعدات المالية فقط. إنّه أمر مؤكد أنّ دفاع الولايات المتحدة عن مواقف إسرائيل، في المحافل السياسية المحلية والدولية، متسق وغير مشروط. ووفقاً لتحليل مؤسسة بلو ماربل، فقد بلغ نقض أمريكا لقرارات مجلس الأمن التي تنتقد إسرائيل 45 مرة، مما يعني أنّ أكثر من نصف حق النقض الأمريكي، منذ عام 1945، قد استُخدم لصالح إسرائيل، كان من بينها 33 قراراً بشأن احتلال الأراضي الفلسطينية والانتهاكات المرتكبة بحق الفلسطينيين.

معارضة اليهود للصهيونية

لطالما عارضت التقاليد التلمودية منذ فترة طويلة أيّ دافع نحو الصهيونية، كما عارضت معظم السلطات الحاخامية الأرثوذكسية الأوروبية، الخطط الصهيونية لإقامة كيان سياسي يهودي في فلسطين. كانت المستوطنات الفردية أو الجماعية الصغيرة مقبولة لدى هؤلاء الحاخامات، لكنّهم وقفوا في وجه أيّ خطط سياسية أكبر، لأنّها كانت تتعارض مع فكرة أنّ الفداء اليهودي، لن يأتي إلاّ من خلال «التدخل الإلهي». حتى أنّ حساب قرب انتهاء العالم، واستعجال مجيء المسيح، حُرّما على اليهود، كما لاحظ مايكل ستانيسلافسكي، الباحث في التاريخ اليهودي بجامعة كولومبيا.

جاءت هذه التفسيرات وفقاً لما ورد في التلمود البابلي، في الجزء الثالث من التقاليد اليهودية الشفهية، المعروفة باسم ميشنا، وهي تخص الأيمان الثلاثة التي استحلف الله بها العالم. خاطب اثنان منها الشعب اليهودي، ووُجّه الثالث إلى الأمم الأخرى. فيما يخص اليهود، فقد مُنعوا من العودة من بابل إلى أرض إسرائيل على نحو جماعي، كما مُنعوا من التمرد ضد الأمم التي تشتتوا فيها. جاء في الآيتين 21و 22 من الإصحاح السابع والعشرين من سفر إرميا: «21 إِنَّهُ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ عَنِ الآنِيَةِ الْبَاقِيَةِ فِي بَيْتِ الرَّبِّ وَبَيْتِ مَلِكِ يَهُوذَا وَفِي أُورُشَلِيمَ 22 يُؤْتَى بِهَا إِلَى بَابِلَ، وَتَكُونُ هُنَاكَ إِلَى يَوْمِ افْتِقَادِي إِيَّاهَا يَقُولُ الرَّبُّ فَأُصْعِدُهَا وَأَرُدُّهَا إِلَى هذَا الْمَوْضِعِ». بناءً على هذه الآية، وبما أنّ السبي البابلي كان مفروضاً بمرسوم إلهي، فسّر الحاخام يهودا أنّ الإذن بمغادرة بابل إلى أرض إسرائيل، لا يمكن منحه إلاّ من الله نفسه.

عارض الحاخام زعيرا هذا التفسير، لأنّ المقصود به هو أواني خدمة الهيكل، وليس الشعب اليهودي، الأمر الذي جعله يسعى إلى الصعود إلى أرض إسرائيل، بعد أن قضى فترة شبابه في بابل. ومع ذلك، فقد أكّد في موضع آخر، في الإصحاح الثالث من سفر نشيد الأنشاد: «أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ بِالظِّبَاءِ وَبِأَيَائِلِ الْحَقْلِ، أَلاَّ تُيَقِّظْنَ وَلاَ تُنَبِّهْنَ الْحَبِيبَ حَتَّى يَشَاءَ»، أنّه ليس ينبغي على اليهود أن يطؤوا إسرائيل مثل سور جماعي، في حين يجوز للأفراد الهجرة إليها متى يحلو لهم.

في إطار النذر الثاني، تبنت اليهودية الحاخامية سياسة المقاومة السلبية في مواجهة معاداة السامية، مؤكدة أنّه ينبغي على اليهود أن يظلوا بعيدين عن الأضواء، ولا يتحدوا السلطات السياسية أينما يستقرون. تعززت استراتيجية السلبية هذه بالشريعة الدينية اليهودية المسماة بالهالاخاه. كتب الصحفي الأمريكي ميلتون فيورست، أنّ هذا النهج- لأسباب غير واضحة- كان يحتوي على نذر من جانب اليهود، بعدم تنظيم أنفسهم للعودة إلى وطنهم القديم. ولاحظ شالوم غولدمان، بروفيسور الدراسات العبرية في جامعة إيموري، أنّه «حتى أواخر القرن التاسع عشر، كانت معظم الخطط الخاصة بالكيان اليهودي في فلسطين مسيحية».

مع صعود القومية العرقية في القرن التاسع عشر، ورفض زعماء الصهيونية اليهودية العلمانية الأوائل، من بينهم ثيودور هرتزل، النزعة السياسية الهادئة التي تبنتها اليهودية الحاخامية، بدأ بعض اليهود يصرّون على أنّهم ليسوا مجرد جماعة دينية، وأنّهم يشكّلون أمة، وهذا يعني تاريخاً مشتركاً ولغة مشتركة ووطناً محدداً جغرافياً. لقد طبق الصهاينة أفكارهم القومية قبل مذابح روسيا القيصرية بحقهم، في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وقبل تزايد معاداة السامية في جميع أنحاء أوروبا. وعلى الرغم من أنّ هذه العوامل قد ساعدت على انتشار الأفكار الصهيونية، والترويج لضرورة تبنيها، إلاّ أنّها لم تؤسس لها.

حتى أوائل القرن العشرين، ظلت الصهيونية تمثل رأي أقلية ضئيلة بين اليهود، وقد عارضها الحاخامات الإصلاحيون والأرثوذكس، فضلاً عن أنّ العديد من اليهود العلمانيين، كانوا يعتقدون أنّ تحررهم السياسي، يتطلب دمجهم بالواقع العملي للديمقراطيات الغربية، وليس التماهي مع الوطن في الشرق الأوسط.  يضاف إلى ذلك أنّ فلسطين كانت حينها جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، ولم يكن السلطان ميالاً إلى التنازل عن الأراضي لليهود.

لكن منذ ثلاثينيات القرن الماضي، بدأت تتراجع معارضة اليهود المتدينين للصهيونية؛ حتى أنّ العديد من البراغماتيين الذين عارضوا فكرة الدولة اليهودية غيّروا آراءهم. لقد شكّلت المحرقة، وتدهور ظروف اليهود في أوروبا، انعطافاً جذرياً في تاريخ الصهيونية، فتبددت المشاعر المعادية لها. وفي ضوء الكشف عن مدى تنفيذ هتلر لما عُرف بالحل النهائي، أصبح الوطن اليهودي يُنظَر إليه باعتباره السبيل الوحيد لحماية يهود العالم. بعد ذلك، تفككت بعض هذه الجماعات المعادية، وأصبح بعضها الآخر منظمات مؤيدة لتجميع الشتات. لقد كان التحول كلياً، وحصل دفعة واحدة، بدأ بوصف الصهاينة بأنّهم «أشرار وأوغاد»، وأنّ «الشر دخل إلى أرض إسرائيل بدخول هرتزل إليها»، إلى انتقاد المؤسسة الأرثوذكسية لعدم توليها زمام المبادرة في إعادة تأسيس الوطن اليهودي.

الاضطهاد الإسرائيلي لمسيحيي فلسطين

على الرغم من تأسيس الصهيونية المسيحية لفكرة استيطان اليهود، إلاّ أنّ ذلك لم يؤمن الحماية للمسيحيين الفلسطينيين من التهجير والقتل بفعل الاعتداءات الإسرائيلية منذ 76 عاماً. ففي الفترة بين عام 1860 حتى عام 1914، شكّل المسيحيون حوالي 11% من نسبة السكان في فلسطين، المهد الذي نشأت فيه المسيحية، في حين أنّ نسبتهم اليوم، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، لا تتجاوز 1% من تعداد السكان في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة.

في مقال نشره الصحفي الفلسطيني، داوود كتّاب، على موقع الجزيرة، بعنوان: «لماذا يتجاهل الغرب المسيحي محنة مسيحيي فلسطين؟» ذكر أنّه حتى بعد تأسيس إسرائيل، لم يتوقف إرهاب وتشريد المسيحيين. لقد وُعد من كانوا يقطنون في قريتي إقرث وكفر برعم ذات الأغلبية المسيحية، بالعودة إلى أراضيهم «في غضون أسبوعين»، إلاّ أنّه لم يُسمح لهم بذلك على الإطلاق.

أضاف كُتّاب أنّه وفقاً لبحث أجرته منظمة عدالة غير الحكومية في حيفا، فإنّ الفلسطينيين المسيحيين الذين بقوا داخل الأراضي، واجهوا في العقود التالية، النظام العنصري نفسه الذي واجهه الفلسطينيون المسلمون. فقد خضعوا معاً لقوانين عنصرية، بلغ عددها 65 قانوناً، حرمتهم من الحقوق التي أُبيحت لليهود القادمين من أنحاء مختلفة من العالم.

برزت أحدث ممارسات إسرائيل العنصرية بحق المسيحيين في عيد الفصح من العام الماضي. حينها دعت الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية أبناء وبنات الرعية في القدس الشرقية المحتلة، إلى تحدي الإجراءات التي فرضتها الشرطة الإسرائيلية قبل بدء الاحتفالات الدينية، متهمة إياها بتبني «نهج قاسي» في هذه المسألة، تضمن وضع الحواجز في جميع أنحاء المدينة القديمة، لتقليل أعداد المشاركين. كما اتهمت بعض القطاعات المسيحية الأخرى الإسرائيليين باضطهادهم، وإغلاق الأحياء التي يقطنون فيها، ومنع المصلين من الوصول إلى كنيسة القيامة، للاحتفال بأقدس أيام السنة بالنسبة إليهم.

لا ينحصر اضطهاد إسرائيل بالمسيحيين الفلسطينيين فقط، إنّه يتعداه إلى اليهود الذين يؤمنون بأنّ يسوع هو المسيح المنتظر، لذلك فهم يُحرمون من الحصول على الجنسية الإسرائيلية، على الرغم من أنّهم ينحدرون من والدين يهوديين. تشير الإحصاءات الحديثة إلى أنّه يوجد حوالي مليون يهودي في العالم اليوم، يؤمنون بيسوع على أنّه الأقنوم الثاني من الأقانيم الثلاثة، الآب والابن والروح القدس، وأنّه الطريق الوحيد للمغفرة والخلاص. وبناء على هذا، فإنّهم يتّبعون ما تنص عليه العقيدة المسيحية.

لكن من جانب اليهودية، فإنّها ترفض أيّاً من تحقيقات النبوءة التي تنسبها المسيحية إلى يسوع. في سؤال وُجّه إلى الحاخام مارك جيلمان عن هذا الأمر، أجاب بأنّ «يسوع لم يفعل كل ما كان من المفترض أن يفعله المسيح. لم يجمع كل اليهود إلى إسرائيل. لم يحارب قوى الشر في العالم، ويتغلب عليها على رأس جيش بقيادة شخص من نسل الملك داود. وأخيراً لم يحيي جميع الأموات الذين ماتوا قبله». وبرأيه فإنّ هذه المهام المتبقية، على اختلاف عددها، هي دليل على اعتقاد المسيحيين بأنّ مسيحانية يسوع لم تكتمل بعد، لذلك فهم يؤمنون بعودته الثانية، في حين يؤمن اليهود بمجيئه.

تمتد الاختلافات بين اليهودية والمسيحية إلى عيد الفصح، الذي يُعدّ من الأعياد الرئيسية للديانتين. بالنسبة إلى الأولى، فهو يرمز إلى عبور بني إسرائيل من مصر وصولاً إلى فلسطين. وبالنسبة إلى الثانية، فإنّه يرمز إلى الاحتفال بذكرى صلب وقيامة المسيح بعد أن سلمه اليهود إلى الرومان، فهم لم يقبلوا بتعاليمه، وحدثت مواجهات كثيرة بينه وبينهم، لخّصها القديس يوحنا الإنجيلي بعبارته الشهيرة، «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ».

يفسر موقع الأنبا القبطي موقف اليهود الرافضين لرسالة المسيح، «بأنّه كان نابعاً من محبتهم للمال، أو محبتهم لذواتهم، أو لرغبتهم في مملكة أرضية ترضي تطلعاتهم الزمنية، أو لعدم اكتراثهم بالخلاص من عبودية الشيطان والخطيئة، أو لعدم إيمانهم بالقيامة من الأموات. لهذا قال السيد المسيح لليهود: أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالًا لِلنَّاسِ مِنَ ٱلْبَدْءِ».

ميرنا الرشيد: صحافية ومترجمة سورية \ ليفانت

كاريكاتير

قطر تغلق مكاتب حماس

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!