الوضع المظلم
الجمعة ١٧ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
  • الصراع بين بكين وواشنطن.. مساحات الظل بين السلم والحرب

الصراع بين بكين وواشنطن.. مساحات الظل بين السلم والحرب
رامي شفيق

لطالما استقرت التوصيات الطبية الخاصة بمواجهة فيروس كورونا المستجد حول ضرورة التزام التباعد الاجتماعي، كأحد أهم الإجراءات الاحترازية لضبط الانتشار الكثيف للفيروس بين البشر، بينما يتخذ التحرش السياسي بين بكين وواشنطن حول عدد من الملفات الاقتصادية والسياسية نمطاً تصاعدياً، جرى تداوله على لسان كبار المسؤولين في البلدين، فإن ثمة إشارات عديدة تعبر عنها الإدارة الأمريكية، توضح أنها عقدت العزم على ضرورة احتواء الانطلاق الصيني، واعتبار كبح الصعود المتنامي لبكين بمثابة ضمان للأمن القومي الأمريكي.


 وعبر ذلك، فقد بات التنافس بين الولايات المتحدة والصين والتدهور العنيف في مستوى العلاقات من خلال أكثر من ملف، أحد المحددات الرئيسية للعلاقات الدولية، وكذا، يحتاج إلي إهتمام وعناية إقليمية ودولية لضخامة الدولتين، بالإضافة إلى اثر الأنماط السياسية الخاصة بهم في النظام الاقتصادي الدولي، وتبعاته في الاستقرار السياسي والأمني العالمي.


في الوقت الذي مثل فيروس كورونا المستجد عنصراً مشتركا في الصدام بين بكين وواشنطن؛ إذ أعلن الفيروس عن ظهوره الأول من خلال الصين، وجاءت الولايات المتحدة الامريكية باعتبارها من أكثر الدول في عدد الإصابات، الأمر الذي نجم عنه تبادل الإتهامات بين قادة البلدين حول مسؤولية كل منهما في ظهور الفيروس، وتفشيه بين سكان العالم، فحمل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الصين مسؤولية الجائحة، بينما انسحب من منظمة الصحة العالمية على خلفية اتهام المنظمة بالتواطؤ مع الصين، وأن الاخيرة تتحكم بالمنظمة الصحة، ناهيك عن إشارة بومبيو وزير خارجية الولايات المتحدة إلى أن الفيروس "نابع من أخطاء معملية في ووهان الصينية". وبدا من تداعيات كورونا أنها تلمح إلى حلحلة الوضعية المميزة للهيمنة الأمريكية على العالم.


وبالرغم من الزخم الهائل لفيروس كورونا وأثر تداعياته الذي احتوى غلاف الصراع الأمريكي الصيني، إلا أن مضمون ذلك الصراع ومحتواه بدأ منذ سنوات وتمركز حول الصراع التجاري والتكنولوجي، خاصة، وأن المؤشرات الاقتصادية تستقر عند معدلات هي الأسوأ بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، منذ عقود طويلة، مضت على عكس المؤشرات الاقتصادية الخاصة بالاقتصاد الصيني.


جاء التطور الاقتصادي للصين، خلال العقود الثلاثة الماضية، عبر رؤية الإدارات الأمريكية لمحاولة احتواء الانطلاق الصيني؛ إذ أيد الأمريكيون انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، في العام 2001، واستضافت جامعاتهم العديد من الباحثين الصينيين، كما سمحت الشركات الأمريكية الصين التواجد في قلب الاقتصاد العالمي، بيد أن ذلك التصور سقط في ظل إدارة الرئيس ترامب، وانعكس تصوره  من خلال تراكم العقوبات التجارية، وذلك بعدما أيقنت واشنطن أن بكين قد حصدت جملة من الأهداف الاستراتيجية بأكثر مما ينبغي، ومن ثم، لا تستطيع واشنطن الصمت أمامها، وهو ما عبر عنه ترامب في حديثه، مؤخراً، حينما أشار إلى أن بكين ضالعة في سرقة حقوق الملكية الفكرية للشركات الأمريكية.


وصرح ترامب بأن هذه الحقوق المسروقة تقدر الحكومة الأمريكية أن الحجم الاجمالي بين عامي 2013 و2017، يصل إلى نحو 1.2 تريليون دولار أمريكي، الأمر الذي دفع مؤسسات الأمن القومي الأمريكي اعتبار الصين خطراً استراتيجياً على المصالح الأمريكية وريادتها العالمية.


وإلى ذلك تتحرك واشنطن نحو عدد من بؤر التوتر التي تحيط بالصين وتعتبرها بمثابة أوراق ضغط من شأنها أن تعرقل الطموح الصيني، وذلك ما يمكننا متابعته من موقف الولايات المتحدة من هونج كونج، وأنها تمثل أحد أوجه الصراع بينهما، مما جعل بكين تصدر قانون الأمن القومي الخاص بهونج كونج رداً على التظاهرات التي خرجت ضد سلطة بكين، العام المنصرم، حيث جاءت تصريحات ترامب تعكس رؤية الإدارة الأمريكي عندما قال في مؤتمره الصحفي، أن قانون الأمن القومي الذي أقرته الصين ضد هونج كونج، بمثابة انتهاك سافر ومأساة للشعب هناك، كما هدد بفرض عقوبات على المسؤولين.


ومن جانبها، قالت المتحدثة باسم الرئاسة الأمريكية كايلي ماكيناتي: "من الصعوبة تصور كيف يمكن لهونج كونج أن تبقى عاصمة مالية إذا سيطرت الصين على المستعمرة البريطانية السابقة"، مؤكدة أن هذا التحذير صادر من الرئيس دونالد ترامب نفسه في ضوء "استيائه" من مشروع بكين، بينما اعتبرت وزيرة العدل في هونج كونج، تيريزا تشنج، أن الأساس الذي يستند إليه ترامب "خاطئ تماما وغير صحيح"، مشيرة إلى أن الحاجة لقوانين الأمن القومي (الصينية) مسألة مشروعة وضرورية.


 بددت جائحة فيروس كورونا الغيوم المتراكمة حول الأزمة التي تعاني منها الولايات المتحدة الأمريكية، خلال السنوات الماضية، وبدا تخبط الدولة الأولى في العالم واضح أمام الجميع وهي تشهد أعلى معدل للاصابات بين دول العالم، ويحصد الفيروس أراواح آلاف المواطنين الأمريكيين، بينما كانت الصين التجربة الأولى في تجاوز أزمة الفيروس، الامر الذي دفع ترامب نحو وضع الصين في كل جملة، وأن تتقاطع معه في كل حديث، وأمست تداعيات فيروس كورونا كفيلة بتسخين كل بؤر التوتر ودفع كل الخلافات نحو مسرح الأحداث.


في مشهد مهيب ضغط الضابط الامريكي بكلتا قدمية على رقبة المواطن الأمريكي من أصول إفريقية، جورج فلويد، وسط توسلاته كونه لم يعد قادرا على التقاط انفاسه  وصرخات المحيطين دون جدوى، ليفارق الحياة داخل المستشفى، مما دفع الالاف من المواطنين الامريكيين للتظاهر ضد العنصرية في عدد من الولايات الأمريكية وتنقلها شاشات التلفزيون ويتابعها الملايين في دول العالم، وبدت فيها الولايات المتحدة الامريكية التي طالما استقرت في ذهنية الكثيرين نموذج الديمقراطية والحرية  والمدافع الأول عن حقوق الانسان في اختبار صعب يستحيل مع المشاهد تجاوز آثاره ودلالاته، مما دفع  الخارجية الروسية إلى التصريح بأن واشنطن فقدت الحق في تقديم أي ملاحظات إلى الدول الأخرى بشأن حقوق الانسان. 


موسكو التي تتابع باهتمام بالغ الصراع بين واشنطن وبكين، تدرك تماماً أن آليات الصراع فيما بينهما ستسمح لها بهامش حركة ومناورة في المساحات التي تقدر منافعها، وعوائدها الاستراتيجية لجهة المصالح الروسية، خلال العقود القادمة، فضلاً عن أن تلك الأوضاع التي تتجه نحو ضرورة التنافس ضد الهيمنة الأمريكية، ترافقها ضرورة أخرى تحرص على عدم الانزلاق إلى الصراع المسلح .


شهور قليلة تفصل العالم عن مشهد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي يتنافس فيها الرئيس الحالي دونالد ترامب ضد منافسه من الحزب الديمقراطي جو بايدن، ورغم كافة الأزمات التي عصفت بإدارة ترامب خاصة خلال العام  الجاري،  والتي من الممكن أن تعصف بفرصه في تجاوز مشهد الانتخابات، بيد أن ثمة تقديرات تشير الى تماسك كتلة الناخبين المؤيدة لاستمرار ترامب فترته الرئاسية الثانية.


وعلى أية حال، الانتخابات الأمريكية مهما أسفرت نتائجها، فلن يتغير الواقع والشروط السياسية القائمة والمحتدمة، حيث يتوقع أن يتوخى الرئيس القادم الإجراءات ذاتها التي يتوجب مواجهتها في سياق الصراع والتنافس ضد بكين  وروسيا، بيد أن الصراع ليس حرباً باردة جديدة كما عرفتها أدبيات السياسة واحتفظت بها ذاكرة التاريخ، منتصف القرن العشرين، بل صراع يقوم على آليات التكنولوجيا الحديثة، ووسائل التواصل العملاقة التي تخترق كل الخصوصيات، وصراع تنتصب آلياته في مساحات الظل بين السلم والحرب، لا يهدف نحو القبض على الهيمنة أو حيازة مقعد القيادة (القطب الواحد) في العالم من واشنطن، بل تتحرك آلياته وأهدافه نحو إحكام السيطرة على مصالحه الاستراتيجية، والقدرة على ضبط الرؤى التكتيكية التي تحفظ تلك المصالح، ويبقى ذلك كله رهن نجاح تلك التحركات وصواب تلك الرؤى، على خلفية ارتعاش القبضة الأمريكية، ووهن قوتها، ومساحات الفراغ التي تنتج عن ذلك. 


 


رامي شفيق

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!