-
الصداقة بالمفهوم السياسي
عبد الناصر حسين - كاتب سوري
كثيراً ما يخلط الباحثون بين الصداقة بمفهومها السياسي والصداقة ببعدها الاجتماعي!. فالحالة قائمة على المصالح ولا شيء غير المصالح، أما الثانية فتحكمها المودة والقيم والمجاورة والعاطفة وشتان بين المفهومين.
الصداقة السياسية عادة ما تتجاوز الإيديولوجيا وتقفز على المؤطّرات الفكرية، وهي تنعقد حيث تلتقي المصالح على أرضية تشاركية، يتم من خلالها تحقيق أكبر كمّ من المنافع المشتركة، التي عادة ما يكون الطرف الأقوى هو المستفيد الأكبر.
لا يشترط في انعقاد ميثاق الصداقة بين دولتين أو حزبين أو تجمّعين سياسيين أن يرضى أحد الطرفين عن الطرف الآخر في كثير من الجوانب، بل قد ينفر أحد الأطراف من سلوكيات أو تصورات يملكها الطرف الآخر، لكنه يتجاوز كل ذلك، لأن عينه ترقب شيئاً واحداً هو المصلحة التي يمكن أن يجنيها من التحالف المفترض.
كما تتجاوز العلاقات السياسية كثيراً من التراكمات التاريخية القديمة، فلا تنطلق من بعض التجاذبات السياسية التي حدثت في الماضي، فيبدو السياسيون الكبار وكأنهم بلا ذاكرة لكن الأمر ليس كذلك فهم يتجاهلون ويتجاوزون الماضي بسرعة ولياقة لتشبيك الحالة المصلحية الجديدة.
كما تتجاوز الصداقة بمفهومها السياسي الجغرافيا السياسية فلا تتأثر علاقات الدول كثيراً بعلاقات دول أخرى أو بممارسات أحد طرفي الصداقة في أمكنة أخرى وقد تتأثر تبعاً لحجم المصلحة المنتظرة.
لقد احتاجت النخب السورية إلى فهم عميق لمسألة الصداقة السياسية، لا سيما وقد انقسم المجتمع الدولي حيال الثورة السورية إلى محورين ظاهرين وفقاً للمعلن:
الأول هو «أعداء الشعب السوري» المتحالفون مع نظام الأسد والداعمون له بكل الوسائل والسبل، والثاني هو «محور أصدقاء الشعب السوري» الذي تفاوت في دعمه للثورة السورية منذ بداية الحدث السوري في آذار 2011 حتى هذه الأيام، ما بين دعم جاد لكنه محدود، ودعم خجول متقطع، وصولاً إلى حد التخاذل. لكن الخطأ حدث حين فهم معظم الساسة السوريين أن الصداقة السياسية تشبه الجمعيات الخيرية القائمة على دعم الاحتياجات الإنسانية بالمجان ولم يتنبهوا إلى أن هذا الدعم يمكن أن ينقطع في كل لحظة بسبب الفهم الغالط والتعاطي الخاطئ مع الشركاء المفترضين.
إن مصطلح الصداقة السياسة يعني انحياز جهة ما الى جهة أخرى مقابل ثمن محسوب ومتفق عليه.. فالعروض المجانية غير موجودة في قاموس السياسة إلا في لحظة افتتاح «البازار السياسي» والمراسم الأولى له، لكن بعد تجاوز تلك العتبة يبدأ الحديث الجاد عن الصفقات السياسية المدروسة، فالصداقة هي شراكة مصلحية منفعية متبادلة، وعلى النخبة السياسية الثورية أن تتفهم مصالح الأصدقاء وتقدر مخاوفهم كذلك.
كما عليهم أن يفهموا أنه لا يشترط على أصدقاء السياسة أن يفرطوا بمصالحهم حتى نعدهم أصدقاء، كما ليس شرطاً أن يعادوا عدونا بالدرجة نفسها التي نعاديه بها، كي نعدهم شركاء، كما لا يصح تقييم الأصدقاء على ضوء إمكاناتهم، ولا من خلال حاجتنا الكبيرة إلى الدعم، ومن الأصلح النظر إلى ما يقدمونه لا إلى ما يملكونه، ولا إلى حجم حاجاتنا فحاجاتنا إلى الدعم كبيرة وضخمة بضخامة الكارثة الواقعة على أهلنا.
وكان على النخب أن تحترم خيارات الأصدقاء حين أطلقوا على أنفسهم مسمى «أصدقاء الشعب السوري» لأنها خيارات طوعية لم يجبرهم عليها أحد، حتى لو قصّروا، وقصّروا كثيراً فلا يمكن حذفهم من قائمة الصداقة، لأن بقاءهم مسجلين فيها هو مكسب بحد ذاته.
من الجميل والمهم جداً أن يضحي الصديق بشيء من مصالحه ثمناً للصداقة ويحدث هذا كثيراً في العلاقات الاجتماعية، لكن أصدقاء السياسة لا ينبغي أن نعدّهم من الأعداء حين لا يفعلون ذلك.. بمعنى أنه لا ينبغي أن نشترط على الأصدقاء التضرر بصداقتنا أو منع التمصلح والتمنفع من صداقتهم لنا.
ولقد رصدنا في الثورة السورية ظاهرة غريبة حين رأينا البعض ينتظرون من أصدقاء السياسة أن يقدّموا لنا أكثر مما يقدمونه هم لقضيتهم، وكأنهم ينتظرون منهم أن يحققوا لهم أهدافهم وينجزوا كامل مصالحهم، في الوقت الذي نرى فيه كثيراً من النخب المحسوبة على الثورة ومن قيادات العمل الثوري والسياسي لا يقدمون للثورة شيئاً، هذا إذا سلمت الثورة من إساءاتهم أحياناً.
وكما ننتظر من الأصدقاء تقديم واجب الدعم لنا فهم ينتظرون كذلك منا تقديم واجب الشكر والعرفان، لكن هذا لم يحدث إلا قليلاً، بل حدث العكس تماماً، حين تلقى بعض داعمي الثورة الإساءة المتعمدة خدمة لأهداف حزبية ضيّقة، الأمر الذي أرسل رسالة سلبية للداعمين. وبالمقابل فإن أصدقاء النظام كانوا يتلقون دفعات كبيرة من الثناء والعرفان من النظام، ولم يتلقوا أي هجوم أو انتقاد حتى لو تعرض النظام لإهانات من داعميه، لكننا وجدنا في الثورة السورية نخباً تهاجم الأصدقاء ويسلم من هجومهم الأعداء، حتى اعتقدنا أن بإمكاننا اكتشاف «خوارج السياسة» على غرار خوارج المذهب والاعتقاد.
صحيح أن للعدو أصدقاءه وداعميه، لكن عينه موجهة إلى أصدقائنا ليكسبهم في أي فرصة تلوح له، وهو يتربص بنا كي نخسرهم، ليتقرب منهم، ويحظى بهم. وصحيح أننا لا نحسد النظام على داعميه حتى لو أخلصوا له في دعمهم وأجزلوا في الأعطيات لأنهم ساقطون أخلاقياً وإنسانياً لكن النظام القاتل يحسدنا على داعمينا ويتمنى أن يتخلوا عن دعمنا ويتوجهوا إليه ولو مجاملة، ولكي ندرك أهمية الأصدقاء فما علينا إلا أن نتخيل للحظة واحدة أن مواقفهم انعكست واستدارت بالاتجاه الآخر بحيث نبدأ نسمع منهم كلاماً كالذي أسمعوه للنظام كأن يقولوا: إن الثورة السورية لا تقوم على دعائم شرعية وقد ارتكبت جرائم تستحق العقاب عندها سندرك أهمية شطب الشرعية عن النظام وأهمية الحديث عن محاكمته وبالتالي لا ينبغي أن ندفع الأصدقاء إلى أخذ خيارات أخرى تضر بأهلنا قبل الإضرار بهم، فمن السهولة بمكان خسارة أصدقاء السياسة وليس سهلاً كسبهم، وإذا لم نستطع أن نكون الصديق المشترك لعدة أطراف فعلى الأقل علينا تجنب أن نكون عدواً مشتركاً لأطراف متباعدة أصلاً، فبعض الممارسات السياسية الفجّة قد تجر الأطراف المتناحرة للتوحد فيما بينها على موقف العداء لنا، وقد ينفر الأصدقاء لمجرد مقارنتهم بالأعداء وخاصة عندما يكون العدو استثنائياً في عدائه، فالعدو الاستثنائي الذي يرتكب الجرائم المركبة لا يمكن مقارنته بعدو تقليدي أحياناً فكيف نقارنه بالصديق حتى لو كان مقصّراً، فأسوأ موقف من الأصدقاء لا يقارن بأفضل موقف للأعداء في القضية السورية.
فالأعداء واضحون لا يخفون أنفسهم, وهم حاضرون في المشهد الملحمي والعسكري والسياسي والإعلامي والاستخباراتي, والمقصود هنا ايران وروسيا وحلفاؤهما. وهؤلاء وحدهم كافون أن يملأوا الدنيا إجراما وإرهابا, فما الداعي لاستدعاء أعداء آخرين بحجة أو بأخرى؟ فسوريا لا تتسع ولا تقوى على مقارعة كل أعداء التاريخ والجغرافيا والإيديولوجيا وهذا أصلا ليس من الحكمة ولا من السداد.
إن السياسة الرشيدة لا تتعامل كثيراً مع النوايا والفرضيات بل تتعامل مع ما يحضر من مواقف وما يظهر من تصريحات، ولا داعي لتكلّف الاستنتاجات الفلسفية والتذاكي بتصوير الأمر على صورة عالم كامل يحارب الشعب السوري واللجوء إلى تقسيم العالم إلى عدوين عدو فوق الطاولة وعدو تحتها من قبيل «الفهلوية السياسية».
لو تعاملت النخب الثورية بمفهوم الصداقة بهذه الطريقة لراينا دائرة الاصدقاء أكبر بكثير من دائرة الأعداء ولظهر النظام معزولاً سياسياً وليس الشعب السوري هو المعزول، ففي السياسة الناضجة يمكننا أن نتفهم أعذار الأصدقاء حين يقصرون لكن لا يوجد عذر واحد للأعداء حين يجرمون.
إن التعاطي الخاطئ مع مفهوم الصداقة السياسية جعل كثيراً من النخب تؤمن بضرورة الحوار مع أعداء الشعب السوري الذين يقتلونهم بل والقبول بهم كوسطاء للسلام، إن التعاطي الخاطئ مع مفهوم الصداقة السياسية جعل كثيراً من النخب يتركون الباب مفتوحاً لتعود سوريا للحضن الايراني والروسي، وهؤلاء أصلاً لديهم شوق المولعين ولوعة العاشقين للعودة إلى حلفاء الماضي المتخلفين.
لقد قصرت النخب الثورية في رفع الصوت عالياً في تسمية الأعداء وتحديدهم ولو فعلوا ذلك لقطعوا أكثر من نصف المسافة السياسية، فمن شأن ذلك الإعلان جلب مزيد من الأصدقاء ومزيد من الدعم والعطاء، وفي المقابل كان من المفيد جداً إشعال التنافس بين الأصدقاء لتثبيت الصداقة وتحريك السباق لدعمنا، حيث كان بالمقابل يجب أن نرتفع الصوت عاليا في شكر أي دعم لاستفزاز الاخرين لتقديم المزيد.
في واقع الصداقة يجب النظر إلى ما يقدمه الأصدقاء من دعم لنا, وما يقدمونه من إزعاج وإقلاق لعدونا, ثم نرحب بذلك كله, وفي واقع العداوة يجب النظر إلى ما يقدمه الأعداء من دعم للنظام, وعدوان على الثورة ثم نندد به.
قد نخفق في جعل الأعداء أصدقاءً أو محايدين، لأن أعداءنا مجرمون حقيقيون، ولا يحتسب ذلك علينا فشلاً، لكن حين نجعل الأصدقاء أعداءً بسوء تعاطينا السياسي فتلك كارثة في مستوى الوعي تنعكس كعقبات في طريق الكفاح من أجل التحرير. فالسياسي الحاذق هو الماهر في صناعة الأصدقاء إن غابوا وفي ترميمهم إن وجدوا.
لا شك أن للموروث الثقافي الدور الأكبر في الخلط الحاصل بمفهوم الصداقة والعداء، حيث يستحضر الكثيرون أعداء سوّقهم النظام كأعداء حقيقيين ظلماً وعدواناً، لكثرة ما كان يشيع عنهم الشائنات حتى نجح في شيطنتهم في الذهنية الجمعية للسوريين، وقد انتقل ذلك وراثة في مرحلة الثورة، وانتقل بسبب وجود نخبة مؤدلجة عودتنا أن تكون منسجمة في معظم توجهاتها مع مزاج الأعداء وقد أكملت المهمة التي بدأها النظام بدقة وإتقان.
بهذا الفهم للصداقة السياسية يمكننا أن نستثمر في معسكر الأصدقاء دون التفكير بالانفتاح على الأعداء. وبالعمل على تطوير العلاقات بيننا وبين معسكر الأصدقاء لكن الكثيرين للأسف لا زالوا يرون التعاطي مع الأصدقاء خيانة وعمالة.
الصداقة بالمفهوم السياسي
الصداقة بالمفهوم السياسي
الصداقة بالمفهوم السياسي
الصداقة بالمفهوم السياسي
الصداقة بالمفهوم السياسي
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!