الوضع المظلم
الأحد ١٩ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
  • الشاب السوري لا يتزوج.. ماذا عن الفردية والمدنية؟

الشاب السوري لا يتزوج.. ماذا عن الفردية والمدنية؟
جمال الشوفي

كان جيلنا يتزوّج على "الطرّاحة"، كما هو دارج بالمعنى العام لزواج تعوزه قلة الموارد. لم تكن هناك صالات أفراح بل مضافة الدار في القرية، سطح البيت في المدينة. لم يكن هناك الستريو، ولا الدي جي، بل كانت أغاني التراث وعزف الناي والطبلة. لم نكن متخلفين، ولا قرويين، بل مدنيون نؤمن بالحب والحرية، بالثقافة والفكر العصري، ولكن نتزوج.

جيلنا عرف الحب والعلاقات بين جيل الشباب، وغالباً خرج عن العادات التقليدية المألوفة في ذلك، ولكن أراد أيضاً أن تكون له أسرة وأطفال وفرح وحياة. فما الذي تغير اليوم حتى يرفض أكثر من 60% من جيل الشباب السوري الزواج؟

يبدو أن معيقات الشباب السوري اليوم وتحدياته أكبر من معطيات الواقع، وهذا حق بداية، حتى لا نعتبر أن مقارنة اليوم بالأمس ظلم آخر لهم. فقد ظلمتهم وأحلامهم أجيال السياسة والحكم الجزافي على سوريا بالموت بكل طرق الحرب ومكر السياسة. والثمن الباهظ دفعه جيل الشباب، سواء من بدأ ثورتها فمات أو اعتقل أو تشرد وبات لاجئاً، أو من نما ووعى في ظلها ويغالب كل معيقات الواقع الاقتصادي والسياسي المتردي لما دون الدرك الأسفل، ولأدنى مستويات الانعدام الأخلاقي وسواد نزعات القوة والهيمنة والبطش والتضييق على سبل الحياة، فإما أن يتحول جيل عريض من المهربين وأصحاب السوابق، أو فليهاجروا إلى بلاد العالم، كبغداد والإمارات وأربيل ومصر، بلا ضمانات عمل أو استقرار أو بصيص نور للمستقبل.

عزوف جيل الشباب عن الزواج اليوم لأسباب عدة أهمها وأولها:

العوز المادي: فأي عرس تبلغ كلفته بين 17 لـ 20 مليون، من حيث حجز الصالة وتكاليف ليلة العرس فقط، حسب استطلاعات واقعية، هذا عدا عن أن تكلفة خواتم الزواج فقط بوزن 5 غرام من الذهب لا تقل عن المليون، فغرام الذهب بـ 228 ألف. هذا عدا عن التجهيزات الأساسية لتأسيس أي بيت من أثاث وغيره.... عدا عن التفكير بمصروف الأسرة بعد الزواج الذي لا يقل عن المليون شهرياً، "فمن أين سنجلب هذا؟" يتساءل العديد من الشباب والحسرة تملأ قلوبهم.

فيما يبرز السبب الثاني والذي لا يقلّ أهمية عن الأول هو المسؤولية، فالفرد في الواقع السوري اليوم لا يمكنه أن يأمن يومه كيف سينقضي، ماذا سيأكل، وكيف سيحصل على عمل للإنتاج؟ وهل يأمن على نفسه من ملاحقات الجيش وشعب التجنيد والقوى الأمنية؟ فكيف يمكنه أن يكون مسؤولاً عن طرف آخر، عن أسرة وطفل، عن تأمين حليب الأطفال، عن إمكانية غيابه الطويل عن بيته عملاً أو سفراً أو اعتقالاً أو الزاماً بخدمة إلزامية تذهب به ولا تعود؟ "فدعني بحالي أحمل مسؤولية ما يجري لي منفرداً دون أن أحملها لشخص آخر غيري".

فيما يبرز السبب الثالث بعيداً عن السببين الأول والثاني، وهو ثقافة التحرر المدني ومحاكاة النموذج الأوروبي في الحياة الفردية ضمن بيئة المجتمع المدني. والمجتمع المدني ذاك يضمن القوانين والدساتير التي تصون هذه الحرية، ويضمن الجوانب المادية عملاً وعلماً وفرص إبداع وسبل حياة بلا عازة، والأهم من هذا كله أن هناك إجماع مجتمعي عام، سواء كان مدنياً أو دينياً أو أهلياً (في الأسرة وبيئتها)، ورسمي أيضاً، على ثقافة الحرية الفردية وضرورة صونها بما فيها الحرية الجنسية والعاطفية. بينما لم يتحقق بعد في سوريا ودول الشرق، أي من مقومات هذه. فيما يتحدّى الشباب السوري كل هذه المعيقات ويصرّ على فرديته ومحاكاة التجربة الأوروبية، ما جعل غالبية الشباب السوري جلّ طموحه الهرب من سوريا والحلم بالحياة الأوروبية. والحق يقال إن هذا حلم وحق، وقول غالبيتهم "إن الوطن هو من يصون كرامتك وحريتك قول حق"، لكن ألا يمكن محاكاة هذه الأحلام بطريقة مختلفة؟ وهل كان البحث عن التغيير العام في سوريا أن تكون نتيجته هذه الهجرة أو الطموح بها، وإن لم يحدث فالبحث عن حياة مدنية لم تؤسس لها أية قوانين مجتمعية أو رسمية بعد تحميها! ما يحيلها إلى جملة من اللامبالاة واللامسؤولية تعززها الأسباب الاقتصادية أعلاه.

مؤشرات الانهدام والهدر الوطني السوري وإن بدت سياسية عامة، لكن في جذرها تبرز مؤشرات اجتماعية متنوعة، سواء بازدياد حالات خلع الأزواج في دول اللجوء، أو تزايد نسب الطلاق وزواج القاصرات في الداخل السوري، ويضاف عليها عزوف الشباب عن الزواج. فبين انكماش المجتمع المحلي بمحاولته الحفاظ على قيم الأسرة وبيئتها الحاضنة للنمو والتماسك، وبين أفكار المدنية الفردية غير المحتضنة مجتمعياً، تضيع فكرتا المسؤولية والجمع بين قيمتي الحب والإصرار على الحياة والاستمرار المادية. وهنا تبرز معضلة لا يمكن حلّها بهذه الطريقة من الإنكار وإدارة الظهر.

لقد حمّل جيلنا الشباب السوري تركة واسعة من الهدر الوطني، سواء أردنا خيراً لهذا البلد أو أراد أصحاب السياسة والهيمنة دماره، لكن على جيل الشباب ألا يحملوا تركة نتائجه السلبية بالإصرار على الهروب المفرط بالفردية. لكن يمكن لأي شابين اليوم إذا ما تحلا بالحب والمسؤولية والرغبة بالحياة والاستمرار واكتشاف معنى الأمان والحميمية التي يفتقدها في المجتمع، الاستغناء عن الكثير من تكاليف الزواج المسمى "عصري"، من حجز صالة أو فستان عرس وغيرها، والعودة لطرق الزواج المسماة "قروية"، أجل يمكن الزواج بالساحات ودون صالة، وعزيمة أصدقائه لليلة بهجة وفرح تبث فيهم معنى الحياة مرة أخرى. ويمكن مواجهة تحديات الواقع المادي بالتعاون، والتخلي عن فكرة الوصاية على الأنثى بالمسؤولية عنها، وهذه فكرة مدنية يعارضها الشاب بذاته حين يتحدث عن مسؤوليات الأسرة وهو يطلب الحياة الفردية المدنية. ويمكنهم أيضاً الجمع بين فكر المدنية المتحرر وقيمة الحب والاحتضان والحنان، وهاتان ليستا متعارضتين بل أساس وجذر المدنية الأوروبية، تلك التي فتحت المجال الواسع لحرية الاختيار لكلا الطرفين، الشاب والفتاة، والاختيار بالنسبة لهم حباً بعد صداقة ومصلحة أسرة ومجتمع عام، وليست لأجل المصلحة الفردية وحسب.

لا يمكن للطبيب أن يصف العلاج لمريض وأن يقول "إما أن تأخذه أو تموت"، بل إن النسبة الأعلى في العلاج هي تلك المحفزات النفسية المساعدة للدواء المادي، فلا يمكن لجيل الشباب السوري أن يضع كل المعيقات المادية ولا يرقب بوعي ومسؤولية وحب وحرية محفزات الحياة، ودوره المنوط به باستكمال عصر التغيرات الكبرى وإن كان المسار شاقاً وطويلاً.

ربما يجوز لنا القول عليهم خوض تجربة لم يفكروا بما تكتنزه من أمان واستقرار وإنتاج وازدهار، وهذا وعي مدني عام يمكن أن يشكل محفزات كبيرة للمجتمع الأهلي بتذليل صعوبات الزواج المادية وتقربه من فكر المجتمع المدني والعودة للثقة بشبابه حين يراه مسؤولاً وذا وعي وقيمة وقدرة على الحياة.
 

ليفانت – جمال الشوفي

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!