الوضع المظلم
الثلاثاء ٢١ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
السوريون و لعنة الباصات
السوريون و لعنة الباصات

ريما فليحان


في كل بلاد الدنيا تعرف الباصات كوسيلة نقل مريحة يستقلها المواطنون يوميا للتنقل لانها توفر الراحة والأمان و بأسعار اقتصادية ، للحظة لا شيء جديد في ذلك، لأنه المفهوم العالمي لوسائل النقل عموماً، لكن القصة في سوريا مختلفة تماماً فهي ترتبط بذاكرة مرَة كانت الباصات فيها وسيلة لقهر السوريين و قمعهم واذلالهم ، خاصة بعيد انطلاق الانتفاضة الشعبية في شهر آذار من عام 2011 حيث بدأ استخدام باصات النقل الداخلي الخضراء " التابعه للحكومة" في العاصمة دمشق لنقل الشبيحة وعناصر النظام محملين بالعصي والهروات والأسلحة البيضاء الى أماكن انطلاق المظاهرات، حيث يترجل الركاب عند منطقة المظاهرات وتكون مهمتهم الوحيدة في ذلك الحين الانقضاض على المتظاهرين وضربهم" شاهدت هذا بام عيني عدداَ من المرات"..


في الذاكرة أيضاً صورة بشعه لهذه الباصات تعود بي الى أوائل التسعينات ، أذكر كيف كنت أضطر لاستقلال نفس الباصات للتوجه الى كلية الاداب في جامعه دمشق ( قبل وصول خدمة الفانات الصغيرة البيضاء الى الشوارع) وأذكر كيف كنت أشعر بالقرف الذي أوصلني عدة مرات للمشي من باب مصلى حيث كنت أقيم الى الجامعه في المزة كي لا أستقل تلك الباصات، والسبب انها كانت لا تراعي الشروط الطبيعية لامتلاء الباص، بحيث يتلاصق الركاب "بما يرافق ذلك من مواقف بشعه" ويختنقون من نقص الأوكسجين، و سائق الباص لا يتوقف عن اقلال مزيد من الركاب حتى يصبح الباب عصياً عن الاغلاق , في مشهد يمثل بشكل كبير انعدام قيمة الانسان وكرامته في بلده ، من الجدير ذكره مرة اخرى هنا أن هذه الباصات تابعه للحكومة ..


نعود الى قصتنا مع الباصات بعد انطلاق الثورة ، الباصات تلك أقلت الشبيحة في المرحلة الأولى لضرب المتظاهرين ، ثم عناصر الأمن المدججين بالسلاح ، ثم دخلت مرحلة جديدة كانت الأبشع لأنها تحولت أيضا الى وسيلة ترحيل وتهجير أهالي المناطق الخاضعة للتسويات بين النظام والفصائل في ريف دمشق وحمص وغيرها الى شمال البلاد في ادلب ، حيث أصبحت الباصات رمزاً أليما للتهجير واقتلاع السوريين من مناطقهم. أما المشهد الأكثر سريالية والمرتبط بالباصات في سوريا فهو يعود للباصات التي نقل بها النظام عناصر داعش المجرمة الى ريف السويداء، ليقوموا بعد ذلك باقتراف مجزرتهم القذرة في السويداء والتي وقع ضحية لها المئات بين قتيل وجريح..


تمتد قصة الذل مع الباصات لخارج البلاد، هناك في شمال سوريا وجنوب تركيا تحديداً حيث تم ترحيل مئات من اللاجئين السوريين ومعظمهم نساء و أطفال من تركيا الى سوريا في باصات تعتليها صورة أردوغان وقد كتب عليها " شكرا" في مشهد يمعن في القهر حيث تمتزج صور النساء والاطفال يتقاسمن البكاء مع كلمة شكراً على تلك الباصات في مفارقة غير مفهومة لي على الأقل..


وللحقيقة ، لا أظن أن مشكلتنا حقيقة مع الباصات، ولا أنها لعنة ترتبط بالسوريين وتلحق بهم حتى الى بلاد الجوار، اللعنة الحقيقية التي تحيط بنا هي سلوك ممنهج مورس بحقنا أدى لانعدام قيمتنا كبشر ضمن بلدنا، حيث كرس النظام سلوكيات تمعن في اذلال السوريين في كل مفصل من مفاصل حياتهم بما فيها على سبيل المثال لا الحصر: وسائل النقل ، طابور الحصول على الرغيف أمام الأفران "حيث يمكن لعنصر مخابرات ان يرمي الجميع جانبا ويصل الى الكوة ويحصل على ما يريد مع ارتعاد الفران وكل من حضر"، في طوابير انتظار ختم دفتر العائلة في الثمانينات للحصول على علبة مناديل وعلبة من السمن !، في طابور التسجيل في الجامعات الذي قد يمتد لساعات طويلة تنهي يومك بلا أي محصلة حيث يطلب منك العودة في اليوم التالي على وقع كلمة " سكرنا اليوم" حتى وان كنت تسافر من محافظة لمحافظة للتسجيل، في طوابيرالمعاملات الحكومية والاضطرار لدفع الرشى لتيسبر احتياجات الناس ومطالبهم القانونية ، في قمع الحريات وهمسنا المنبعث من خوفنا داخل منازلنا تحت هاجس " الحيطان لها ودان"، في الاذلال الذي كنا نتعرض له من قبل موظفين في كل القطاعات بما فيها الصحة والتعليم والقضاء من أصحاب النفوذ أو المرتبطين بشخصيات نافذة كضباط ومسؤولين ، عناصر شرطة وأمن ومسؤولين، بل حتى قضاة "وانت تراجع بصفة الادعاء"، تم اذلالنا حتى في القانون ذاته حيث ميز بيننا كبشر نساء ورجال، كما فعل أيضاُ القائمون عليه في آليات التطبيق ، تم اذلالنا حين أرغمت الناس على الخروج بمسيرات والمبايعة في الانتخابات تحت اشراف مباشر من عناصر الأمن والشرطة وبورقة مفتوحة دون غرف تصويت سرية ، تم اذلالنا أيضا حين قفزت بعض شخصيات المعارضة لتجد الاعذار لمن رحل اللاجئين، ممن ألحقت " بالضحايا" صفة قلة الادب والضيف الغليظ، وحين أصر آخرون على سياسة تمسيح الجوخ على حساب الناس وحقوقهم من أبناء جلدتهم..بل حين فوض بعضهم أمرهم لدول معينة لتقررعنهم مصير بلدهم..


تم إذلالنا وقهرنا عن سبق الاصرار والترصد ولا ذنب للباصات حقيقة في قهرنا ، و لايمكن لهذا القهر أن يزول حتى تنتصر المواطنة وننتصر للموطنة وحقوق الإنسان، وحتى نصل ببلادنا الى العصرنه والديمواقراطية وقوانين توافق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان ، حين تصبح الحكومات واالبرلمان والرئيس منتخباً بشكل حقيقي ضمن آليات شفافة عادلة، و نظام قائم على مبدأ فصل السلطات و تحت رقابة دستورية و نظم محاسبة، تدعمها مساحة من حرية التعبير للجميع، حينها يمكن للسوررين أن ينهضوا بمدنيتهم وبلدهم الى مرحلة البناء والتحرر بل حتى يمكن حينها الحديث عن الرفاهية تخيلوا!!


السوريون و لعنة الباصات السوريون و لعنة الباصات

العلامات

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!