-
السائرون على دروبِ الفقر.. المليئةُ جيوبهم بسكاكرِ القهر
أشار تقريرٌ للأممِ المتحدة يهتم برصدِ الآثارِ الكارثية للصراعِ المسلّحِ في سوريا، إلى أنَّ أكثر من ثلثي سكان البلاد قد فرّوا إلى الدولِ المجاورة، وإلى أنّ أكثر من نصفهم يعيشُ في حالةِ فقرٍ مدقع، ويدرسُ التقريرُ الآثارَ الاقتصاديةَ للأزمةِ الخانقة
ليؤكدَ أنَّ قرابةَ نصف القوى العاملة عاطلةٌ عن العمل، وقُدّرت خسائرُ القطاعِ الاقتصادي بأكثر من (530) مليار دولار أمريكي منذ آذار 2011، كما تناولَ التقريرُ تأثيرَ الأزمةِ السورية على عرقلةِ التنميةِ البشرية، ليسجّلَ توقّفَ نصف إجمالي عددِ الأطفال ممن هم في سنّ الدراسةِ عن الذهابِ إلى المدرسةِ، كما تمَّ إغلاقُ العديدِ من المدارس نتيجةً للعنفِ وعدمِ الاستقرار.
وأوردَ التقريرُ أنَّ النظامَ الصحي على وشكِ الانهيار، فأربعون في المائة من المستشفياتِ العامة خارج الخدمة، ونحو ستين في المائة منها قد تعرّضَ للتلف، بينما يرى عددٌ من الخبراء الاقتصاديين أنّ الاقتصادَ السوريّ بشكلهِ الحالي غيرُ قادرٍ على سدادِ تكلفةِ الحروبِ المشتعلةِ في شمال شرق سوريا وإدلب، بينما حلفاءُ النظام يموّلون هذه الحرب مقابل السيطرة على المواردِ السورية، وأهمها النفط والغاز، تحديداً مخزون الغاز الخاصّ بسوريا في البحرِ الأبيض المتوسط، حيث يحصلون مع كلّ يومٍ جديدٍ على شيء من مقدراتِ البلادِ مقابل مواصلةِ الدعمِ العسكري، ما يعني تكبيل الاقتصادِ السوري باتفاقياتٍ جائرة حتّى عقودٍ طويلةٍ قادمة.
وبذهابِ خيراتِ البلادِ بمعظمها للخارج، يمكن القول إنّ النظامَ السوري سيكون مجبراً على التنسيقِ في قضايا مبدئيةٍ مع قوّتي الحمايةِ الرئيسيتين، روسيا وإيران، لاسيما وأنّ كليهما مهتمٌ بوضعِ حدّ لأعمالِ العنفِ بسببِ التكاليفِ العاليةِ لتدخلهما، ومن هذا المنطلق تبذلُ روسيا الجهودَ من أجلِ طلبِ مساعدةِ أوروبا في إعادةِ إعمارِ البلاد، في المقابل تقفُ الأخيرةُ أمام تحدّي مقاومةِ التطبيعِ مع النظامِ السوري رغم إمكانياتِ التأثيرِ الضعيفةِ المتاحةِ للأوروبيين، فعوضَ تمويلِ برنامجِ إعادةِ إعمارٍ من شأنه تقويةِ هياكل الدكتاتوريةِ والفساد، تعمل أوروبا على توثيقِ خروقاتِ حقوقِ الإنسان في سوريا، وملاحقتها عن طريقِ الجنائيةِ الدولية، والحفاظِ على المساعدةِ الإنسانيةِ لدولِ الجوارِ السوريّ، والعملِ المكثّفِ من أجلِ سياسةِ لجوءٍ واندماجٍ مفتوحة، وبالنظر إلى اللاجئين بالتحديد لا يحقّ لها أن تتراجعَ في بذلِ الجهود، لأنّه لا يمكن استبعادُ أنّه من خلالِ استمرارِ الدكتاتوريةِ في سوريا أن يهربَ عددٌ أكبر من الناس.
والحياةُ المعيشيةُ داخل سوريا تتفاقم سوءاً يوماً بعد يوم، وزادها استفحالاً طمعُ التجارِ الكبار وممن تلوثوا بالفسادِ في أجهزة الدولة من السماسرةِ والمتنفّذين وتجارِ الأزمات، بينما الدعم الذي كان يُقدّم من قبل إيران والعراق ومصارف لبنان، توقّف بسببِ الحصارِ الأمريكي لإيران، والمظاهراتِ الشعبيةِ الجارية في كلٍّ من لبنان والعراق، كما أنّ منطقةَ شرقي الفرات التي كانت تمدُّ سوريا بحوالي سبعين بالمائة من اقتصادها قد أصبحتْ خارجَ سيطرةِ الدولة، من ناحيةٍ أخرى أدّتِ الحربُ إلى هجرةِ رؤوسِ الأموالِ واستثمارها في دولٍ أخرى بغية المحافظةِ على ثرواتِ أصحابها، كما ساهمَ سوءُ المراقبةِ الإداريةِ للمواضيع الاقتصادية التي تشكّل عصبَ الحياةِ اليومية، في انفلاتِ الوضعِ الاقتصادي من المساءلةِ المطلوبة، كلّ هذا أدى إلى انخفاضٍ كبيرٍ في قيمةِ الليرةِ السورية أمام العملاتِ الأجنبية، ما أثّر بشكلٍ مأساويّ على العاملين والموظفين في الدولة، وبات من المستحيل على الراتبِ، الذي لا يتجاوز خمسين دولاراً في أحسن الأحوال، أن يُعينَ أصحابَ الدّخلِ المحدود.
وفي ظلّ هذا الوضع الكارثي لبلادٍ مفككةٍ تشهدُ اليوم أصعب وأشهر مأساةٍ في العالم، تعودُ الحالةُ الانفصاميةُ للمنظومةِ الحاكمةِ في دمشق، بعدما أقيمَ مؤتمرٌ دولي يبحثُ قضيةَ عودةِ اللاجئين السوريين بمشاركةِ روسيا وممثلين عن بعضِ الدول الحليفة، مثل فنزويلا وإيران والصين، إضافة إلى ستّ دولٍ عربية، هي لبنان والصومال وفلسطين والعراق وموريتانيا وعُمان، بينما يقاطعه الاتحادُ الأوروبي، وتحضره الأممُ المتحدة بصفةِ مراقب، من جهتها أعلنتْ كندا أنّها تدعمُ عودةَ اللاجئين الآمنة والطوعية والكريمة، لكنّ شروطَ مثل هذه العودة غير موجودة.
وفي كلمةِ الافتتاح اتّهمَ الرئيسُ السوري الأنظمةَ الغربيةَ بقيادةِ النظامِ الأمريكي والدولِ التابعة له، وتحديداً تركيا، بـخلقِ ظروفٍ مفتعلةٍ لدفعِ السوريين للخروجِ الجماعي، وبعد ذلك استغلالهم وتحويلِ قضيتهم الإنسانيةِ إلى ورقةٍ سياسيةٍ للمساومة، مؤكداً في الوقت ذاته أنّ خطواتِ تسهيلِ عودةِ اللاجئين ستكونُ أسرع كلما ازدادتِ الإمكانيات، وازديادها مرتبطٌ بتراجعِ العقباتِ المتمثلةِ بالحصارِ الاقتصادي، والعقوباتِ التي تحرمُ الدولة من أبسطِ الوسائل الضرورية لإعادةِ الإعمار، وتسعى روسيا منذ سنواتٍ للحصولِ على دعمِ المجتمع الدولي، من أجل إطلاقِ مرحلةِ إعادةِ الإعمار وعودةِ اللاجئين، حيث يؤكدُ الرئيسُ الروسي، أنّه نتيجة الجهودِ المشتركة مع إيران، تمَّ تدميرُ بؤرة الإرهابِ في سوريا، ورأى أنّه مع عودةِ السلامِ والهدوء لغالبيةِ الأراضي السورية، هناك احتمالٌ جيدٌ لضمانِ عودةِ أعدادٍ كبيرةٍ من اللاجئين، بدوره، أصرَّ كبيرُ مساعدِيّ وزير الخارجية الإيرانية (علي أصغر خاجي)، على ضرورةِ قيامِ المجتمعِ الدولي بعملٍ جادّ، والمساعدةِ في عودةِ اللاجئين السوريين من خلال تقديمِ المساعداتِ والتعاونِ في عمليةِ إعادةِ الإعمار، فيما تربطُ الجهاتُ المانحةُ تقديمَ أيّ مساعداتٍ بالتوصلِ إلى تسويةٍ سياسيةٍ للنزاعِ المسلّح.
وفي سياقٍ موازٍ أكّدَ (جوزيب بوريل)، وزيرُ خارجية التكتلِ الأوروبي، على أنّ الشروطَ الحاليةَ في سوريا لا تشجعُ على الترويجِ لعودةٍ طوعيةٍ على نطاقٍ واسع إلاّ ضمن ظروفٍ أمنيةٍ، وكرامةٍ تتماشى مع القانونِ الدولي، واستدلّ بوريل بعملياتِ العودةِ المحدودة، التي سُجلتْ خلال الفترةِ الماضية، كدليلٍ يعكسُ العقباتِ الجمّة والتهديداتِ أمام عودةِ اللاجئين والنازحين، وبينها التجنيد الإجباري والاعتقال العشوائي والاختفاء القسري، وتتطابقُ الرؤيةُ الأوروبيةُ الرسميةُ مع مواقفَ منظماتٍ حقوقيةٍ بارزة، تحذّر من أن توقّف المعارك في مناطقَ عدّة، لا يعني أنّ سوريا باتتْ مهيأةً لعودةِ اللاجئين في ظلّ افتقارها للبنى التحتيةِ والخدمية، والانتهاكاتِ الحقوقيةِ الصارخة التي تشهدها البلاد، والحملةُ المضادّة لدعوةِ السوريين للعودةِ إلى بلدهم منبثقةٌ مما عانوه من فقدانٍ مريرٍ لأحبتهم وتهجيرٍ مهينٍ وظروفٍ صعبة، هم الذين باتوا يؤمنون، ولفرطِ ما توجعوا وأكلتْ من جلودهم سياط الفقرِ والقهر، بالحكمةِ المأثورة: الفقرُ في الأوطانِ غربةٌ، والمالُ في الغربةِ أوطانُ.
وعلى الرغم من استعادةِ النظامِ أكثرَ من سبعين في المائة من مساحةِ الأراضي السورية، إلاّ أنّ البلادَ اليوم تشهدُ أسوأ أزماتها الاقتصاديةِ والمعيشيةِ التي تترافقُ مع انهيارٍ قياسي في قيمةِ العملةِ الوطنية، وتآكلِ القدرة الشرائيّة للسوريين حتّى باتَ الجزءُ الأكبر منهم تحتَ خطّ الفقر، لدرجةٍ يُخيّل للعالمِ أنّ السوريين داخل بلادهم لاجئون أيضاً، لاجئون من قوى الشرّ المتمثلةِ في التجويعِ والترويعِ والقهرِ والذلّ والبؤس، فليس هناك شخصٌ محميّ من الملاحقةِ أو القتلِ أو الاختطاف، هم الصابرون على موتهم اليوميّ في انتظار عودةٍ آمنةٍ لوطنٍ يحقّق لهم الأمانَ والعيشَ الكريم، فالفقرُ ليس قلَّةَ مالٍ وحسب إنَّما خوفٌ مستمرٌ من كلِّ شيء، وحالُ السوريين اليوم يشابه إلى حدّ كبيرٍ تنبؤ الشاعر الجاهليّ العظيم (امرؤ القيس) الذي قال:
وما يدري الفقيرُ متى غِناهُ … وما يدري الغنيُّ متى يموتُ
وما تدري إذا يمّمْتَ أرضاً … بأيّ الأرضِ يدرككَ المبيت
ليفانت – عبير نصر
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!