-
الدولة والعقد الاجتماعي والهوية
الحقيقة أنّنا دوماً ما نجد أنفسنا في مناقشة القضية السورية أمام إشكاليات عديدة. هذه الإشكاليات يجب أن نعيد وضعها دوماً في سياقها التاريخي المعاصر، من أجل إنتاج مفاهيمنا السورية عن أشكال اجتماعنا المعاصرة والمستقبلية.
في هذه الفترة، ونتيجة للوضع الاحتلالي الدولي والأسدي لسورية من أجل هزيمة ثورتها، من أجل مقتلة تم العمل عليها بعناية، نتيجة لهزيمة الثورة وحالة السوري داخل سوريا وفي بلدان اللجوء ومخيمات النزوح واللجوء، داخل المعتقلات الأسدية. كما قال أحد الأصدقاء إنّ من تجوز عليه الرحمة ليس فقط السوري الميت بل السوري الحي أيضاً. انسداد الأفق أمام السوري، بعدما باع الأسد البلد، وبوجود أعتى الجيوش في العالم والمنطقة، محتلة لبلدنا لأنّها أرادت احتلال ثورتنا.
بدأت محاولات جادة من قبل سوريين في طرح مفهوم الهوية السورية، أو ما أسموه هوية وطنية، أو هوية عربية أو هوية إسلامية. سأنطلق في مناقشة هذه الثلاثية أولاً بالقول إنّ طرح مفهوم الوطنية أو الهوية الوطنية، هو تعبير عن هوية سياسية لا علاقة لها بقيام الدولة. إنّ الوطنية مشتقة من وطن. إنّ المواطن يدافع عن وطنه، لكن هل كل من يدافع عن وطنه هو وطني من منظار الطرح الهوياتي هذا؟ إنّ طرح مفهوم الوطنية في سوريا أو حتى في دول كثيرة مما يسمى العالم الثالث، أتى بديلاً عما عرف بالدولة القومية، هذا ما أنتج في عصر القوميات في أوروبا، نهاية القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر. هذا التعبير يدل على أنّ هنالك قوميات لم يكن لها دولة واحدة. ثم تم قيام دول عديدة على توحيد القومية في دولة (الوحدة الإيطالية، الاتحاد الألماني).
لهذا الوطنية كمفهوم أتى بديلاً للقومية نظراً لغياب مفهوم الدولة الأمة. من جهة أخرى هذه الوطنية هل تناقش بدلالة الداخل أم بدلالة الخارج الاستعماري أم الاحتلالي أم المتعدي على سيادة هذه الدول الناشئة، وفقاً لإرادة خارجية استعمارية (سايكس- بيكو) لسوريا، الأردن، فلسطين، ولبنان، أم بدلالة الداخل، حيث السلطة السياسية ابتلعت الدولة مادياً ورمزياً جرّاء شرعيتها الخارجية، حيث لا مكان في سلوك السلطات هذه لمفردة مواطن. بكل ما تعنيه وفقاً للمعطى التاريخي الغربي أو في الدولة الغربية. مواطن لا تعني وطني. الوطني هو من يحول الوطن إلى أيديولوجيا. غالبية الأحزاب الفاشية في أوروبا حتى اللحظة تنتحل صفة الوطنية.
العقد الاجتماعي هو بين بشر مختلفي التوجهات والانتماءات والمصالح والأهواء أيضاً. إذاً العقد الاجتماعي هو الانتقال من رابط الدم ورابط الدين إلى رابط المدينة. رابط المدينة هو العقد الاجتماعي أو المدينة هي من أسّست لهذا العقد. حيث يعيش فيها أناس لا روابط دم أو دين بينهم، يحتاجون لصيغة تعايش لا تعتمد هذين الرابطين. المدينة بكل ما تعني هذه المفردة من معاني. لهذا نجد من يتحدّث عن ترييف المدينة السورية التي قام بها البعث ومن ثم الأسدية. هذا أيضاً انعكس على الدولة ذاتها. حيث تم أهلنتها كما يقول ياسين الحاج صالح. أعتقد أنّ المعنيين يستغرقان بعضهما. الترييف والأهلنة.
يقول ياسين: "تناول ديناميكيات الأهلنة غائب عن الكتابات الغربية التي تتكلم على حرب أهلية، بما فيها تلك التي كُتبت بعد الثورة السورية. الميل العام هنا هو افتراض أنّ الجماعات الأهلية هي فاعلون سياسيون موحدون دوماً وفي كل حال، وإنّها على استعداد دائم ومتساوٍ عبر الزمن للانقضاض على أعناق بعضها. وما يغيب بوجه خاص هو الحلقة الشريرة التي أُغلِقَت على السوريين، فالأهلنة ترجّح الأشكال الأهلية من الصراع إن لم تُحتِّمها، وتحكم على تجنّب الحرب الأهلية بالتعذر إن لم يقترن بنزع أهلنة الدولة على ما يظهر تاريخ «سوريا الأسد» من حربين خلال جيلين. أهلنة الدولة والمجتمع هي «البنية التحتية» للحرب الأهلية، فلا مجال لتجنب هذه دون تجاوز تلك، أو بمحاكاة خلاصة كلاوسفيتز الشهيرة: الحرب الأهلية في سوريا هي استمرار للدولة الأهلية بوسائل أخرى، أشد عنفاً وأكثر ظهوراً. "مادة ياسين عن العنف في موقع الجمهورية". حيث إنّ الأهلنة محصلتها أهلنة السلطة السياسية أسدياً. لهذا بحث آخر. هذه الأهلنة تستغرق -برأيي- تأهيل الطائفية كمكون أهلي، جعلها سيدة الدولة والسلطة معاً كأداة سيطرة قمعية أيضاً. تمنع تشكل عقد اجتماعي مواطني. بالتالي نستطيع القول أيضاً إنّ الوطنية تستحضر هنا كهوية متخيلة من أجل تجاوز هذه الأهلنة. من أجل تجاوز واقع أسدي بكل ما حمله لسورية من مقتلة.
إذا كانت الدولة المعنية سوريا لم تنشا بعقد اجتماعي بين مواطنيها، بل رسمت بمعاهدة من مستعمرين. العقد الاجتماعي هو من يجعل من الدولة سيدة مطلقة، تشبه الآلهة، كما عبر هيغل ذات مرة عن هذا المعنى. بدون العقد الاجتماعي لا يوجد دولة. لذا العقد الاجتماعي هو الذي يمنح الدولة السيادة. المساهمون في هذا العقد الاجتماعي هم من يمنحون إعطاء صلاحيات الدولة وسيادتها للسياسيين، من أجل إدارتها لصالح المساهمين في هذا العقد، حيث كل مساهم هو مواطن فرد له حقوق، تجعل منه السيادة القانونية هيئة اعتبارية، يستطيع مقاضاة من يشاء فيها بالحد الأدنى.
في ظل هذه اللوحة المختصرة، أين يقع مفهوم الوطنية مرة أخرى؟ هذا الأمر يحدونا للتعريف التقني للوطنية بوصفها مرادفاً للمواطنة. هو بطاقة التعريف وجواز السفر الذي تمنحه دولة المواطنة أو الدولة عموماً لأصحاب العقد الاجتماعي. لكن في واقع حالنا تمنح هذه البطاقة لأفراد هم رعايا في مزرعة الأسد، ليس لمواطنين مساهمين بعقد اجتماعي.
حاولت سوريا بعد الاستقلال، وربما خلال وجود المستعمر الفرنسي، أن تؤسس عقدها الاجتماعي في ظلّ حرية نسبية. إلا أنّ العسكر والتدخلات الخارجية قطعت هذا السياق. حيث جاء البعث وعسكره وصولاً للأسدية. العسكر الذي استند بشرعيته على رضى خارجي. من المعروف أنّه في الدولة المعاصرة عندما يستولي العسكر على الحكم فإنّ المجتمع أوالدولة تدخل حالة حرب خارجية أو داخلية، واقعية أو متخيلة، حرب فيها أعداء، إما داخليين أو خارجيين، عسكر الأسد أو أسد العسكر لا فرق من حيث التأسيس، لكن هنالك مسيرة بات العسكر في سوريا هم عسكر الأسد وليس عسكر البلد. عن أية هوية وطنية يمكننا الحديث هنا؟ يطرح الباحث حسام الدين درويش سؤالاً، هل يمكن النظر إلى الوطنية على أنّها سمة متعلقة بالدولة فقط، أو بالحالة الوجدانية للإنسان فقط، أم يمكن وينبغي القول بأنّها تشمل الامرين معاً؟
عندما نقول حالة وجدانية، فإنناً نتحدّث عما يمكننا تسميته "حس عملي" تراكم جرّاء الانتماء لهذه الدولة- الوطن. أو أنّنا نتحدّث عن الوجدانية بوصفها مشاعر تتعلق بمفهوم الوطن المرتبط بالأرض. أو بالأرض والعرض والدين عند الإسلاميين أو بالحق الكردي عند الكرد، حيث لا دولة لهم. هذا يحدو بنا العودة إلى ما قدمه الفيلسوف الفرنسي، غاستون باشلار، في كتابه "جماليات المكان". هي حالة ليست مرتبطة بالدولة المواطن، بل بالمكان الوطن، مكان الولادة، مكان الطفولة أو المراهقة، بكل ما يحمله هذا المكان من علاقات اجتماعية بالدرجة الأولى. إنّها أقرب لمفهوم الوطن الأم في الوجدان الفردي. بينما الوطني هو الذي يعتمد الانتماء لقومية أو لدولة، كأيديولوجية سياسية مع ما تتطلبه هذه الآيديولوجيا من خطاب وهوية. وكي لا نبقى ندور في حلقة مفرغة من التعريفات والمفاهيم التي ربما تجاوز الزمن بعضا منها، وطنية جملوكية الأسد هل يمكن مواجهتها بوطنية معارضة؟ من مصائب الزمن ربما عند بعضنا، أنّ إنتاج مفهوم للوطنية لدى المعارضة يمر عبر حقلين: الأول، حقل عقد اجتماعي جديد. الثاني، هو حقل المواطنة. أي مفهوم الهوية الوطنية بدلالة المواطنة. وليست بدلالة أية حرب داخلية أم خارجية.
من جهة أخرى، لنلاحظ أنّ هنالك معادلة فرضها الوضع الدولي والقوى المسيطرة. إنّ من يتعامل مع دولة أجنبية كي تساعده على التخلص من حكم ظالم يعتبر "خائناً وطنياً" عند بعضنا، بينما هو نفسه لا يعتبر نفسه "خائناً وطنياً"، وهنالك كثر في أي دولة لا يعتبرونه كذلك. المثقفون السوريون والكتاب والصحفيون وبعض المعارضة، أكثريتنا يعملون في مؤسسات تموّلها دول أخرى. هل هذا يمسّ "وطنيتنا" مثلاً أو يمسّ "الوطنية" المطروحة للنقاش الآن لدينا جميعاً؟ ما مدى استقلاليتنا عن هذه المؤسسات؟ انطلاقاً من مفهوم الوطنية والهوية الوطنية المطروح.
الدولة سيدة نفسها. لا سيد عليها سوى شعبها. شعبها لا يمكن أن يكون كتلة هوياتية واحدة. لهذا لا يمكننا منح الدولة أية صفة سياسية أو دينية أو طائفية. الدولة كمتعالية على المجتمع من جهة تأسيسية. هذا التعالي يجعلها سيادية محايدة على كل المساهمين في إنتاجها. تأسيسية الدولة كسيدة يجعلها محايدة تجاه مواطنيها. هذا الحياد تأكله سلطة ديكتاتورية أو ما يسمونه ابتلاع الدولة من قبل السلطة السياسية. حيث تتحوّل الدولة وسيادتها إلى اداة بيد هذه الديكتاتورية.
لصق مفهوم الوطنية بهذه الدولة الحيادية بالذات، هو توجيه سياسي، بغض النظر عن النوايا. حيث سرعان ما تتحول هذه الوطنية إلى معيار وحكم قيمة أيضاً للحكم على سلوك المواطنين. بالتالي هل يمكننا الحديث عن هوية سورية بديلاً لما يسمى الهوية الوطنية كهوية متخيلة؟
هذا يقودنا إلى البيان الأخير الذي أصدره المجلس الإسلامي السوري، الذي مقرّه إسطنبول. يتحدّث عن أنّ هوية سوريا هي عربية إسلامية. خلق هذا البيان نقاشات كثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، علماً أنّ الجميع يعرف أنّ سوريا لحظة استقلالها كان اسمها الدولة السورية، والإضافات الأخرى، مثل عربية، أتى بها العسكر، ناصريون وبعثيون، والإسلاميون يريدون إضافة إسلامية، علماً أنّ هنالك مكونات مجتمعية لا بأس بها غير عربية وغير إسلامية، غير إسلامية أيضاً بالمعنى المطروح من قبل المجلس الإسلامي. في الوقت الذي نقول فيه الدولة السورية إنّما نؤكد على ما يجمع السوريون، لهذا أعتقد أنّه بدلاً من مفهوم الهوية الوطنية نحتاج لمفهوم الهوية السورية، وفقاً لتاريخ التأسيس، ووفقاً لما وصلت إليه حال البلد، ليس بوصفها حالة قائمة بل بوصفها حالة متخلية، تشكل برنامجاً سياسياً وفكرياً يجري العمل وفقه. هل هذا ممكن أم هو مصادرة أيضاً، تماماً كحال مفهوم الوطنية؟ السورية هنا هي استكمال بناء الدولة الحيادية ذات السيادة. أزعم أنّه لا خلاف حول مفهوم السورية أو السوري في مثل هذه الحالة. لكن السؤال، من هو السوري من وجهة نظر الهوية الوطنية، ومن وجهة نظر الهوية العربية الإسلامية؟ أيضاً يقودنا هذا المسار نحو تأسيس عقد اجتماعي جديد، تحجزه السلطة الأسدية في سجونها ومجازرها وطائفيتها وتمنع قيامه. استنتاج أخير: ما هو مطروح حول الهوية الوطنية والعربية والإسلامية، وحتى ما أطرحه هنا هو عبارة عن سجال بين آراء سياسية.
الكردي لا يقلقه أبداً أن يقول عن نفسه إنّه سوري، لكن يقلقه أن يتم إجباره على القول إنّه عربي. كذلك الآشوري. أيضاً المسيحي يقلقه أن يجبر على القول إنّه ذو هوية إسلامية وهو ليس كذلك، لكنه يعتزّ بكونه سورياً، لأنّ سوريا أصلها كانت مسيحية نسبياً بالنسبة للخيال الجمعي المسيحي في سوريا.
في ختام هذه الأفكار أقول: الدولة الحيادية، العقد الاجتماعي، والمواطن، مفاهيم المطلوب سورنتها دستورياً وقانونياً. كيف تتسورن والبلد فيها المحتل الأسدي ومعه أربعة احتلالات كبرى؟
تعريفات:
1- كلمة سيادة Sovereignty مشتقة من الأصل اللاتيني Superanus، ومعناه الأعلى أي صاحب القول والفصل النهائي، وحين نقول إنّ الدولة صاحبة سيادة، فإننا نقصد بذلك أمرين على جانب كبير من الأهمية:
الأول: هو أنّ للدولة سلطة مطلقة في مواجهة رعاياها في الداخل.
الثاني: أي أنّ الدولة لا تخضع لسلطة أعلى منها في مجتمع الدول.
وكان المفكر الفرنسي جان بودان Jean Bodin هو أول من استخدم هذه الكلمة للدلالة على المعنى السياسي المتداول حتى وقتنا هذا. غير أنّه ربما يكون من المفيد هنا أن نميز بين السيادة بمعناها القانوني، وبين السيادة بمعناها السياسي. ويقصد بالسيادة بالمعنى القانوني، ذلك الشخص الذي يخوله القانون، أو الهيئة التي يخولها القانون سلطة ممارسة السيادة أي سلطة إصدار الأوامر النهائية التي لا معقب عليها ولا راد لها. أما المعنى السياسي للسيادة فنقصد به شرعية السلطة التي تمارس السيادة باسم الدولة ولحسابها. فالسيادة بالمعنى السياسي، هي للشعب الذي يختار بإرادته الحرة، من خلال صناديق الاقتراع حكامه الذين يمارسون السلطة، أي مظاهر السيادة، نيابة عنه. كذلك فقد يكون من المفيد هنا أيضاً أن نميز بين السيادة القانونية، وبين السيادة الفعلية. فالسيادة الفعلية تجسدها السلطة التي يخضع لها المواطنون ويطيعون أوامرها بالفعل، بصرف النظر عمّا إذا كانت هذه السلطة شرعية أم غير شرعية، أي قانونية أم غير قانونية.
2- تقوم نظرية العقد الاجتماعي على أساس فرضين رئيسيين:
الأول: إنّ الأفراد كانوا يعيشون فيما بينهم حالة الفطرة أو الطبيعة قبل أن ينتقلوا إلى حالة المجتمع الذي يخضع لسلطة سياسية منظمة.
الثاني: إنّ الانتقال من حالة الفطرة أو الطبيعة إلى حالة المجتمع المنظم أو الدولة تم بموجب عقد اجتماعي.
ليفانت - غسان المفلح
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!