-
الحرب التي لم تبدأ بعد
حتى الآن، ورغم اندلاع معارك الاجتياح الروسي لأوكرانيا وهروب مئات الآلاف من الشعب الأوكراني والمقيمين على أراضي أوكرانيا، لم تندلع الحرب بعد، لأن توصيف ما يجري لا يتعدّى اعتداء نظام أوليغارشي على دولة بدأت تتلمس طريقها نحو الحرية والاستقلال والديمقراطية سعياً للحاق بركب الاتحاد الأوروبي والانخراط بعالمه.
وينفذ النظام الروسي اعتداءه هذا مدفوعاً بفائض قوة يرى أنه يمكنه من إعادة هيمنته على الدول المحيطة ببلاده وفرض نفسه كقطب آخر في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية متسلحاً بذريعة إبعاد خطر حلف الشمال الأطلسي عن حدوده قاضماً تحت تلك الذريعة المدن الحدودية الأوكرانية الواحدة تلو الأخرى.
أما الحرب الحقيقية التي من الممكن أن تقع فهي حرب يدخل فيها الحلفاء وأصحاب المصالح من الطرفين، حرب لا يمكن أن تضع أوزارها إلا بانتصار طرف على الطرف الآخر، حرب تقسم الكرة الأرضية إلى عالمين متصارعين يذعن أحدهما للآخر في نهايتها، تماماً كما حدث نهاية الحربين العالميتين الأولى والثانية.
إلا أن تلك الحرب ربما لم تنضج دوافعها بعد، لأسباب عديدة لعل أهمها عدم اتضاح الموقف الأميركي مما يجري رغم رشق روسيا بحزم من عقوبات لم تأتِ أكلها بعد ولن تؤدي إلى خنق روسيا وجرها نحو مفاوضات تخضع الأخيرة في نهايتها لإرادة أميركا والمجتمع الدولي، ورغم تشغيل ماكينات إعلامية باتجاه شجب ما تفعله روسيا والتنديد به، ورغم التجييش الدولي ومحاولة رسم محاور لضرب طوق سياسي دولي حول عنق روسيا، وتكمن أهمية الموقف الأميركي هنا في اختطافه المعتاد للقرار الأوروبي وهيمنته إلى حد كبير على إرادة الاتحاد الأوروبي مع تسجيل تمايز بين الموقف البريطاني الأكثر تشدداً والموقف الأميركي لأول مرة منذ عقود طويلة، بالإضافة إلى أن أميركا تدرك تماماً أن أوروبا لا ترغب بحرب لأنها تريد الحفاظ على المكتسبات السياسية والاقتصادية التي حققتها بعد الخروج من مستنقع الحرب العالمية الثانية لا هدم كل ما بنته طيلة ما يقارب ثمانية عقود.
وربما يستمر الوضع على ما هو عليه متأرجحاً بين أطماع روسيا في التمدد نحو أوروبا في شطرها الغربي وترقب أوروبا لمآلات ما يجري على الأرض من اجتياح روسي لم يقرر أحد حتى الآن صده وانتظار ما يمكن أن تنجزه طاولات المفاوضات، كل ذلك تحت أعين الولايات المتحدة الأميركية التي قررت بعد نهاية المرحلة البوشية عدم خوض حروب مباشرة والاكتفاء بإعداد سيناريوهات حروب تستثمر فيها سياسياً واقتصادياً بعد أن كانت تخوض حروباً خاسرة على كافة المستويات.
ما بين اتضاح أهداف ونوايا روسيا بعد أن حسمت أمرها باتجاه اجتياح أوكرانيا وارتباك الموقف الأوروبي تحت وطأة الخوف من دخول الحرب بشكل مباشر، لا بد من إثارة الأسئلة عن نوايا الولايات المتحدة الأميركية والمكاسب التي تنوي جنيها من كل ما يحدث.
فمن منطق "تَعِسٌ تعرفُهُ خيرٌ من سَعْدٍ تتعرَّفُ عليه" قد تدفع أميركا باتجاه السماح لروسيا بالسيطرة على المزيد من الدول المحيطة بها تتخذها ساتراً عسكرياً وسياسياً بوجه حلف الشمال الأطلسي يُكَرِّسُها تالياً قطباً ثانياً لا تخشاه بل تعرف كيف تتعامل مع مطامعه وأحلامه، فهي دَرِبَتْ على التعاطي مع هذا القطب عندما كان اتحاداً لجمهوريات انفرط عقدها نهاية العقد المنصرم، الجمهوريات التي تسعى روسيا بحجمها الذي آلت إليه بعد البيريسترويكا إلى لملمتها إما باحتلالها أو باحتكار قرارها.
وقد يكون هذا الخيار هو الأمثل للولايات المتحدة الأميركية في حال راهنت على أنه سوف يجنبها صعود الصين التي لا توفر جهداً ولا مالاً ولا وقتاً لفرض وجودها كقوة اقتصادية وتقنية وسياسية، وسيأتي اليوم الذي تكشف فيه عن أطماعها التوسعية التي لا تقلّ خطورة عن أطماع روسيا والولايات المتحدة الأميركية.
لكن ما ومَنْ الذي سيوقف الصين عند حدها حال قررت تنفيذ مخططاتها؟ وهل وجود قطبين كبيرين يحكمان العالم ويتحكمان بقراراته يمنع من وجود قطب ثالث يقاسمهما مناطق النفوذ والسيطرة؟ ثم ما الذي يمنع أوروبا من التفكير في دخول بازار استعراض القوى والاستقواء على دول متهالكة وشعوب مغلوب على أمرها؟
في ظلّ هذا المشهد المخيف الذي لا يبشر بخير، قد يكون العالم أمام احتمالين، الأول احتراب هذه القوى وتوقع حدوث دمار كارثي، والثاني انهيار هذه القوى من الداخل عبر حراك شعوبها وهو السيناريو الأمثل لكنه الأقرب إلى الحلم، أما احتمال الوصول إلى تفاهمات على تقاسم العالم عبر الأقنية الدبلوماسية فهو شائك وربما مستحيل بسبب ضعف الهيئات والمنظمات الدولية وتراجع دورها من جهة وعدم توفر نوايا لدى القوى المتصارعة لتحقيق ذلك الاحتمال، فهل نحن على أبواب حرب عالمية ثالثة؟
ليفانت - نزار غالب فليحان
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!