-
الجيل المدان: المعلم فعل وجوب ووجود
الجيل المدان، جيل المعلمين الأوائل؛ والمعلمون ليسوا المدرسين فقط، بل كل من حمل في ذاته القدرة على الفعل بشتّى صنوف الفكر والثقافة والتربية والعمل السياسي أيضاً.
جيل تباينت مراكبه وتشعّبت طرقه واختلّت موازينه في رحلة تسابقت فيها الأفكار والأحلام على التحقق. جيل أراد الخروج من شرنقته الفكرية لعالم الواقع الحي، أراد عن وعي أو عن طيب نفس وربما -وهذه "الربما" ذات مساحة عريضة مجتمعياً- أراد القيام بكل ما هو ممكن في الواقع، أراد التغير وإثبات الوجود، فكان معلماً، وكان مفكراً، وكان موظفاً وسياسياً وكان مُهمَلاً أيضاً، واليوم هو جيل مدان بكليته. مدان سواء أراد خيراً وفعلاً طيباً للواقع المجتمعي، أو أراد شراً وسوءاً وتسلق المناصب وانتهاز الواقع المتردي، بالحالين هو جيل مدان سلباً وسلبياً بآن.
وحتى لا يكون القول في السلب والسلبي مغالطة كبرى كما اعتدنا التكرار، لنحدد بصراحة القول، إننا أجل نحن جيل الإدانة، والإدانة حدث سلبي وفعل سلب بآن، ولكن ثمة فارق بين هذه وتلك.
فالقول بالسلبية يعني أن الإيجابية عكسها، وهذه قيمة تصنف لحظياً ولكنها تمتد مع الزمن، وإدانة شيء يعني إلباسه صبغة القصور والنكران، وهذا وجه من أوجه الحقيقة، وإن كان سطحياً لا يمس حقيقة التغير الزمني، لكنه حدث وانتهى راجياً إعادة التفكير فيه. فيما تكون الإدانة فعل سلب، أي التجرد عن عالم الفكرة والقيم والانتقال لتشعبات الواقع ومتغيراته. السلب رحلة الألم الفكرية عندما ترتحل عن ذاتها الخالصة لعالم الواقع الزاخر بالاختلاف، بالتنوع، بالمتعارضات، بالمتغايرات، كما حددها هيجل. فعل السلب لحظة فارقة في معنى الوجود، ولكنه لا يمتد كالقيمة السلبية، بل يحدد لحظة التغيير، لحظة الاعتراف والمواجهة، بدوة النقد والانتقال من هيمنة أحكام القيمة، إلى حكم الواقع والمتغيرات الزمنية.
والنقد اليوم نقد تجربة عاشها جيل السبعينيات وما قبل، جيل حفر بالصخر، تجرّع كل صنوف القهر، عافر بزمن التردّي والخضوع، فتباينت أطره ومحطاته. فمنا من استسهل الواقع وارتدى أعتى المناصب والمكاسب، وبات ذا شأن في سياسة البلد وأحوالها، وربما كان يطمح أن يقدم للواقع الكثير لكنه استساغ لعبة الوصول لسلطة ما حين اندرج فيها وفتحت له كل سبل الغنيمة السياسية والإدارية والوظيفية فبات تابعاً، وقد يعلم أو لا يعلم، لكنه لم يعد بإمكانه تغيير أقداره.
بينما اختار البعض منا مغايرة الواقع هذا، اختار فعل التغيير، فكرياً وسياسياً وثقافياً، اختار لحظات الممكن والتمفصل بعيداً عن سياقات السلطة والسلطات وشهواتها. حمل أفكاره وأحلامه باتجاه مغاير للمكاسب والمناصب حاملاً ومحملاً نفسه مسؤولية تاريخية وعبئاً كبيراً في إنجاز ما لم ينجز في واقع اجتماعي وسياسي بات محكوماً بكل لعنات الشرق. اختار السير عكس مسار الانحدار قيمة فنالته كل سهام النكران والسلبية، وتملكت منه كل نزعات إثبات الوجود العكسية، متخذاً من الإرادة طريقة معانداً، ولا خيار أمامه سوى: إما الاستسلام والاندياح في صورة الجيل الأولى، أو الحفاظ على ذاته.
فيما هناك من انداح في سياقات الواقع، مارس مهنته وحرفته، دون أن ينحاز لهذه أو تلك، يبدو أنه الجيل الأوسع والأكثر انسجاماً مع ذاته ومع الحياة، فلا مناصب ولا معاندات يدفع ثمنها الكثير من حياته.. وربما عاش مرتاحاً وقضى بلا مؤثرات تذكر سوى أن كان إيجابياً وحسب.
المعلم السوري، والمعلم ليس مدرساً وحسب، جيل السوريين الذين عايشوا كل تباينات المسار السوري، من قم للمعلم وفّه التبجيلا، للمعلم منارة العلم والقيم والأخلاق... للمعلم اليوم وهو مدان أياً كان توجهه. فهو مدان كونه استمرأ لعبة السلطات فبات إحدى أهم أدواتها في تخريب نسيج الانفتاح والتحرر الذي بدأته سوريا منذ خمسينيات القرن الماضي. ومدان لكونه لم يرَ سوى الأحزاب طريقاً: حزب البعث وقيادة الدولة والمجتمع، وللأسف للهلاك والدمار، حزب وأحزاب شيوعية وقومية تقدس الفرد ولا ترى غيره منقذاً ومخلصاً، وجميع الأحزاب منخرطة في لعبة الاستموات السياسي لجيل قادم عنوانه جيل بلا رصيد معرفي سوى فكرة القيادة وحسب.
وهو مدان لكونه أراد مغايرة الواقع، فتعرّض لكل صنوف القهر والاعتقال والاضطهاد السياسي، فُصل من وظيفته، أو تم تحجيم دوره الإداري أمام من هم أقل منه كفاءة وإمكانية. واليوم يستشيط غضباً وانفعالاً وتفريغاً لقهره المزمن كردة فعل طبيعية لتاريخية القهر المتراكم في صدره، وللأسف مع عودة عصر الانفتاح بعد العام 2011، عام الثورة والتحولات الكبرى، أراد كغيره أن يكون قائداً ولكن في الموقع الآخر، وربما كان محقاً لكن الزمن تغير، وهذا التغير لحظة سلب مختلفة عما كان قبل عقود.
حملت ثورة السوريين شتّى صنوف التغيرات في الواقع المجتمعي والفكري والسياسي، شتى صنوف التناقضات والاختلافات والتباينات، وها هي اليوم تخطو لعامها الثاني عشر دون نتيجة بعد! وحتى لا نمارس ذات حكم القيمة السلبية ومحمولها السيء، أدرك أن مسيرة السوريين قد تداخلت في مسارات شتى صنوف الجريمة والتي لا يمكن تحميلها لجهة دون غيرها؛ لكن من حق الجيل الذي عاصر الثورة، جيل القرن الواحد والعشرين وقد بلغ سن الشباب، جيل الانفتاح والتحولات الكبرى، من حقه أن نكاشفه بما نحن عليه، بما كنا وكيف صرنا.
نحن جيل الإدانة، لأننا ارتضينا بالعسكر حاكماً أبدياً بفعل القوة، ولا مبرر لخوفنا أبداً، فحتى أولئك الذين عاندوا مسارات الانحدار المجتمعي، كثر منهم هللوا لحكمه في بداياته واليوم يدفعون ثمنه مضاعفاً.
نحن جيل الإدانة، لأننا ونحن نعاند مسار الانحدار هذا، تخاصمنا أيديولوجياً على الأحقية والأولوية، ولم نختلف سياسياً وفكرياً على متغيرات الزمن، لم نرقب بحذر متغيرات الواقع، بل توقفنا عند ذواتنا لاعتقادنا بصحتها المطلقة! فلا غرابة أن نفاجأ بأن الزمن تغير والحدث مختلف وأن مكاننا الأنسب الاستيعاب وفتح الطرق غير السالكة لا المزاحمة على أحقية أفكارنا وقيادتها في زمن مختلف، ولنقل لم نتمكن من سلب أفكارنا لحظياً بقدر فرضها إرادياً في كل زمن وحسب، وهذا مسار تشتت، نعايشه لليوم لحظياً، وجب نقده فكرياً وثقافياً وتربوياً ونفسياً.
نحن جيل الإدانة وجيل الحرب الذي يخسر به الجميع حتى المنتصر، ووجب علينا المكاشفة، النقد، تبادل الخبرات، التعلم من جيل مختلف بقدره وزمنه، البحث مرة أخرى في أحقية الوجود وأهميته كقيمة جمعية يشارك فيها الجميع في تحقيق قيمة الذات الكلية. والذات الكلية هوية عامة وتعاقد على فعل الوجوب والوجود، أهم ميزاتها تحقيق تقدير الذوات للجميع دون محاصصة أو خيلاء أو واسطة، وتفتح البوابة لجيل قادم يخطو خارج معادلات السلطة والقهر المزمن أو الانسياق في الواقع بلا أثر.
مجدداً أكرر، سواء أردنا خيراً عن طيب نية وحلم مضيء، أو أردنا شراً عن سوء نية ونفس أمارة بالسوء، لقد أورثنا جيل الانفتاح والحرية وتحطيم الأصنام، تركة كبرى من الخيبات والآلام والحسرات، لكني على ثقة أنه جيل كسر الأطواق والانعتاق، يدرك جيداً كيف يكون ومتى يكون، ويفرق بشكل حاذق وبارع بين معلم ذي علم وقيمة، ومعلم ينكرهما بسوء خصاله وسموم فكره حتى وإن كان مهنياً فعلياً.
المعلم فعل وجوب ووجود وقيمة كبرى وهذا ما يجب نقده على الدوام وبحكم الزمن المتحرك وتغير الأفكار والأقدار.
ليفانت - جمال الشوفي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!