الوضع المظلم
الثلاثاء ٢١ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
التنميط الاجتماعي Social Conditioning
مصعب قاسم عزاوي

من الناحية العضوية البيولوجية فإن بنيان الدماغ البشري بشكله الذي تم تشذيبه بقوة الاصطفاء الطبيعي على امتداد ما يقارب سبعة ملايين من السنين يستند إلى مبدأ عمومي يدعى مبدأ «حفظ الطاقة»، والذي يعني عدم إشغال البنى الدماغية التي تستهلك طاقة أكبر في تحليل أي معطيات واردة من خارج البدن يمكن لبنى أقل استهلاكاً للطاقة القيام بها.

وهناك مبدأ موازٍ لذلك الأخير يدعى مبدأ الآلية «Automaticity» الذي مدلوله بأن الدماغ يميل لأن يستخدم نفس الآلية التي تم التعامل بها مع أي معطى سابقاً، وإعادة ذلك مراراً وتكراراً بشكل يوفر على الدماغ عناء التحليل والاجتهاد إذ يصبح رد الفعل آلياً بشكل ما.

والمثال النموذجي على فعل ذينك المبدأين المحوريين في عمل الدماغ يمكن التعرف عليه في الكيفية التي يعمل بها عقل راكب الدراجة الهوائية، ففي المراحل الأولى لتعلم ركب الدراجة الهوائية لا بد للعقل من استخدام كل طاقاته، متضمناً قدرات القشرة الدماغية الفائقة، وخاصة تلك الموجودة في الفص الجبهي، والتي يناط بها القيام بأعقد العمليات الحسابية والعقلية التي يمكن للبشر القيام بها، وهي المنطقة التي تستهلك جلّ الطاقة التي يصرفها الدماغ من الناحية الفيزيولوجية، ولكن عقب التدرب عبر التكرار على قيادة الدراجة الهوائية تصبح أجزاء من الدماغ أقل استهلاكاً للطاقة مسؤولة عن ذلك الفعل، وهي الأجزاء التي يتم اختزال مساحتها التشريحية وتقليمها بعد زيادة الخبرة لتصبح محصورة في بعض نوى دماغية متوضعة، خاصة في الدماغ المتوسط والمخيخ في المرحلة التي يصبح فيها فعل قيادة الدراجة الهوائية فعلاً «آلياً» لا يختلف كثيراً عن قيام الإنسان باستخدام قدميه للمشي بشكل «آلي» على الرغم من أن تعلمه المشي نفسه كان قد استهلك الكثير من الجهد والتعثر لما تعلمه الإنسان طفلاً لأول مرة.

ويسري نفس ذلك النموذج من آليات عمل الدماغ بشكل عام على الكثير من أنماط السلوك البشري، ولكن بطريقة أكثر تجريداً جوهرها «استبطان» سلوك ما عبر استشرابه من الآخرين، بحيث تصبح مراقبة سلوك الآخرين وتتبعه في مقام التكرار والتدريب الضروري لإدراك الهدف الموضوعي من مبدأ «الآلية» السالف الذكر، وهو الذي يتم استتباعه باستدماج خلاصة ذلك الذي تم مراقبته وتخزينه في بنى الدماغ المتوسط المسؤولة عن الذاكرة والخبرات بشكل يتسق مع تحويل تلك المعطيات من بنى القشرة الدماغية الأكثر استهلاكاً للطاقة إلى البنى الأكثر عمقاً في تشريح الدماغ والأقل استهلاكاً للطاقة لتحقيق مبدأ «حفظ الطاقة» أيضاً.

وهو ما ينتج في المآل الأخير كماً هائلاً من الوصفات الجاهزة الراسخة في أدمغة البشر عبر استبطانهم وتعلمهم الاجتماعي لأنماط من ردود الأفعال والسلوكيات النمطية تجاه معطيات متعددة في حيواتهم، تمثل الأرضية التي سوف يتأسس عليها النمط السلوكي لكل فرد منهم، والذي إن لم يقم بالاجتهاد العقلي الفاعل فإن احتمال انزلاقه في تطبيق الوصفات الجاهزة أمر محتمل دائماً، وهو ما قد يستقيم وصفه «بالتنميط الاجتماعي» الذي يصبح فيه الاستسهال القاعدة الأساسية في صياغة مخرجات سلوك الفرد الذي يتكئ في تلك الحال على الاستشراب غير المرشح لما يبدو أنه النمط العام السائد في المجتمع للتعامل مع هذه الظاهرة أو تلك، وهو ما يعني تنكّس الإنسان من رتبة الإنسان العاقل إلى حضيض الإنسان المنفعل ذي العقل المستقيل، وهو ضالة كل وسائل الإعلام المتسيّدة.

وحتى النخب السياسية المنخرطة في تنفيذ وتوطيد مشاريع هيمنة الأقوياء على المستضعفين، والتي قد يكون أهم مقومات نجاح مشاريعها تحييد عقل الإنسان الفاعل وتحويله إلى مجرد «كائن بيولوجي» معزول عن واقعه، يعيش في قوقعة منفصلة عن محيطه الاجتماعي، مشغولاً بتلبية حاجاته الحسية، وغير مكترث بالأمور المصيرية التي لا بد من مواجهتها، والتي يتم تفويض مهمات التعامل معها إلى نفس تلك الطبقة النخبوية السياسية الإعلامية، في شكل يتم تقديمه في مجتمعاتنا المعاصرة على أنه نموذج المجتمع المتحضر الذي يتخصص فيه كل فرد بحقل معين، ولكن دون الإشارة إلى مفاعيل ذلك التقسيم الاعتباطي العميقة على تنكس آليات عمل العقل البشري للإنسان الذي يشكل الحيز الاجتماعي جزءاً محورياً لا بد من الاشتباك معه لضمان سلامة عمل منظومة العقل البشري ككل، وهو الحيز الذي قد يستقيم اعتبار الاستقالة من الاشتباك والتفاعل المستدام معه المقدمة التي أنتجت هذا الطوفان من أشباه البشر الذين لا يرون في أنفسهم سوى أفراد قطيع مستقيل كل منهم من جل قدراته العقلية  الفائقة، ومستسلم لإرادة من ينظر إليهم بأنهم «رعاته» بينما هم جلادوه الذين ليس لهم ضالة سوى الهيمنة على كينونته الإنسانية وسوقه إلى «مسالخ» التنميط الاجتماعي وصناعة العقل المستقيل.

ليفانت - مصعب قاسم عزاوي

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!