-
إني أرى اللّدّ

مهداة.. إلى روح جدّتي عميدة أمهات الشُّهداء.. ابنة اللّدّ رُقَيّة العلمي
بعد احتلال رام الله وباقي فلسطين كان هناك حزنٌ مريرٌ يُخَيِّمُ على السُّكّان، كلُّ شيءٍ كئيبٌ وكأنَّ الوقتَ كان قد توقَّف، مِن يومها تغيرت المفرداتُ واستحدثت كلمات مثل النَّكسة، الشَّهيد والاحتِلَال وحرب حزيران، جيش ومستوطن ودوريّة!
مَنْ يُعِيدُ لنا الطّفولة؟! مَن يُعِيدُ لنا الوقت؟!
بَقِيَتِ المدراسُ مُغْلَقَةً ورفضَ النَّاسُ الدّراسة تحت الاحتلال أو تسيير الأعمال في الدوائر الرَّسميّة فلا مجال للعمل تحت الاحتلال العسكريّ. كانت الدّورياتُ تجوبُ شوارعَ رام الله وعلى متنِها الجنود يُصَوِّبُونَ الرّصاصَ على المُتظاهرين الرَّافضين للهيمنة الإسرائيليّة علينا.
كان ذلك صيف يونيو 1967 والّذي استمرَّ حتّى الخريف، فتنادت القوى الوطنيّة بأن الدّراسة والعمل يجب أن تكون سلاح الشَّعب الفلسطيني للتّصدّي لهذا الواقع الجديد.
عادتِ الحياةُ إلى مجراها، فُتحت المدارس، نشطت التّجارة وعاد الفلّاح يزرعُ أرضَه وبائعةُ البَسطة تفترشُ خضرواتِها المقطوفةَ مِن حقولِ قُرى وبلدات رام الله.
في ربيع السَّنةِ التّاليةِ بدأتْ رياحُ حنينِ المُهَجَّرينَ تُتَرْجَمُ إلى زياراتٍ لأرضِ الوطنِ، لِتَفَقُّدِ بيوتِهم الّتي اقتُلِعوا منها، المفاتيحُ معهم... صحيح، لكنّ البيوتَ يسكنُها يَهود!!! كم هو مُؤلِمٌ أن ينظرَ الإنسانُ إلى بيته ولا يستطيعُ حتّى الاقترابَ منه لأنَّ المحتلَّ تمدّدَ فيه واستطنَ ومنعه من الاقتراب.
أصرَرْنا أنا وأختي على زيارة اللِّدّ، قاومت أمّي مَطلبَنا، فكيف ستطمئنُّ لدخولِ بنات صغيرات إلى فلسطين، فتسهّلَ الأمرُ عندما عَلِمَتْ بأن هناك معلّمتينِ في رام الله دعد الخطيب اللَّاجئة مِن اللّدّ، والمعلّمة وداد حمودة لاجئة من لفتا، قامتا بترتيبِ رحلاتٍ إلى فلسطين المحتلَّة، سجَّلَتْنا أمّي في الرحلة، ركبنا الباص، وفي الطريق بكيتُ مرَّتين:
مرَّة لأنَّني سأزورُ فلسطين غير مُحَرَّرَة ومرّة ثانية لأنّي سأدخلُ اللّدّ مسقطَ رأسِ أبي الَّذي غادرَ الحياة وهو متعلّقٌ بأَزِقَّتِها وحاراتها، هذا الشاب التي سرقت حياتَه غارةٌ جويّةٌ إسرائيليّة فأَرْدَتْهُ قَتيلًا مثل لَمْحِ البَصَر، رحلَ عنّا، لكنه في اللد ترك سكنًا لنا هناك في قلوبنا.
ركبنا الباص من رام الله مرورًا بقرية بيتونيا إلى دير اللّطرون وكانت أول مدينة وصلنا إليها اللّدّ، في جولة باتت معالمُها حاضرةً خاصّةً لجهة مطار اللّدّ المسلوب:
"لأنّه بيتنا يا ستّي جنب المطار كنّا طول اللّيل نسمع زنّ الطّيارات"!
عن قرب أرى اللّدّ:
الحاووز، سور بيتنا، المدرسة الّتي درس فيها أبي ومكان عمله في سكّةِ الحديد.
" كنا يا ستّي كلّ سنة نروح على كنيسة الخضر، وقت عيد "لد" يتجمّع المسلمين مع الحجّاج المسيحيين، اللّي كانوا يجوا من الرّملة ويافا والناصرة في عيد (الخضر). وغيرها مواسم كثيرة في اللّدّ يا ستّي، النبي روبين والنبي صالح".
هنا جامع دهمش الشّاهد على شعب كان هنا، وهناك الجامع الكبير، آخر نقطة تجمع أهالي اللّدّ إلى التّشرد وللمصير المجهول.
"يا ستّي كان الكلّ يجي على يافا من مصر وسوريا والأردن ولبنان في موسم قطف البرتقال يشتغلوا في البيَّارات حتى آخر الموسم، من كثر البرتقال كنا ندفنه في الأرض!
بقي طابع اللّدّ فلسطينيًّا، لم تُطْمَسْ هويّةُ ساكنية وما زالت الحركة الكشفيّة نَشِطَة فيه حتى يومنا هذا والنّادي الارثودكسي الذي أسَّسه السَّلف ما زال صامدًا هناك.
"يا ستّي اللّدّ عربيّة وراح تضلّها عربيّة، وراح نرجعلها وراح تقولي ستّي قالت".
كان لهذه الزّيارة نقطة تحوّل في حياة طفلة لم يتجاوزْ عمرُها الثّالثة عشر مثل حبل ثاني ربطني وشدّني قبله الحبل الأول الّذي زرعته جدّتي في وجداني هو حبّ اللّدّ وناسها
اسمي رُقَيَّة
اسم غريب وقديم... اختاره لي أبي تَيَمُّنًا باسم أمِّه، وبما أنَّني أكبرُ مِن أختي التَّوأم بدقائق معدودة، فكان الاسم مِن نصيبي.
أنا ابنةٌ لواحدٍ مِن آلافِ الشُّهَداء الَّذين ارتقوا خلال الصّراع الفلسطيني الإسرائيلي، حكاية بدأتُ في كتابتِها من ساعة ما حملت جثّةَ أبي، لم تزل كلمات وجعها تدقُّ في رأسي، أكتبُها بدون تدوين... إلى أن آن الآوانُ وبدأت قصة عمر تبزغُ وتنمو على الورق... أخافُ أن يُداهِمَني الموتُ قبل أن أسطرَ قصّتي التي تُحاكي شعب فلسطين وأهلي في اللّدّ
سكنتُ كثيرًا مِن البلاد
بلادًا ما عَرَفْتُ لغةَ أهلِها ولا ناسِها، مرّة أسكنُ هنا ومرّاتٍ أعيشُ هناك...
ساعةً أحذفُ فكرةً ... ومرّاتِ أُسَجِّلُ في ذِهني فكرةً أُخرى.
هذه فلسطينُ الَّتي حملْتُها معي لمّا شَرَّدَتْني الموانئ وبعثرتني الأيّامُ مِن مطارٍ إلى مطار، في كلِّ مرّةٍ أحملُ معي حقيبتي وكُتُبي وأوراقي، ما دخلتُ مدينةً إلّا والدّموعُ في عيوني من الوحشة ومن المجهول الَّذي سأقابل، وفي الوقت نفسه تملأ الدّموعُ أعيني وأنا أغادرُها غصبًا كما دخلتها مُرْغَمةً... أبكي هذه المرّة لِفراقِ ناسِها وأهلِها.
في وداعية أُقِيمَتْ لي قال زميلي الخليجي:
"ما دخلت فلسطين، ولا زرت اللّدّ، ولكن رُقَيَّة أخذَتْني إلى دهاليزها، وكأنّي زُرْتُها، رُقَيَّة هي اللّدّ وفلسطين، وفلسطين واللّدّ هما رُقَيَّة!
حكايتي فيها حزنٌ، هذا الحزن حَوَّلَتْه ستّي إلى قوّة، فهي كانت الرّاوي لكلّ هذا التّاريخ، نقلته ببساطة وعفويّة، لنكتشفَ الآنَ بأنّ محتواه ثمين وقيّم، وهي كما الالآفُ مِن الجَدَّات رَسَّخَتِ القضيّةَ في ذاكرةِ كلِّ الأجيالِ المُتعاقبة حتّى يومِنا.
دائمًا وأبدًا قلتُ وأقول:
"ستّي الأُمّيّة هي معلّمتي الأولى الَّتي رسَّخَتْ حبَّ اللّدّ فينا ونقشتْ تضاريسَها في ذاكرتِنا".
وُلِدَتْ ستّي رُقَيَّة شمس الدّين عبد الفتّاح العَلَمي، في مدينة اللّدّ، هذه جدّة ما عَرَفَتْ تاريخَ ميلادِها، ساعةً تظنُّ أنّها وُلِدَتْ قبلَ الهَزَّة، ومَرَّةً تقول بعد أيّام مِنَ الهَزَّة، وأحيانًا تغيّرُ رأيَها وتؤكّدُ لنا بأنّها ربّما وُلِدَتْ قبلَ الثَّلجةِ الكبيرة ومرّات تقولُ بعدَها، وساعات ظنّت بأنها وُلِدَتْ لما مرض أهل اللّدّ بالكوليرا!
أيًّا كان، كلُّ ما أعرفُه أنَّ ابنَها البِكْر أبي وُلِدَ في اللّدّ في العام 1925.
تزوّجَتْ مِن جدّي شاكر عبد الفتاح العلمي، وهو قريبٌ لها، لم تكن تعرفُ بأنَّ هذا الشّابّ الَّذي كان يحملُها وهي طفلةٌ ويَرميها في الهواء وهي تضحك، والجميعُ مِن حولِهم يُصَفّقُ، لأنَّ الأيدي تلقَّفَتْها ونَجَّتْها مِنَ الوقوعِ على الأرض، سيكونُ زوجَها في يومٍ مِن الأيام.
كانت هذه إشارة تشرحُ بأنَّ فارقَ العمرِ بينهما كان كبيرًا... أنجبتْ ستّي ثلاثَ بناتٍ وثلاثةَ صبيانٍ، ولمَّا كان ابنُها البِكر هو عبد الكريم العَلَمي أصبحت تنادى "أمّ العبد".
ستّي رقيّة كانت تحنّ على اليتيم، ومن صفاتِها الصَّبر والتَّحَمّل، قامت على رعاية أبناء سِلْفِها الأربعة بعد وفاة والدتِهم، ولما كانوا يسكنون في نفس الحوش، أخذت على عاتقِها تربيتَهم، رعتِ الوَلَدَ مع أبنائِها بينما احتضنتِ البناتِ الثَّلاثةَ وكانت لهم بمثابة الأمّ. كانت كثيرًا ما تبكي في سِرِّها حزنًا على الأيتام، لكنَّ حنانها وسَعَةَ صدرِها لم تجعل هؤلاءِ الأيتام يشعرون بمرارة الفَقْد، فقد كانت البنات صديقات بناتها نشأن جميعًا مع بعض، وكذلك الصبي تربَّى مع أعمامي وأبي وشرب من حنانها.
ما عَرَفَتْ يومَها بأنَّ القدرَ سيدورُ وستقومُ في آخرِ عُمرِها على تربية ستّة أيتام أنا وأخوتي، لذلك كانت العائلة تسمّيها أمّ الأيتام.
كانت الحياة في اللّدّ تَتَّسِمُ بالبساطة والتَّكافل والمحبّة، ولم يكن سكانُها يعرفون بأن هناك شيئًا سيأتي ويُغيّرُ هذا الواقع؛ ففي صباح 11 تموز 1948 طلبت عصابات الهاجانا من رجال اللّدّ التَّجَمّع في جامع دهمش، وقامت بِرَشِّهم بالرَّصاص، قتلوا مائتي رجل في نفس اللَّحظة، من بين الرّجال نجا رجلٌ واحد وهو كان شاهد العيان الَّذى روى الواقعةَ كما حصلت.
هاجر الأهالي من مدينة اللّدّ مشيًا على الأقدام بعد أن طردهم اليهودُ ، جمعوا كلَّ السّكّان في جامع اللّدّ الكبير، واستولوا على المصاغ والذّهب والأسلحة الَّتي كانت بحوزتهم، وقالت لهم عصابات الهاجانا:
"روخوا عند ملك عبد الله خليه يطعميك طبيخ"!....
كان اليوم الخامس عشر من شهر تموز 1948 يوم إخراج أهالي اللّدّ... سَمَّتْهُ أمّي تموز اللَّهَّاب ويوم العطش الأكبر...
كانت خالة أبي تحملُ طفلًا رضيعًا... مات بين يديها مِن العطش والجوع، بَقِيَتْ حاضنةً الجثّة تبكي بصمت حتى وصلت إلى قرية من القرى في الطريق وهناك أعلنت عن موت الطّفل، شارك كلُّ المُهَجَّرِين في دفنه وبكى الكلّ بكاءً حرقَ القلب فهذه ميتة غير طبيعيّة.
كبرت خالةُ أبي وشاخت وهي لم تزلْ تحكي عن موت الرَّضيع بين يديها:
"الله يحرق قلبهم زي ما حرقوا قلبي على ها الصَّبي اللّي راح منّي بسببهم!"
وصل المهاجرون الخارجون غصبًا من اللّدّ إلى مدينة أريحا، حيث كان أخوانها هناك في استقبالها واستقبال أخوالهم دار العلمي.
تزوّجتْ أمّي من أبي وانتقلت للعيش في اللّدّ، بعد أشهر من زواجها خرجت أمي من نفس الدَّرب الَّذي دخلت منه... لكن هذه المرة مشيًا على الأقدام.
رجعت أمّي إلى القدس بِخُفَّيْ حُنَيْن... عادت إلى مسقط رأسِها في الحرم القدسي...
سكنت هي وأبي وأفراد عائلة أبي في بيت والدها في الحرم...
من بعدها صار هناك واقع جديد واقع:
"اللّاجئون الفلسطينيون".
بعد النَّكْبة، سكن الكثير مِن عائلات اللّدّ في مدينة رام الله كما فعل أبي، والحقيقة أنَّ اللّدّ تُعْتَبَر قصة نجاح أبلى فيه أبناؤها وبناتها بلاء حسناً، فبرعوا في الفنّ والأدب وفي السّياسة وفي حقل العلوم والتدريس وفي التجارة، وسرعان ما أصبح أهالي اللّدّ شريحةً من الشرائح المميّزة بعد أن تموضع كلٌّ في موقعِه، منهم مَن بَقِيَ في فلسطين، ومنهم مَن سافر للعمل في الدول العربية ودول الخليج، والبعض انتهى بهم الحال للسكن والعمل في المهجر.
كانت أمّي تقول: "اللَّدادوة جدعان عشان هيك كلّهم بعد النكبة اشتغلوا رأساً!"
مهما ارتحل وتنقَّلَ "اللَّدادوة" ستبقى اللّدّ بوصلتهم، وفي أكثر من مدينة عربيّة وفلسطينية أسَّس أبناء اللّدّ جمعيات خيريّة وتنمويّة، جمعيات تحافظُ على تراث المدينة وتُبقيها حيَّةً في الذَّاكرة، وهي بالوقت نفسه تمدُّ يد العون والمساندة لأهل اللّدّ.
جدَّتي رُقَيَّة والحجر
بعد الاحتلال كانت معاناتنا كبيرة من الجيش، ننامُ نومًا متقطّعًا يتخلّله أزيزُ رصاصٍ وطنينُ عجلات الدّوريات الجَوّالة.
أسمع جدَّتي تُبَسْمِلُ وتُرَدِّد:
"الله أكبر... الله أكبر على كلِّ مَنْ طغى وتَجَبَّر"
ساعتئذ أطمئنّ ... فأنام وسؤال يتردّدُ في ذهني:
"مَن الَّذي طغى وتَجَبَّر؟"
عندما كبرتُ فهمتُ مَنْ هو ذا الَّذى طغى... ومَن هو ذاك الَّذي تَجَبَّر.
بين الصَّحو والمنام أسمعُ:
{وجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}
كان بيتنا، يقبعُ بين الحواكير، منزويًا وحده في أرض بعيدة عن الشّارع، لا يُحيطه شيء سوى سناسل حجارة وأشجار الزَّيتون وشجرة جوز وحيدة حولها أشجار لوز وبرقوق وشجرة سفرجل.
موقعه في مدينة البيرة ... قريب من الطريق الرئَّيس من رام الله المؤدّي إلى القدس... وعلى الغرب من بيتنا مخيم الأمعري للّاجئين.
كان الشباب في المساء يعرفون تمامًا مواعيدَ عودةِ المُستوطِنِينَ إلى المُستوطنات والمفروض أن يكونَ اتّجاهُ مسارِهم - شاؤوا أم أبوا- هذا الشَّارع ولا طريق غيره، فيتربصون بين الشّجر لإلقاءِ الحجارة باتّجاهِ باصات المستوطنين الّتي تعبر الطريق.
ولمَّا كانت هذه الاعتداءات تُرْعِبُ المُستوطن... لذا كان يمرّ مُسرعاً كسرعةِ البرق، ولكن في أكثر الأحيان كانت الحجارة تُصيبُ الهدف:
يرمون الحجر، ثم يفرّون نحو الحواكير المعتمة حول دارنا.
في إحدى اللَّيالي اقتحمت قوّةٌ عسكريّة من الجيش صَحْنَ دارنا، نَهَرَتْ جَدَّتي أخي "ما تخفش أكيد هذا الجيش"
الجنود عند عتبة الدّار، ضربات بكعب البندقية بينما يصرخ:
- افتخ باب
فتحت جدَّتي النّافذة الصّغيرة ونحن السّتّة حولها أطفال لا حول لنا ولا قوة.
سألتهم بجفاء: "شو بدكم؟"
الضّابط:
- أنت مخبّي عندك واخد مخرّب في البيت؟
- لا
- كذابة... هلأ ضرب خَجَر على الدّورية وهرب من هون!.
- يا عيب الشّوم، ما حدا كذّاب غيركم.
- بأقولك هلا هرب ولد من هون!
- قلت الك بأعرفش!
- مين هدول الصغار؟
- أولاد ابني.
- طيب مين أنتِ؟
- أنا أم العبد من اللّدّ اللّي انتوا اخدتوها منا.
تجاهل الموضوع:
- وين أبوهم وأمهم؟
- قتلتوا أبوهم في الحرب بقنابلكم وامهم تشتغل في الطيرة وبتنام في الداخلي هناك والأولاد عندي، البركة فيكم شتتوا العيلة.
أصدر أوامره بالعبري تركونا وراحوا.
حتى الساعة... لمّا نتذكّر أنا وأخوتي هذه الحادثة ما عرفنا ولا استطعنا التخمين؛ فالضابط وجهه مــــــا تفسر!
هل كان منتصراً ورأى نتاج الألم الّذي سبَّبَتْه الحرب التي شَنَّها جيشه - جيش الدّفاع الإسرائيلي- وربّما قادها، أم إنّه ندم على فعلته،
ولكن كنّا على يقين: فصدره انشرح بزهوة ظنًّا منه بأنّه انتصر علينا...
لكن هيهات....
في الصباح انتشر الخبر عن طريقنا نحن الأطفال... جاء الجيران لمواساة جدّتي، يومها سمعت جدّتي تقول لهم:
- من سخافة اليهود دورية كاملة بسلاحها وقنابلها عم بتدور على ولد رمى حجر!.
فعرفت يومها بأن عدوَّنا سخيف.
من خَلَّفَ ما مات
في رام الله، كانت تُعرف باسم "عميدة زوجات الشُّهداء"، وهي الَّتي تمثّل كلّ نساء فلسطين في المحافظة على تماسك البيت والأسرة خلال غياب الزوج والأب إمّا بسبب الاستشهاد أو الاعتقال أو المنفى والشَّتات.
قبل رحيلها عن هذه الدنيا، تمّ توثيق قصّة تأسيس (الأنروا)، والنَّكبة ونضالها كأمّ فلسطينيّة من خلال دائرة الوثائق التّاريخيّة في جامعة بيرزيت. كانت أمّي لواحظ الخطيب جماعة الكناني وقت المقابلة قد بلغت من العمر ثمانين عاماً: وقفت أمام عدسات الكاميرا قوية وراسخة الجذور كشجرة زيتون فلسطينية يصعب اقتلاعها، في سرد المعاناة الحقيقية التي عاشتها.
في تلك الفترة، بدأت أختي لينا تحرّكاتها لتوثيق حياة أبي وأمي في كتاب قام على كتابته المؤرّخ سميح حمودة... بدأ بجمعِ كلّ الأوراق الباقية من منظمة التحرير الفلسطينية، ونزل إلى الميدان باحثًا في لقاءات مع الناس عن بدايات المنظمة قابَلَ ميدانيًّا أهالي اللّدّ لجمع الشهادات حول أبي... أبي الذي عاش أقل من أربعة عقود لكنّه ساهم في تأسيس أهم مفصلين في حياة الشعب الفلسطيني: الأونروا ومنظَّمة التحرير الفلسطينيّة، خصّص في الكتاب فصلًا كاملًا عن عائلة العلمي في اللّدّ.
قابَلَ حمودة بنات عمّ أبي وأصدقاءَه وأبناء جيله وجمع ما أستطاع من معلومات... كانت مهمته صعبة جدًّا... وانكبَّ على كتابة الكتاب، إلَّا أنَّ المرضَ باغتَه، ورغم أنه وعدنا - إيماناً بالله- بأنه لا بدّ سيُنهي الكتاب قبل موته، لكن سبقت المنايا الوعد فغيَّبَه الموت.
خرجت حكاية أبي إلى النّور في نهايات 2020 في كتاب: "حكاية شهيد من منظَّمة التحرير الفلسطينية... عبد الكريم العَلَمي: قصة شعب في سيرة رجل"
أبي يدعى عبد الكريم العلمي، كان واحداً من الشباب الفلسطيني الرّائد والطَّمُوح، اضطرَّ أثناء حرب 1948 للهجرة من مسقطِ رأسه اللّدّ قرب تل الربيع والّتي عُرفت فيما بعد باسم (تل أبيب).
بعد الهجرة، بدأ أبي وزملاؤه العملَ مع الصّليب الأحمر، وكانت مهمّتهم العمل على تسيير ملفّات لِمُساعدة اللَّاجئين... اللاجئين الذين تقطَّعَتْ بهم السُّبُل وأصبحوا بين عَشِيَّةٍ وضُحاها مشرَّدين... بعدها بفترة تمّ تأسيس الأُونروا بهدف تقديم برامج الإغاثة المباشرة والتشغيل للاجئي فلسطين، وتمّ بعد ذلك تحويل جميع المسؤولين عن ملفّ اللّاجئين في الصليب الأحمر إلى الأونروا.
بدأ أبي (المعروف في أوساط اللّاجئين باسم أبو شاكر اللّدّاوي) عمله في عام 1949 مع الأونروا:
ليال مظلمة وشتاءات باردة مرَّت، وخيَّم في مهبِّ الرياح والعواصف، اللّاجئون يرتجفون من البرد والصقيع... ويعانون من نقص المياه الصَّالحة للشّرب، ناهيك عن نقص الغذاء والدّواء، هذا كله جعل موظَّفي (الأونروا) في ذلك الوقت يَصِلُونَ ساعات النّهار باللّيل في محاولة منهم لإيجاد الحلول لجميع تلك المشاكل.
استخدم أبي وزملاؤه مدارس القدس - ملاجئ المساعدات في ذلك الوقت - حيث كان يجلس الطَّاقم على كراسٍ خشبية في الملاعب لتوزيع الحصص على اللّاجئين كالطَّحين والمواد الغذائية، وبسبب قلّة المعلومات حول أعداد المهَجرين حثَّهم هذا الوضع فيما بعد على البدء بتسجيل اللَّاجئين في سجلّات رسميّة وحصر أعدادهم، وعليه مُنِحَتْ بطاقات المعاشات أو ما يُسَمَّى (كرت المؤن).
وجد مئات الآلاف من الفلسطينيين أنفسهم مسجّلين رسميًّا كلاجئين ممّا شكّل نقطة تحوّل في حياة اللّاجئين وأصبحوا سكّانًا في المخيَّمات القائمة آنذاك.
أبي مثل أيّ فلسطينيّ كان همُّه الأوّل في الحياة هو اللّاجئين والقضية الفلسطينية الَّتي وهب حياته لها، وقد رسم لنفسه هدفاً، تحرير فلسطين، لكنَّه لم يكن يعلم أنّه سيكون هو نفسه ضحيّة الحروب العدوانيّة والنّزاعات المسلَّحة في فلسطين.
خلال حرب حزيران 1967، قُتِلَ أبي عن 39 عاماً، جاء مقتله خلال جولة من الغارات الجويّة الإسرائيلية على مدينة أريحا. قُتل أبي أمام أعيننا... وبعد أن "سلّم الرّوح"، حاولنا نحن الأخوة ووالدتي أن نحملَ جسدَه لنضعَه في السّيّارة ولكنه بقي ينزلق المرة تلوَ الأخرى على الرمال بينما نتقافزُ حوله خوفاً... إلى أن جاء رجلٌ وقام بمساعدتنا في وضع الجثّة في المقعد الخلفي للسيارة، بعد ذلك قامت والدتي الشّجاعة، حالها حال المئات من النّساء الفلسطينيات، بقيادة السّيارة وفيها جسد أبي المُضَرَّج بالدّماء من أريحا إلى مدينة السّلط من خلال نقطة عبور جسر الملك حسين المعروف بجسر (اللّنبي): قيادة غاب عنها الكلام وخيّم عليها بكاء ستّة أطفال يحتضنون جسد والدهم المُسَجَّى.
عندما قامت والدتي بتسليم جثّة أبي إلى مستشفى مدينة السّلط الحكومي، سمعت إحدى الممرّضات وهي تقول إنَّ هذا هو أول [شهيد] وصل اليوم. في ذلك الوقت لم نكن نعرف أن أبي سيكون رقم واحد في طوابير الآلاف من الشُّهَداء...
كان هدف أمّي تسليم جثّة أبي مع التّركيز في الوقت نفسه على الاستمرار بِعَدِّ ستّةِ أطفال وألَّا يغيبَ أيّ منهم عن ناظِرَيها.
وفي المقابل، هناك في رام الله، كانت جدّتي رُقَيَّة تحومُ حول البيت تبحثُ عن ابنِها
"ثَكْلَى لم يُنْعَ لها ابنها"
بل حَدَّثَها حَدْسُها عن موتٍ آتٍ لا محال… حَمَلَتْ سبحتها في الملجأ… تحوّطُه وتدعو له… وبينما هي تفعل تناثرت حبّاتُ السّبحة… جمعتها… لكنْ هناك حبّة ناقصة.
"هكذا إذن، ابني رحلَ ومات لذلك ضاعت حبَّته من المسبحة".
مباشرة بعد استشهاد أبي التحقت أمي بالعمل في معهد دار المعلّمات والتدريب المهني للنّساء التابع (للأونروا) المعروف بالطيرة، عملت كمسؤولة عن القسم الداخلي. عندما بدأت بالعمل، أُجْبِرَت على تركِ ستّةِ أطفال في المنزل، وكان أكبرهم عمره 13 عامًا وأصغرهم 4 أعوام، نظرًا لأنّها اضطرّتْ إلى النّوم في مساكن الطالبات، استمرَّ عملها لمدّة عقدين، وقمنا بتربية أنفسنا بأنفسنا واعتناء أحدنا بالآخر وبإشراف من ستّنا رُقَيَّة الّتي بقيتْ معنا ترعانا وتُرَتِّبُ أمورنا.
حكاية أسرتي تحكي قصّة شعب
رأيت لزاماً عليَّ وواجبًا وطنيًّا أن أنقلَ سيرةَ ومَسيرةَ ومسار أهلي آل العلمي، في رحلة بدأت مِن اللّدّ ذات يوم، يوم النَّكبة، الصّراع بدأ يومَها وما يزالُ مستمرًّا... خاطبت المجتمع الدولي والأُمَميّ حول معاناة اللّاجئين، كما قمت بجمع مذكّرات سيرة الاحتلال والانتفاضة في كتاب
"ممنوع التَّجوّل، بيتك بيتك"
مذكَّرات استندتْ على قصصٍ ومقالات وخواطر نُشِرَتْ في الصُّحف الفلسطينيّة والعربية وعلى شهادات عيان ويوميات حقوق الإنسان خلال الانتفاضة.
حكاية ستختصرُ قصّة عائلة الشهيد عبد الكريم العَلمي أول شهيد في حرب 1967 المتزامن وبداية الاحْتِلال ورحلة خروجه من اللّدّ، لدّ فلسطين، وبدايات الأونروا ومعاناة اللاجئين بعد نكبة 1948.
موقع أحداث السيرة اللّدّ، رام الله، والبيرة وكذلك القدس.
صراعُنا يبدأُ بِفَقدِ الأب بينما نحن أبناؤه نحاول رفعَ الجثّة المُضَرَّجَة بالدّماء وتقع على الأرض من جديد، ستقودُ أمّي السّيّارة وسيجلس الأطفال على الجثّة في الخلف.
"بيتك بيتك" هي مقولة فلسطينية تقال للدَّجاج -عند الغروب- لإدخاله إلى القنّ!
وهكذا كان يقولها الجنديّ لنا ساعة إعلان منع التّجوّل:
"بيتك بيتك"
ويلاتٌ ومصائبُ لسعتْ نارُها كلَّ بيتٍ فلسطينيّ، سرديّات تُحاكي الواقعَ الفلسطينيَّ وتداعيات العيش في المخيَّم والإغلاقات والعزل والفصل ومصادرة الحريات والعقاب الجماعيّ، وما بينهما فلسطينيّو الشَّتات.
هي الفلسطينية ومقولتها الشهيرة:
"ما تخفش".
على سبيل النّهاية
كثيراً ما حمدت ربّي بأن جدّتي ماتت قبل الانتفاضة، ربّما عَلِمَ الله بحالها فأراد التّخفيف من معاناتِها وهي التي كانت تردّد: "يا ربّ انتَ عالم بحالي أَنتَ غني عن سؤالي"، فكان لها من هذا الدّعاء نصيب...
دُفِنَتْ جَدَّتي وقبلها جدّي في مقبرةِ باب الأسباط في القُدس وكذلك عمّاتي الثّلاث، أما أعمامي فدُفِنوا في المهجر، بينما دُفِنَ أبي في السَّلط، وبدل أن تُدفن أمي في مقبرة عائلتها في القدس قرب المسجد الأقصى، بسبب إغلاق القدس أمام المقدسيّين المقيمين خارج القدس، دُفِنَتْ في البيرة على تلّة مُطِلَّة على مروج القدس... أما عن وصيَّتي أنا فقد أوصيت أن أُدْفَنَ في السّلط بجانب أبي.
أبي الَّذي اعتادَ مُشاهدةَ الأُفقِ الفلسطيني من شرفة منزلنا في رام الله في كلِّ عَشِيّة من عَشِيّات أيام الصّيف، إذ كان يأخذ منظاره لمشاهدة البحر وأضواء اللّدّ متلألئة في المدى البعيد... فيقول لنا:
هناك أرى اللّدّ!
ومع مرور الأيام، ما زال حفيدُه مع كلّ غروب يصعدُ إلى سطح المنزل، وبنفس الناظور الذي كان يمتلكُه جدُّه، يشاهدُ الأفق نفسه فيشير بيده إلى نفس النقطة الَّتي كان يشيرُ إليها جدُّه وأسمعُه كما سمعتُ أبي من قبله يقول "هناك أرى اللّدّ"
... وهذا أمل العودة.
القصة الفائزة بالمرتبة الثالثة
مسابقة أحسن قصّة عن مدينة اللّدّ العربيّة لعام 2024
جمعية اللد الخيرية عمّان المملكة الاردنية الهاشمية
رقيّة عبد الكريم شاكر العلمي.
بقلم: رقية العلمي
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!