الوضع المظلم
الإثنين ٠٤ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
أمريكا وتصورات الحل السوري
جمال الشوفي

تمر المنطقة والعالم بمرحلة شديدة التعقيد يظهر فيها تراجع للدور الأمريكي في المنطقة، مع بروز دور صيني هادئ ومتزن مقترن مع مبادرات عربية لتفعيل حلول للمنطقة، طال انتظارها. الملفت للنظر لليوم أن السياسة الأمريكية لم تُراجع ولم تدقق في طبيعتها في المنطقة التي نعيش فيها سوى من بوابة العداء أو الولاء. فبينما يبرز الدور العربي بقيادة السعودية بمبادرة لحل المسألة السورية وعودة التطبيع مع سلطة النظام السياسي فيها دون تحقيق خطوات متضحة فيها للحل وفق 2254، يبرز تباينات التحليل بين موافقة أمريكية عليها تتلوها تفسيرات بنيّة أمريكية باستيعاب المبادرة العربية ومعها سورية في حاضنتها! في المقابل تبرز مفاعيل حراك أمريكي داخلي مفاده منع التطبيع مع السلطة السورية، وهذا مخالف للتحليلات السابقة، فأين هي القصة؟

وفقاً لهذه السيناريوهات نتساءل هل تملك أمريكا تصوراً للحل في سوريا؟ سؤال مشروع يستلزم قليلاً من المراجعة والتحديد في ملفات المنطقة عموماً وسوريا خاصة:

السياسية الأمريكية تعتبر من السياسات المتغيرة والبراغماتية، لكنها تتسم بسياق عام استراتيجي تبنيه مراكز دراستها المختصة وفق سيناريوهات متعددة تستطيع من خلالها وضع تصور عام وخطط استراتيجية ومرحلية لتنفيذها. وهذا ما تفتقره السياسة العربية في المقابل سوى نادراً.

كتب بن رودس، مستشار الأمن القومي الأمريكي في فترة حكم باراك أوباما، في كتابه The World As It Is"" إن جل اهتمام أمريكا، وعلى رأسها أوباما في ذلك الوقت من الربيع العربي، هو إنجاز صفقتي الكيماوي السوري والنووي الإيراني، والتي قال فيها أوباما حينها "تمت المهمة ولا أريد أن أسمع عن سوريا بعد اليوم".

في عام 2015 كتب مركز راند الأمريكي دراسة بعنوان "خطة سلام من أجل سوريا"، تستند الخطة إلى تقسيم سوريا لمناطق آمنة كأساس للاستقرار والحل فيها. وهذه المناطق هي المتضحة لليوم في الواقع السوري: الساحل السوري إلى دمشق وتحت الوصاية والضمانة الروسية. شرق الفرات تحت الوصاية الأمريكية. شمال غرب سوريا في إدلب وشمال حلب تحت الوصاية والضمانة التركية، فيما ما زالت المنطقة الجنوبية قيد تجاذب لليوم بعدما هرجت عن الوصاية والضمانة الأردنية المفترضة. على أن يتم إدارة هذه المناطق بالمسيطرين عليها من قوى الأرض، لتبقى منطقة داعش الشرقية تحت الوصاية الدولية بعد طردها منها.

درجت حكومة رونالد ترامب على إدارة ملفات المنطقة بطريقة الابتزاز السياسي العام لجميع الأطراف الإقليمية، سواء الخليجية أو التركية، وذلك في سياق سياسة نفعية محضة، فحافظت على مواقعها الاستراتيجية ذات العصا الطويلة في إدارة ملفات المنطقة، خصوصاً من خلال تموضعها في مثلث التنف السوري، لتضغط بذلك على جميع الأطراف الفاعلة في الملف السوري، سواء الروس أو الأتراك والنظام وإيران، دون الدخول في مواجهات مع أي منها، بقدر الحفاظ على الاستقرار النسبي شرق الفرات وترك الملف السوري لفوضى عارمة دون إحداث بوادر حل جدية فيها.

فيما برزت إدارة بايدن بسياسة الخطوة مقابل خطوة في إدارة الملف السوري، والتي أوضحت المزيد من البرود الأمريكي اتجاه الملف السوري والمنطقة عموماً. فيما كانت بالمقابل ساخنة ومتعجلة في الملف الاوكراني والإفصاح عن ضرورة كسر وإيقاف تمدد روسيا فيها، لا وبل هزيمتها.

اليوم يهتم جميع السوريين، خاصة المقربين من دوائر صنع القرار الأمريكي في وضع ملامح تصور لطريقة ودور السياسة الأمريكية الجديدة في عهد بايدن وذلك بالاستناد لقوة وفاعلية القرار الأمريكي على الساحة الدولية. في هذا السياق يمكن وضع محددات عامة تقوم بها السياسة الأمريكية وتشمل الفاعلين في صناعة قراراتها نلخصها في نقاط عدة دون استنفاذ غيرها:

بقاؤها على رأس قمة الهرم العالمي في نظام أحادي القطب تنافسها عليه بالوقت الحالي كل من روسيا جيوبوليتيكيا والصين تقنيا واقتصادياً. وكل من الطرفين الأمريكي والروسي يتقنان اللعب بأوراق متعددة بذات الوقت وفق معايير مصالحها المرحلية والاستراتيجية، لتبدو أنه ثمة نقطتي اتفاق بينهما خلاف ذلك تتمثل بـ: تحجيم أدوار اللاعبين الإقليمين، التركي والإيراني في منطقة الشرق الأوسط. ثانيهما إيجاد محيط آمن لما يسمى بالأمن القومي الإسرائيلي المتشارك والمتداخل مع الدور الأمريكي من جهة، والروسي من جهة أخرى، خاصة في المسألة السورية.

خطوط المواجهة الروسية الأمريكية في سوريا أولاً لا يمكنها تجاوز الخطوط الحمراء المرسومة تحت عنوان عريض للقوى الكبرى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بحيث لا يمكن حدوث مواجهة مباشرة بينهما في منطقة معينة بقدر اللجوء للعقوبات الاقتصادية، الذراع الفعال في السياسة الأمريكية لليوم، ومع هذا لم ينفع قانون عقوبات قيصر في جعل الروس يميلون للحل السياسي في سوريا لليوم، سوى أن سياسة لا إعادة إعمار في سوريا بلا حل سياسي فيها تبدو ورقة قابلة للتنفيذ والتقارب بين السياستين حولها.

أمام أمريكا سلة متكاملة للعمل في الشرق الأوسط، سواء في العراق أو سوريا أو في الخليج العربي، ويأتي التمدد الصيني خارج حدودها اليوم والتوجه لتقريب التباين الخليجي الإيراني كعامل يعيق المساعي الأمريكية في البقاء متفردة في قمة نظام العولمة، ما يجعل الإرباك بادٍ عليها، وبالأصح لا تمتلك خطة واضحة أو تصوراً واضحاً حول آلية التعامل مع المنطقة لليوم ضمن هذه الملفات المعقدة.

حددت الخارجية الأمريكية في العام 2014 ما بدا أنه خطتها الاستراتيجية لمواجهة التمدد الجيوبولتيكي متعدد الأطراف المتمثل بالصين وروسيا وإيران، ويبدو أنها بدأت العمل من وقتها على وضع خططها الاستراتيجية لهكذا مواجهات قاسية، بدأت مفاعيلها بالاتضاح في مواجهات التقنية الكبرى مع شركة هوواي الصينية، ومع التمدد الروسي ووصوله للبحر المتوسط في سوريا واليوم في أوكرانيا، إضافة لاتساع رقعة التواجد الإيراني، دون أن تتمكن أمريكا لليوم من لجم مفاعيل أي منها. ما يجعل طبول الحرب العالمية الثالثة، التي كان هنري كسنجر 2013 قد حذر منها مبكراً، أكثر سماعاً اليوم من أي وقت مضى.

إذما أخذت سياسات الدول الكبرى، خاصة أمريكا، في الحذر بخطوطها الحمراء القوية هذه من تفادي المواجهات الحادة، فإن المسألة السورية ستصبح قريباً على طاولة التفاوض العالمي متعدد الأطراف لإيجاد حل فيها. هنا يمكن اتضاح معالم دور المبادرة العربية وقريباً دور أوروبي فعال فيها كحل وسط بين جميع الأطراف، وهذا ليس إرضاء للسوريين ومظالمهم بقدر تفادي هذا الاحتكاك الخطر على السلم العالمي.

ما يلحظ على السوريين غيابهم عن الساحة التحليلية بقياساتها الدولية ومعاييرها المدققة، المهمة التي من المفترض أن تكون محددة وفاعلة ودون مجازفات أيديولوجية ما زلت تمارسها معظم صنوف المعارضة السورية. ويلحظ أيضاً غياب دور مراكز الدراسات السورية عن قراءة المشهد العام وتقديم تصورات ومعطيات مدققة إزاءها. ما يستدعي في هذا السياق دور العقلانية والحوار الهادئ والمنتج في تحديد أولويات العمل الممكن وكيفية الاستفادة من هذه التباينات الدولية ولو بحدها الأدنى في وضع تصور للحل السوري، وإن كان جزئياً ومرحلياً، لكنه يبدأ بطوي صفحة الحرب والقتل الجزافي والتوجه نحو الفاعلية في ضرورة التغيير السياسي وبناء السلام العام كنقطة ارتكاز دولية مطلوبة اليوم وكل يوم وإلا فإن للدول الكبرى، وبمقدمتها أمريكا، سياساتها الموجهة والمستثمرة في قضايا المنطقة، وخاصة سوريا، التي بانت كنقطة تحول عالمي منذ 2015 لليوم، وقد تأتي النتائج بمستويات يصعب مواجهتها في القريب العاجل.

 

ليفانت - جمال الشوفي

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!