الوضع المظلم
الأحد ١٩ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
أفعى القش والكعكة السورية
عبير نصر

دعونا نسلّم بداية بما كتبه باتريك سيل في كتابه الشهير "الصراع على سوريا" والذي لم يستند فقط إلى موقع هذا البلد المفصلي في "منطقة المصالح الحيوية" الغنية بالثروات الطبيعية، وإنما استند أيضاً إلى حالة الضعف والتهميش التي كان يعانيها المجتمع السوري بعد الاستقلال، وإلى الدور المتعاظم للجيش في الحياة السياسية، حيث بدت الانقلابات العسكرية التي تناوبت على السلطة وكأنها محصلة لصراع القوى العربية والإقليمية والعالمية للسيطرة على هذا البلد والتحكم في موقعه وسياساته.

واليوم إذا تتبعنا مسارات تدخل الدول الكبرى في سوريا فلن نجد ثمة مساعٍ جدية لإنهاء الأزمة، بل سنجد تردداً مستمراً من قبل كلّ طرف انتظاراً لردّ فعل الأطراف الأخرى المشاركة في الصراع، أو انتظاراً لتقييم المرحلة وفق مصلحة الدولة المعنية. وفي الحقيقة الأوضاع الداخلية القلقة والصراعات الدموية تفاقمت مع تزايد التدخل الخارجي، ولم يكن من المتوقع أن يبقى كلّ طرف سوري مشارك في الصراع  الداخلي متحفظاً على التدخل الخارجي رافضاً له، خاصة وأنّ كل طرف كان يظنّ أنه سينتصر وأنّ عليه حسم الواقع لصالحه بأسرع وقت ممكن. بطبيعة الحال لم يعد من المفيد مناقشة من الذي اقترف ذنب الاستعانة بالخارج أولاً، بينما كلّ حصاد يتمّ لصالح قوة خارجية هناك خسارة سورية جسيمة مقابله.

وعليه من الصعوبة بمكان معرفة حدود أطماع الدول الكبرى، وكلّ دولة تتدخل على نمط أفعى القش المتوارية دون أن تتحفظ على سمومها. تنتفخ أطماعها الاستعمارية وتتمدد مع كلّ إنجاز تحققه على الأرض في مواجهة الخصوم. هكذا تعقدت الأزمة السورية مع مرور الأيام، إلى أن وصلت الأمور إلى ما هي عليه الآن من تجاذب وتنافر بين مختلف القوى المتصارعة، وبالطبع السوري وحده من يدفع الثمن.

إيران ماضية في مشروعها بكسب مزيدٍ من الأرض السورية. تركيا اقتطعت ثلث الشمال السوري. روسيا تهيمن على القرارين العسكري والسياسي. الولايات المتحدة الأمريكية ضمنت وجوداً شبه دائم في شرق الفرات. الخريطة واضحة لا شك.. رغم هذا لا يكاد يمرّ يوم في سوريا دون أن يشهد تجاذبات خطيرة وتصعيدات إعلامية وتحركات سياسية بين القوى الكبرى المسيطرة، وكلّ يشدّ "اللحاف" باتجاهه ضماناً لمصالحه الشخصية. خذ على سبيل المثال الحصاد السوري في الأيام القليلة الماضية: في اجتماع خاص أبلغ وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو نظيره التركي خلوصي أكار أنّ الجيش الأمريكي يسيطر على مناطق من سوريا حيث يتمّ إنتاج الهيدروكربونات بشكل غير قانوني، وأكد على سرقة الثروات، وعلى عدم شرعية العقوبات الأمريكية أحادية الجانب، وأنّ هذه القيود تؤدي إلى تفاقم الوضع الإنساني الصعب في سوريا. ولفت شويغو انتباه أكار إلى حقيقة أنّ الجيش الأمريكي موجود منذ فترة طويلة على الأراضي السورية كدولة ذات "سيادة"، ما يُعدّ انتهاكاً للمعايير الدولية، مشدداً على أنّ مسلحيّ الجماعات الإرهابية يتمّ تدريبهم في القواعد التي تنشرها الولايات المتحدة مثل قاعدة التنف. في المقابل عبرت أوساط سورية موالية عن أملها بعودة السيطرة على حقول النفط في منطقة الجزيرة السورية، وأشارت، بدورها، إلى أنّ الاحتلال الأمريكي يسرق نفط البلاد فيما يعاني السوريون أزمة خانقة في قطاع الوقود والطاقة.

بالتساوق مع ما سبق، أشار وزير نفط النظام السوري إلى أنّ "الاحتلال الأمريكي للجزيرة السورية هو سبب معاناة السوريين، حيث يقوم بسرقة النفط والقمح السوري، وأنّ امبراطورية الكذب (الأمريكية) تقوم بتجويع الشعب السوري". في هذا الوقت أخرج الجيش الأمريكي عشرات الصهاريج المعبأة بالنفط السوري وآليات محملة بمعدات عسكرية ولوجستية باتجاه الأراضي العراقية عبر معبرَي المحمودية والوليد غير الشرعيين مع العراق.

على صعيد متصل وخلال اتصال بين الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، أكد الأخير أن "باريس تدعم موقف إيران في معارضة تنفيذ بعض الدول عمليات عسكرية داخل سوريا". في السياق لفت تحليل إخباري تركي إلى أنّ طهران تعارض أيّ عملية عسكرية لأنقرة في شمال سوريا، لأنها تسعى لزيادة نفوذها في البلاد، ولا أهداف ثانية من معارضتها. وتأتي هذه التطورات بينما تستغل إيران انشغال الروس بالعملية العسكرية في أوكرانيا، حيث انتشرت الميليشيات الإيرانية خلال الآونة الأخيرة، في مواقع سورية استراتيجية، كثيرة متفرّقة بعد انسحاب فصائل حليفة لروسيا. شملت تلك التحركات عمليات إعادة انتشار وتموضع خوفاً من أيّ عمليات استهداف إسرائيلية. في المقابل روسيا ليست مهتمة بتوتير الأوضاع وهي تحاول كسب الموقف التركي في البحث عن حلّ سلمي للأزمة السورية. هذا أمر لا يؤذي سوريا، بطبيعة الحال، لكن عواقب دخول الجيش التركي إلى سوريا من غير السهل التكهن بها. الأسوأ من كلّ هذا، تحوّل البلاد إلى ساحة حرب مشاعة تجلّت في حيازة الكثير من الأطراف الدولية والإقليمية، إنْ بالأصالة وإنْ بالوكالة، موقعاً وركيزة عسكريين في خريطة الاقتتال السوري.

وفي ظلّ مناخ دولي مضطرب لم تتضح معالمه بعد، ونظام إقليمي ما يزال في طور الصياغة، والسلبية في المواقف الغربية والأميركية، ووضوح مطامع روسيا وإيران وتركيا وإسرائيل في سوريا، جاء البيان الختامي لقمة طهران الثلاثية كمخدر جديد: "تشارك الدول الثلاث (روسيا إيران تركيا) الرأي القائل بأنّ الأزمة السورية لا يمكن حلّها بالكامل إلا بالوسائل السياسية والدبلوماسية القائمة على الحوار بين الأطراف السورية، على النحو المنصوص عليه في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، وعلى السوريين أنفسهم تحديد مستقبل سوريا دون فرض (وصفات أو نماذج جاهزة) من الخارج". ووفق المحلل السياسي الإيراني أحمد زيد أبادي، تريد الدول الثلاث التنسيق "على الأقل من أجل عدم زيادة التوترات بينها"، بينما التفاهم ليس محسوماً، إذ لكلّ من هذه الدول رؤيتها الخاصة بشأن سوريا، وفي أعقاب الحرب في أوكرانيا، لا شك تباينات جديدة نشأت بينها.

من ثورة كرامة، لا بدّ أن تكون مكلفة لتحقيق أهدافها، إلى محنة شعب وأزمة بلد حملت السوريين فوق طاقاتهم بكثير. هذه هي نتيجة تدخل العظماء، إنهم يستحوذون على القرار، وهم الذين يملكون المال، وهم الذين يحملون العصا الغليظة، وما على أصحاب الشأن إلا الانتظار، بعدما شلّت القوى المتصارعة قدرة السوريين على اتخاذ القرار. عجزٌ تمخّض عنه انهيار الاقتصاد وتدمير البنى وانعدام الأمن وعزلة البلد، التي غدت مفردات كارثية في قاموس الحياة السوري. كلمة الفصل حول سوريا لا بدّ أن تقال أولاً في "البيت الأبيض"، والباقي بعد ذلك تفاصيل من الممكن التفاهم عليها مع روسيا، التي تقارب المسألة السورية من زوايا متعددة، ترجمها على أرض الواقع قول وزير خارجيتها سيرغي لافروف -وهو يستقبل مبعوث الأمم المتحدة لسوريا بيدرسون- حين ذكر أنّ أهداف موسكو في سوريا تتبدل مع مرور الزمن. الصراع على الكعكة السورية مستمر دون هوادة، بينما يستعير السوريون من الألم ما لا يعلمه إلا الله، وما من جهة قادرة على تهيئة حلّ يرضي جميع الأطراف، وهنا يكمن لبّ الأزمة السورية التي وصفها المسؤولون الأمميون غير مرة بأنّها مأساة العصر والمسألة الأشد تعقيداً منذ الحرب العالمية الثانية.

ليفانت - عبير نصر

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!