الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٤ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
الثورات المهزومة ''الربيع العربي نموذجاً''
الثورات المهزومة ''الربيع العربي نموذجاً''

الثورات المهزومة ''الربيع العربي نموذجاً''





لا يوجد في التاريخ ثورة نجحت في تحقيق شعاراتها سياسيا ، فثورة العبيد سبارتاكوس سقطت في مستنقع الجريمة وأكلت بعضها ، والثورة الفرنسية التي قطعت رأس الملك والملكة سرعان ما تابعت بقطع رؤوس قادتها ( سوف تلحقني يوما يا روبيسبيير ) ، ولم تستقر بقيمها الحرة إلا بعد 100 عام على اندلاعها ، أما الثورة البلشفية في روسيا فقط دخلت في حرب أهلية طويلة ، ثم انتهت لسلطة مستبدة حيث لم تكن (ديكتاتورية البروليتاريا أكثر ديموقراطية بكثير من ديموقراطية البورجوازية) كما زعمت ، بل أنتجت سلطة مستبدة فاشية فاسدة عادت بالمجتمع للعصر العبودي آعدمت 10 مليون روسي لتثبيت حكمها ،


لذلك انهارت سلطاتها ذاتيا بعد 70 سنة من القمع ، وثورة الصين نجحت في تحرير البلاد وتوحيدها لكنها اضطرت لقتل 100 مليون انسان لتحقيق ثورتها الثقافية ، ثم تخلت جملة عن كل مبادئ الشيوعية وثقافتها لتعود لتطبيق تظام رأسمالية الفساد الذي يمعن في استغلال العمال ليحقق قدرة على المنافسة .


وإذا اتفقنا مع عبد الله النديم في اعتبار الإسلام ثورة سياسية ( راجع كتابة الثورة والآيديولوجيا الثورية ) فإن ثورة الإسلام السياسية لم تنجح أيضا ( بغض النظر عن انتشار الدين طبعا ) فقد عاد (بعد 30 سنة من وفاة الرسول) الحكم المطلق الوراثي (حكم المتغلب) وبسلالة من قادة قريش الطلقاء الذين ثار عليهم . فهل بعد ذلك نستغرب فشل ثورات الربيع العربي في تحقيق أحلامها ؟


الثورة ظاهرة مبدعة وفريدة ولا تتكرر ولا يوجد تشابه بين ثورة وأخرى ، لذلك العلوم السياسية لا تدرّسها ، الثورات ليست صالحة لتكون موضوعا للعلم ( التجريبي ) وكل خبراء السياسة لا يفهمونها ، بل يسقطون عليها علومهم التقليدية عن العلاقات بين الدول أو عن مقارنة النظم ، الثورة ليست نظام بل فوضى وتحطيم لهذا النظام ، تأخذ شكلها التحطيمي بناء على تركيبة هذا النظام وظروفه وظروفها ... فهي ليست قرار واعي مخطط مسبقا لقوى منظمة ومنضبطة ... لتكون سلمية أو عسكرية أو جهادية ... إلخ ، تأخذ شكلها تبعا للحاجات والامكانات والظروف، وليس بناء على قرارا كان من الممكن تفاديه . والثورة كفعل تحطيمي تجعل الجميع يخسر ويشعر بالألم تحطم البيت الذي تسكنه التشكيلة الاجتماعية ، فمقارنتها بمرحلة الاستقرار مقارنة غير منصفة ... ( كنا عايشين ).


الثورة كفعل تمرد وتحطيم تحدث عندما ينسد باب التطور والتغيير السياسي حيث تعيق البنى الفوقية ( الثقافية السياسية ) المتكلسة تطور وتغير البنى التحتية (قوى الانتاج والاستهلاك) لدرجة الاختناق ، هذا التناقض بين البنى التحتية والبنى الفوقية التي من المفترض أن تعبر عنها ، والناجم عن نقص مطاوعة الفوقية للتحيتة ، ينفجر على شكل ثورة في الشارع تهدف أساسا لتحطيم البنى الفوقية ( النظام السياسي وتحدي السلطات القائمة عليه ) أملا في حدوث تغيير في بنية وطبيعة السلطة ، وهذا لا يشترط أبدا وعي ما يجب تغييره ، فالشعوب تتحرك بحاجاتها وأحاسيسها ، ولا يمكن لعمل (منظم ومدروس وواعي ومخطط ) أن ينجح في تفجير ثورة عارمة خاصة في الدول الحديثة المستبدة ذات الأجهزة التي تمتلك القدرة الهائلة على المراقبة والمعاقبة والضبط والتحكم ،


ويندر في التاريخ وجود ثورة منظمة ومنضبطة ومدركة لأهدافها فالوعي الثوري شرط نظري غير واقعي ، والتنظيم والضبط المؤسساتي أيضا شيء غير متوقع فالثورة جمهرة وهياج جماعي عاطفي وعفوي ، وإلا فهي انقلاب مؤسسات على مؤسسات ، أو تطور طبيعي سمحت به البنى الفوقية ( التي احتفظت ببعض المرونة ) حيث يرفض الجيش أو الأمن تنفيذ الأوامر وينصاع لرغبة الشارع ويحرس سلطات جديدة تختلف شكلا فقط عن القديمة ، أو تستجيب السلطات لصوت المظاهرات وتتنحى لغيرها الذي لا يختلف عنها ، لذلك يندر أن توجد ثورة ضد نظم مستبدة مجرمة نجحت في تحقيق شعاراتها ، بل غالبا ما تعيد انتاج الاستبداد إذا لم تحطم بناه وأسسه المؤسسية والثقافية وهي الأهم ، وفي كل الأحوال فإن ما يتحقق صبيحة أي ثورة هو شيء آخر مختلف كثيرا عن تصورات وأحلام عشيتها ... فعندما تتنحى السلطات سرعان ما تعود من الشباك بعد أن تخرج من الباب ، وعندما تتحطم المؤسسات يصعب كثيرا إعادة بناء مؤسسات مختلفة عن الأولى من قبل الثوار الذين يحملون ثقافة العهد البائد .


السبب في ذلك هو الديناميكية الحركية التي تتصف بها التشكيلات الاجتماعية ( الدول ) فالتشكيلة لها ثلاث ابعاد ( اقتصاد ثقافة سياسة ) تتجه الحركة من الاقتصاد الذي يعبر عن نفسه في الثقافة التي تعتبر الأساس الذي تبنى عليه السياسة ، والتي تسيطر على مفاصل الاقتصاد وتوجهه وتشرف كنظام سياسي على توزيع الحصص من الثروة والسلطة على الطبقات والقطاعات والأفراد، وهكذا تدور الحلقة ، وعندما ينغلق باب التغيير وتدخل التشكيلة بالجمود بسبب الاستبداد ، فإن البنى تعيد انتاج نفسها بقوة القمع وبقدرة أجهزة الدولة ذاتها الأمنية والعسكرية والخدمية التي تجند جميعا لخدمة بقاء السلطة والنظام .


وما تحدثه الثورة هو كسر الجمود وكسر حلقة الركود هذه، فكسر حاجز الخوف والطاعة هو الأساس الذي يعبر عن الثورة وهو شيء ثقافي ، والتي تعبر عن نفسها كرفض وتمرد لاستمرار تلك الديناميكية ، لا تشترط نضوج ثقافة مغايرة ولا مؤسسات مختلفة نوعيا بل تبلور رغبة في الرفض ( الشعب يريد اسقاط النظام ) ... لذلك تمر هذه الثورات بمراحل تجريبية طويلة بعد اسقاطها للنظام ، تجرب كل شيء قبل أن تستقر على الشكل المناسب المعبر عن البنى التحتية واحتياجات ورغبات المنتجين .


لقد كسر الربيع العربي دوامة الركود وتجديد الاستبداد الذي تغطى بالفكر القومي العربي الفاشي ، وكان عليه أن يجرب النظريات السياسية الإسلامية واثبات فشلها كبديل ، قبل اكتشاف ثقافة وقيم الديموقراطية ودولة المواطنة التعاقدية ، دولة الحق والقانون والمؤسسات ، إن ما سمي بالربيع الإسلامي مرحلة كان لا بد من المرور بها لاختبار امكانية أن يوظف التراث في صناعة المستقبل عند الشعوب التي يصعب عليها التخلي عن الهوية العريقة ... لا يوجد في الموروث التراثي الثقافي العربي الإسلامي أي جذور للفكر الديموقراطي ،


لذلك أعادت الثورات انتاج النظم القديمة بطريقة أو أخرى ، أو حاولت انشاء نظم اسلامية سرعان ما اصطدمت بمشاعر الجماهير وحاجاتها وبنمط الحياة العصري الذي لا يقاوم ... لذلك صار نجاح الثورات مشروطا بإيجاد تفاهم وتوافق بين الهوية والحداثة ، وبين الدين والدولة الديموقراطية ، وهذا العمل الفكري الثقافي لا يدرس بالكتب بل يتعلم بالتجربة ، فطريق نجاح الثورات ليس مستقيما صاعدا بل متلوي ومتعرج وطويل ، المهم هو استمرار الثورة كما نظر تروتسكي الذي اغتاله ستالين ، أي استمرار رفض كل ما لا يحقق مصالح وحاجات وأحلام الثوار ، حتى لو كان من منتجات الثورة ذاتها أو ركب عليها وسرقها لصالحه ..

في المقال القادم ( متى تهزم الثورة السورية )


كاتب وسياسي سوري

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!