الوضع المظلم
الأحد ٠٥ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
‎روسيا وكذبة العداء التاريخي مع الأتراك
وليد جولي

يراهن الكثيرون على مسألة العداء التاريخي بين موسكو وأنقرة، في حالات تصاعد التهديدات التركية لشمال سوريا، وأنه من غير الممكن أن يجتمع الطرفان في خيمة واحدة، وأن التفاهمات الروسية التركية حول سوريا، ما هي إلا تفاعلات تكتيكية في سياق أزمات المنطقة، أو لاعتبارات تتعلق بالاهتمامات الجيوسياسية المشتركة بين الجانبين، وأنه بالنهاية يبقى ولاء أنقرة المطلق لأسيادها الغربيين.. لكن في واقع الأمر، تبدو تلك الرؤية ساذجة، وغير منطقية، مقارنة بالتوجهات السياسية لكلا  البلدين.

بعيداً عن البازارات الروسية التركية على سوريا في مسارات أستانا وسوتشي، وعن دور الروس في تمكين الدولة التركية في احتلال مساحات واسعة من الشمال السوري، بدءاً من عفرين ربيع ٢٠١٨، وصولاً إلى كري سبيه "تل أبيض" وسري كانيه "رأس العين" ٢٠١٩، إلى جانب الحديث الأخير عن احتمالية قيام تركيا بعمل عسكري جديد في مناطق الشمال السوري، والحديث مجدداً عن الموقف الروسي، إن كان سيعطي الضوء الأخضر لأنقرة أم لا، فإنه هناك عدة عوامل ومؤشرات تاريخية، من المنظور القريب والمتوسط، تضع العلاقة الروسية التركية في مصافي العلاقة الاستراتيجية وليس التكتيكية، فرغم  ادعاءات كلا الطرفين بأن هناك عوائق تاريخية وسياسية، تحُول دون وصول العلاقة إلى المستوى المطلوب، وتحميل أسبابها للعمق التاريخي، إلا أن مجمل تلك الخلافات كانت قبل تأسيس الجمهورية التركية، أو قبل حرب "الاستقلال"، والمؤشرات والثوابت التاريخية توضح ذلك تماماً، وأن تلك الخلافات زالت مع سقوط الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية، في العقد الأول من القرن المنصرم، فنجد أن العلاقة بين الطرفين كانت في أحسن أحوالها، في مرحلة تأسيس الجمهورية التركية، في بداية العشرينيات من القرن المنصرم، لأن البلاشفة كانوا ينظرون لحركة مصطفى كمال على أنها حركة تقدمية من منظور "الحتمية التاريخية"؛ ومن ناحية أخرى، كان هدفهم ينصبُّ حول  نشر  الفكر الشيوعي في الشرق الأوسط، انطلاقاً من البوابة التركية، ولذلك جاء الدعم السوفييتي المفتوح لمصطفى كمال في بداية "حرب التحرير"، حتى خلال الحرب العالمية  الثانية لم يكن الموقف التركي عدائياً بالنسبة لموسكو، فنجد أنه تم عقد اتفاقية عدم  المواجهة بين موسكو وأنقرة، وأبقت أنقرة على علاقاتها الاقتصادية مع كلا طرفي الحرب، ألمانيا والسوفييت، وقد استطاع الأتراك الاستفادة من تلك العلاقة طيلة أعوام الحرب الباردة، عبر استخدامها كورقة ضغط  أثناء تصاعد الخلافات بين أنقرة واشنطن، كأزمة الصواريخ الكوبية ١٩٦٢، التي سحبت فيها أمريكا صواريخها من طراز "جوبيتير" من تركيا، مقابل سحب موسكو صواريخها من كوبا، مما دفعت بحكومة اليسار التركي برئاسة "بولند أجويد" في أواخر السبعينيات، إلى الإعلان عن حزمة ترتيبات سياسية جديدة، منها إعادة النظر في علاقة تركيا بأمريكا، وضرورة التحرر من هيمنة سياسة الأخيرة على القرار التركي، والتوجه نحو إنشاء علاقات متينة مع موسكو، وقد تعززت تلك العلاقة بشكل أوسع بعد الاجتياح التركي لشمال جزيرة قبرص ١٩٧٤، كردّ فعل للموقف الأمريكي- الغربي الرافض للسياسة التركية تجاه اليونان وقبرص، لينقلب الموقف السوفييتي أيضاً من الرافض إلى الداعم للسياسة التركية.

وما يميز سياسة "العدالة والتنمية" حالياً، أنها تعتمد على ما يناسبها من التجارب التاريخية وتضعها في خدمة مشاريعها التوسعية، بدءاً من تجارب الدولة العثمانية، وصولاً إلى سياسة "التوازن"، التي اتبعها "مصطفى كمال" والحكومات اللاحقة، كشعار أتاتورك الشهير (سلام في الداخل، سلام في الخارج)، الذي أعاد حكومة "العدالة" صياغته تحت مسمى سياسة "صفر مشاكل"، ومن المعروف أنه دائماً ما يتم العمل بهذه السياسة أثناء الأزمات الدولية والإقليمية، وذلك بهدف الخروج بأقل الخسائر من الصراعات، والاستفادة من الفراغات الناتجة عنها، لخدمة أهدافها القومية التوسعية، وفق سياستها المعتادة (ملء الفراغ)، التي انتهجتها في أفغانستان، والعراق، وموجات التغيير الحاصلة في بعض الدول العربية، وأزماتها القائمة.

ومن خلال الاستشفاف من تاريخ الجمهورية التركية، ومن موقفها الضبابي حيال الحرب الروسية الأوكرانية، كان من المتوقع أن تعمل حكومة العدالة والتنمية على استغلال تلك الحرب، لخدمة أهدافها في الشرق الأوسط، وخاصة في سوريا والعراق، وهو أن تضع نُصبَ أعينها تنفيذ مشروع "الميثاق المللي" الذي يتم الترويج له -بشكلٍ كثيف- من جانب الرئيس التركي وقادة أركانه، ومن يطّلع على المضمون الجغرافي للميثاق المذكور، ونشاطات الاستخبارات والجيش التركي، في كلا الجزئين من كردستان، سيتضح له أن  بيان مجلس الأمن القومي التركي الأخير، بخصوص غرب وجنوب كردستان، يهدف إلى تطبيق ذلك الميثاق، ومن أخطر الخطوات التي تعمل عليها الدولة التركية في هذا السياق، هي عمليات التغيير الديمغرافي الجارية على قدم وساق في المناطق الحدودية لسوريا والعراق ( المناطق الكردية).

بالعودة إلى العلاقة الروسية التركية، نجد أن دور روسيا -وقبلها الاتحاد السوفييتي- لم يكن بأقل أهمية من دور الإنكليز، والحركة الصهيونية،  في عملية توحّش الدولة التركية، رغم أنه كان من المقرر في مباحثات السلام بين دول الحلفاء، في عامي ١٩١٩- ١٩٢٠، أن تكون تركيا أضعف من أضعف دولة شرق أوسطية، ولكن في ظل تناقضات الأحلاف الدولية، أصبحت تركيا على ما هي عليه الآن، دولة تمارس البلطجة في نصف الكرة الأرضية.

إن التناغم السياسي بين موسكو وأنقرة، سيما في عهد الرئيسين بوتين وأردوغان، والذي شمل  التعاون والتنسيق المستمر في المجالات العسكرية والأمنية، وصولاً  إلى ملفات القوقاز وآسيا الوسطى ذات الاهتمامين المشترك، ومشاريع الطرق التجارية العابرة للقارات، إلى جانب التبادلات التجارية، التي من المتوقع أن تصل لمئة مليار دولار سنوياً  بحلول العام ٢٠٢٣، ناهيك عن التنسيق في مجال الطاقة النووية، كل ذلك يثبت أن العلاقة الروسية التركية ليست بأقل ودية من علاقة أنقرة بدول الناتو، بل وقد تكون أكثر، فمن يتابع حجم هوة الخلافات بين أمريكا وتركيا في غالبية الملفات المتعلقة بالسياسات الاقتصادية والعسكرية وغيرها، سيتضح له أن الالتزامات المترتبة بين الجانبين ما هي إلا في سياق المسايرة والتوجس من القطيعة النهائية، التي من الممكن أن تسبب في إفشال المشاريع الغربية في المنطقة، وبالتالي إحداث خلخلة في التوازنات الدولية، وأنقرة تدرك جيداً هذه المعادلة، لذلك نجدها تندفع نحو استثمار هذه النقطة، لتمرير سياساتها التوسعية.

لذلك، من باب المقارنة بين موقف واشنطن وموسكو من السياسات التركية حيال الشمال السوري، فإنه سيكون من الصعب الحديث عن موقف روسي مواجه أو رادع للتهديدات التركية، وقد يكون هناك بازارات جديدة بين موسكو وأنقرة في هذا السياق، تتعلق بموقف تركيا الداعم لروسيا في حربها على أوكرانيا، وقد تجلّى ذلك في اللقاء الأخير بين وزيري خارجية البلدين، والتي عبّرت فيها تركيا على لسان وزير خارجيتها، عن موقف بلاده الرافض للمشاركة في العقوبات الغربية على موسكو، وتخليها عن تأمين ممر آمن في البحر الأسود، لعبور السفن الأوكرانية المحمّلة بالمواد الغذائية إلى الخارج، وهذا بالتالي يضع احتمالية ارتكاب الدولة التركية حماقة في المناطق التي حددتها مؤخراً في غرب الفرات، ذلك لضمانها الموقف الروسي، أما الخطوات التالية بشأن شرق الفرات، والتي تتبع لنفوذ الولايات المتحدة الأمريكية، فمن الممكن أن تتعثر على خلفية التطورات الجارية بين موسكو وأنقرة، وترفع من احتمالية الضغط الأمريكي على السياسة التركية في جميع المناطق المستهدفة من أنقرة، ومن ضمنها شمال سوريا، وقد تعيد أمريكا وحلفائها جميع الملفات التركية العالقة على طاولة الحسابات، وفي مقدمتها الملف القبرصي، وقضية مجازر الأرمن.  
 


ليفانت - ‎وليد جولي

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!