الوضع المظلم
الأحد ٢٨ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
‎الأدب والجمال و
 ‎حاتم السروي

‎ما الأدب؟ إنه عنوان كل حضارة إنسانية فهو الذي يتكلم بصوتها ويضيء ملامحها ويظهر مآثرها، وهو مقياسٌ ودليلٌ على ما وصلت إليه من الرقي والتمدن، و"الأدب" مصطلح يتمتع بالمرونة بحيث أنه يتطور مفهوماً وموضوعاً مع تطور التمدن الإنساني، وما تزال الدراسات تترى فيما وصلنا من آداب الأمم السابقة، وأبرزها الأدب اليوناني وما فيه من كنوز خالدة.
‎أما عند العرب فلدينا تاريخ حافل يبدأ من العصر الجاهلي الذي نشأ عند العرب في الفترة السابقة على الإسلام، وقد عُرَف العرب بالشعر وحفظوه وتداولوه حتى قال شيخ النقاد محمد بن سلام الجمحي "ت: 232هـ": "كان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم ومنتهى حكمهم، به يأخذون وإليه يصيرون".
‎على أن العرب رغم طول باعهم في الأدب لم يضعوا له تعريفًا حتى جاء عصر التدوين، ونعني به العصر العباسي الأول، وذكروا في تعريف الأدب أنه: "الأخذ من كل شيء بطرف" بمعنى أن الأديب رجل يجيد معارف شتى وقد أخذ من كل علمٍ بنصيب، وهذا عينه هو المفهوم العصري لكلمة "مثقف".. وربما أخذنا على ذلك مثالاً من صنيع وزير المأمون "المثقف" الحسن بن سهل "ت:236هـ" حين عدد آداباً عشرة جمع فيها بين علوم عصره وفنونه وآدابه، على أن مفهوم "المثقف" حينها والذي ينطبق أيضاً على "الأديب" كانت له سمة ربما لا توجد في كثيرٍ من أدباء عصرنا ومثقفيه، ألا هي "الموسوعية" ونجد قامة أدبية باذخة مثل الجاحظ يصف "خالد بن يزيد بن معاوية" المتوفى سنة 90 هـ بالأديب نظراً لموسوعيته فقد كان في نظره: "خطيباً شاعراً وفصيحاً جامعاً، جيد الرأي، كثير الأدب" ثم يمنحنا معلومة نشكره عليها إذ يقول إنه: "كان أول من ترجم كتب النجوم والطب والكيمياء".
‎ومع تطور الحياة الثقافية وبتأثير الترجمة عن الأمم الأخرى، أضحى استعمال كلمة "أدب" يأتي بالمعنى الذي وضحه ابن خلدون في مقدمته: "المأثور من فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم" فهو إذن ما جاء عن أدباء العرب من شعر ونثر على مقتضى الأساليب الأدبية عند العرب، على أن فكرة الموسوعية لم تبرح هذا المفهوم المتطور أيضاً؛ إذ كل ما تمت كتابته في إطار النثر من أخبار وتراجم وقصص وأمثال وخطب، بل ومن النحو والفقه واللسانيات، عُدَّ أدباً، وقد يغلب على بعض الكتب الاهتمام بفن دون آخر من الفنون، إلا أن الطابع العام للأدب في العصر الوسيط هو "الأخذ من كل شيء بطرف" ولهذا جاءتنا المؤلفات الأدبية أشبه ما تكون بالموسوعات الثقافية، وبما لا يبعد أيضاً عن النزعة الإنسانية، فالأدب كان وما يزال كما يقول د. محمد مندور: "مجموعة من المؤلفات تملك الإثارة العاطفية والفكرية"
‎وقد استقر رأي مشايخ الأدب –إذ كانت العلاقة راسخة بين الأدب والدين في هذا العصر- على أن أصول فن الأدب وأركانه في أربعة دواوين، وهي كما يخبرنا ابن خلدون في المقدمة: "أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، والنوادر لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فتبعٌ لها وفروعٌ منها" وغنيٌ عن البيان أن هذه الكتب الأربعة أخذت من كل غنيمة بسهم فهي بحق مثال واضح على "الموسوعية".
‎وحيث قد مال بنا الحديث إلى "الموسوعية" فإن هذا يدخل بنا مباشرةً في موضوع هذا المقال "كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه" فنقول:
‎"العقد الفريد" هو دون شك أحد أشهر الكتب الموسوعية في التراث العربي، فهو كتاب يجمع في صفحاته طرائف من الأديان، والأنساب والأخبار، والأمثال، والشعر، والعروض، وما ورد في التوراة الإنجيل والقرآن، وما جاء من مُلَح ومواعظ عن الفرس واليونان والهنود، ورغم أن "ابن عبد ربه" أندلسي إلا أن روح المشرق تطل علينا من صفحات عقده الفريد، ترى ما السبب؟
‎الحق أن المؤلفات الأدبية في المشرق العربي الإسلامي كان لها وقعٌ وصدىً في بلاد المغرب، فقد قرأها أدباء الأندلس، وحاكوها ونحوا منحاها في التصنيف، وكان أبرز من فعل ذلك منهم هو "ابن عبد ربه" الذي قد نعجب من اقتصاره في العقد على أخبار المشارقة، بيد أن العجب يمكن أن يزول حين نعرف من الباحث "جودت الركابي" أن المشرق في نظر الأندلسيين هو موطن الأدب واللغة، ومؤلفاته تحتل المكان الأسمى، وإليه تتجه الأنظار.
‎وهناك سببٌ آخر يطل علينا في ذات السياق؛ ألا وهو أن المصادر التي اعتمد عليها "ابن عبد ربه" جُلُّها مشرقية؛ إذ نراه ينقل عن "كليلة ودمنة" لابن المقفع، وعن "الحرف في اللغة" لأبي عمرو الشيباني، وعن "الأصمعيات" للأصمعي، وعن "السيرة النبوية" لابن هشام، وعن أخبار أبي الحسن المدائني، وعن أبي عبيدة معمر بن المثنى، وعن "طبقات فحول الشعراء" لمحمد بن سلام الجُمَحِي، وعنه أيضاً كتاب "الأمثال" وقد ضمَّنه في العقد بشيءٍ من الاختصار، ونقل أيضاً عن البخلاء للجاحظ، وكذلك البيان والتبيين له، كما أخذ من "عيون الأخبار" لابن قتيبة، ومن "الكامل" للمبرِّد، ويضاف إلى كل ما سبق ما وجده من دواوين الشعراء سواءً في الإسلام أو الجاهلية.
‎ويروى عن "الصاحب بن عباد" أنه كان يسعى ويجد في طلب "العقد الفريد" لشهرته، فلما وجده قال: "هذه بضاعتنا رُدَّت إلينا" فقد ظن الصاحب أنه سيتعرف من خلاله على بلاد الأندلس وآدابها؛ فإذا بالكتاب يكلمه عن أخبار المشارقة!
‎ولكن ما الهدف من كتابة "العقد الفريد؟ كان الأقدمون من أرباب الأقلام يتوخون تهذيب السلوك وإنارة العقول، وهم بهذا يرون للأدب سبيلًا وغاية يجب أن يصل إليها، ومن هنا فقد صرح "ابن عبد ربه" بهدفه السامي من كتابة العقد، ألا وهو التعليم والتهذيب، فهو كما يخبرنا يسعى وراء الزبدة، كمن يقطف من أشجار كل بستان أطيب ثمراتها ليقدمها لقارئه ولهذا نراه يقول في مقدمته للعقد: "وبعد.. فإن أهل كل طبقة وجهابذة كل أمة قد تكلموا في الأدب، وتفلسفوا في العلوم على كل لسان ومع كل زمان، وإن كل متكلم منهم قد استفرغ غايته، وبذل جهده، في اختصار بديع معاني المتقدمين، واختيار جواهر ألفاظ السالفين، وأكثروا في ذلك، حتى احتاج المختصَر منهم إلى اختصار والمتخيَّر إلى اختيار".
‎ولما كان ما جمعه "ابن عبد ربه" في كتابه الموسوعي الحافل هو منتهى علوم الحكماء، وخلاصة تجارب الزعماء، وأبدع ما قاله الأدباء، وجوهر ما أخبر به الإخباريون وأهل التواريخ، لذا رأى كتابه تحفة أدبية جديرة باسم يعبر عن نفاستها، فكان أن سماه "العقد الفريد" وقال في ذلك: "وسميته كتاب "العقد" لما فيه من مختلف جواهر الكلام، مع دقة السلك وحسن النظام، وجزأته على خمسةٍ وعشرين كتاباً، كل كتابٍ منها جزآن، فتلك خمسون جزءاً، في خمسةٍ وعشرين كتاباً، وقد انفرد كل كتابٍ منها باسم جوهرة من جواهر العقد".
‎وحتى يعرف القارئ العزيز نفاسة هذا الكتاب وحسن تأليفه وما فيه من متعة نقف به على نبذة من "عقد الزبرجد" إذ يقول ابن عبد ربه:
‎"ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الأجواد والأصفاد؛ إذ كان أشرف ملابس الدنيا وأزينُ حُلَلهِا وأَجْلبُها لحمد وأدفعها لذمٍّ وأسترها لعيب: كرم طبيعة يتحلى بها السَّمْحُ السَّريْ، والجَوَادُ السَّخِيْ. ولو لم يكن في الكرم إلا أنه صفة من صفات الله تعالى، تسَمَّى بها فهو الكريم عز وجل. ومن كان كريماً من خلقه فقد تسمى باسمه واحتذى على صفته. وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إذا أتاكم كريمُ قومٍ فأكرموه" وفي الحديث المأثور: "الخلق عيال الله فأحبُّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله".. ويحكي لنا "ابن عبد ربه" أن المأمون خليفة بني العباس قال لمحمد بن عَبَّاد المهلبي: أنت متلاف..قال: منع الجود سوء ظن بالمعبود.. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "أنفق بلالا، ولا تخشَ من ذي العرشِ إقلالا"...وقال لقومٍ من العرب: "من سيدكم؟ قالوا: (الجِدُّ بن قيس) على بخلٍ فيه؛ فقال: وأيُّ داءٍ أدوَأ من البُخل؟!".. وننهي المقالة بهذه الحكمة الجميلة التي يعلمنا إياها سيدنا أبو ذر الغفاري كما في كتاب العقد، فهو يقول: إن لك في مالك شريكين، الحدثان والوارث؛ فإن استطعت ألَّا تكن أبخس الشركاء حظًا فافعل" يعني إن لك في مالك شريكين هما: الأيام (والحدثان بمعنى الليل والنهار) والوارث؛ فلا تبخل على نفسك ولا تكن أقل الشركاء حظًا، فإنك تنفق في شؤن الدنيا رغمًا عنك والوارث سيأخذ مالك ذات يوم، فلماذا لا تستمتع بمالك في الحلال؟

ليفانت - ‎حاتم السروي
 
 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!