-
هل يُدمّر هاتفك الذكي ذاكرتك؟
ترجمات ليفانت
الغارديان
تقرير خاص عن ظهور “فقدان الذاكرة الرقمي”
“لا أستطيع تذكر أي شيء” هي شكوى شائعة هذه الأيام. هل لأننا نعتمد بقوة على هواتفنا الذكية؟ وهل تمنعنا التنبيهات والمشتتات والتسالي الكثيرة من تكوين ذكريات جديدة؟
فاتني الأسبوع الماضي لقاء مع أحد الأشخاص لأنني نسيت تسجيله على هاتفي الذكي. ولكني تذكرت في نفس اليوم حدثاً مضى عليه عشرين عاماً. يالغرابة الذاكرة لا يمكن التنبؤ بها. وفق علم الأعصاب لم تُفهم بالكامل. عندما تحدث هفوات في ذاكرة كذاكرتي (وما أكثرها)، فمن السهل والمنطقي لوم التكنولوجيا الحديثة.
هل وضع الذاكرة في جيوبنا يعني إخراجها من رؤوسنا؟ هل أفقد قدرتي على تذكر الأشياء، كالمواعيد والواجبات، لأنني أتوقع قيام هاتفي بذلك؟ قبل الهواتف الذكية، احتوت رؤوسنا على ذاكرة تخزين مؤقت لأرقام الهواتف وعلى خريطة معرفية أنشأناها عبر الزمن لتسهيل تنقلاتنا. ولكن مستخدمي الهواتف الذكية لا يصدقون ذلك.
تشكل أدمغتنا وهواتفنا الذكية شبكة معقدة من التفاعلات: دخلت الهواتف الذكية حياتنا منذ منتصف العقد الأول من القرن الحالي وزادها الوباء، وكذلك الإنترنت عموماً. فديمومة لتوتر والعزلة والإرهاق -منذ مارس 2020 -تُعرف بتأثيرها على الذاكرة. في استطلاع أجرته باحثة الذاكرة كاثرين لوفداي عام 2021، شعر 80٪ أن ذاكرتهم ساءت عما كانت عليه قبل الوباء. جائحة Covid-19 والأخبار الكئيبة حطمتنا ولا تزال.
يلجأ معظمنا إلى اللهو بمواقع التواصل الاجتماعي طلباً للتهدئة. وفي الوقت نفسه، فالانشغال بالهاتف الذكي قد يخلق توتراً خاصاً به أحياناً، والتركيز مع إشعارات الهاتف يؤثر أيضاً على ماذا وكيف وإذا كنا نتذكر.
ماذا يحدث إذاً عندما ننقل ذاكرتنا إلى جهاز خارجي؟ هل نستمتع بالحياة أكثر، لأننا لا نعتمد على أدمغتنا القابلة للخطأ لتوجيهنا؟ هل نعتمد على الهواتف الذكية حتى تغير في النهاية طريقة عمل ذاكرتنا (تسمى أحياناً فقدان الذاكرة الرقمي)؟ أم طبيعيٌ نسيان أشياء بلا هواتفنا؟
علماء الأعصاب منقسمون حول ذلك. فأستاذ علم الأعصاب الإدراكي في كلية علم النفس بجامعة ساسكس كريس بيرد ومدير بحث تجريه “مجموعة الذاكرة العرضية” يقول: “لطالما نضع أشياء في أجهزة خارجية كتدوين الملاحظات وهذا مكّننا من التمتع بحياة أكثر تعقيداً”. وتابع “ليس لدي مشكلة في استخدام الأجهزة الخارجية لزيادة عمليات التفكير أو عمليات الذاكرة. نحن نفعل ذلك أكثر، لكن هذا يوفر الوقت للتركيز وتذكر أشياء أخرى”.
برأيه أن نوع الأشياء التي نستخدمها لتذكرنا بها هواتفنا، بالنسبة لمعظم الأدمغة البشرية، يصعب تذكرها. ويقدم مثالاً بقوله “ألتقط صورة لتذكرة وقوف السيارات الخاصة بي حتى أعرف متى تنفذ لأنه أمر قاسٍ يجب تذكره. لم تتطور أدمغتنا لتتذكر أشياء محددة للغاية لمرة واحدة. قبل الأجهزة، كان عليك بذل الجهد لتذكر الوقت الذي تحتاجه للعودة إلى سيارتك “.
أما البروفيسور أوليفر هاردت، الذي يدرس البيولوجيا العصبية للذاكرة والنسيان في جامعة ماكجيل في مونتريال، فهو دقيق أكثر. يقول: “بمجرد التوقف عن استخدام ذاكرتك سيزداد الأمر سوءً مما يدفعك لاستخدام أجهزتك أكثر”. وأضاف “نحن نستخدمها في كل شيء. إذا ذهبت إلى موقع ويب للحصول على وصفة فاضغط على زر ويرسل قائمة المكونات إلى هاتفك الذكي. إنها مريحة جداً لكن الراحة لها ثمن. من الجيد أن تشغل رأسك بشيء ما”.
لا يحرص هاردت على اعتمادنا على نظام (GPS). قد يقلل الاستخدام المطول لهذا النظام من كثافة المادة الرمادية في الحُصين. والتي يترافق انخفاض كثافة المادة الرمادية فيها مع مجموعة متنوعة من الأعراض كزيادة خطر الإصابة بالاكتئاب والأمراض النفسية الأخرى، ولكن أيضاً أشكال معينة من الخرف. لا تتطلب منك أنظمة الملاحة التي تعتمد على نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) تكوين خريطة جغرافية معقدة. بل تخبرك بالاتجاهات فقط، مثل “انعطف يساراً عند الضوء التالي”.
هذه استجابات سلوكية بسيطة جداً (هنا: انعطف يساراً) عند حافز معين (هنا: إشارة مرور). لا تشغل هذه الأنواع من السلوكيات المكانية الحُصين كثيراً على عكس تلك الاستراتيجيات المكانية التي تتطلب معرفة خريطة جغرافية حيث يمكنك تحديد أي نقطة تأتي من أي اتجاه وتتطلب حسابات معقدة [معرفياً]. عند استكشاف القدرات المكانية للأشخاص الذين يستخدمون نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) لفترة طويلة جداً، فإنهم يظهرون ضعفاً في قدرات الذاكرة المكانية التي تتطلب الحُصين. تعد قراءة الخرائط أمراً صعباً ولهذا السبب نستخدم أجهزتنا. لكن الأشياء الصعبة مفيدة لك لأنها تنطوي على عمليات معرفية وبنيات دماغية لها تأثيرات أخرى على وظائفك المعرفية العامة”.
ليس لدى هاردت بيانات حتى الآن، لكنه يعتقد أن “تكلفة ذلك قد تكون زيادة هائلة في حالات الخرف. كلما قل استخدامك لعقلك، قل استخدامك للأنظمة المسؤولة عن الأشياء المعقدة مثل الذكريات العرضية، أو المرونة المعرفية وزاد احتمال الإصابة بالخرف.
توجد دراسات تُظهر صعوبة الإصابة بالخرف عندما تكون أستاذاً جامعياً، والسبب ليس أن هؤلاء الأشخاص أكثر ذكاءً بل لأنهم حتى سن الشيخوخة ينخرطون في مهام ذهنية جداً”. (وهذا لا يوافق عليه علماء آخرون. فعالم النفس بجامعة هارفارد صاحب كتاب “الخطايا السبع للذاكرة: كيف ينسى العقل ويتذكر” دانيال شاكتر يعتقد أن التأثيرات الناتجة عن أشياء مثل نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) ليست إلا “مهمة محددة”).
من الواضح أن الهواتف الذكية ستفتح آفاقاً جديدة كاملة من المعرفة ولكنها قد تجرنا بعيداً عن اللحظة الحالية. قد لا تنتبه إلى جمال الطقس لأنك منغمس في هاتفك الذكي. عندما لا نعيش تجربة ما، فقد لا نتذكرها جيداُ، ويمكن أن تحد قلة من التجارب التي نتذكرها من قدرتنا على امتلاك وإبداع أفكار جديدة. كما قامت عالمة الأعصاب والباحثة الشهيرة في مجال الذاكرة ويندي سوزوكي مؤخراً بنشر مقطع فيديو عن الأعصاب على موقع Huberman Lab، “إذا لم نتمكن من تذكر ما فعلناه والمعلومات التي تعلمناها وأحداث حياتنا فإنها تُغيرنا … يحدد قسم التذكر في الدماغ تاريخنا الشخصي، يحدد هويتنا”.
توافق كاثرين برايس، الكاتبة العلمية ومؤلفة كتاب “كيف تفسخ العلاقة مع هاتفك”، على ذلك. تقول: “ما نهتم به حالياً يضيف إلى حياتنا”. وتضيف “لا تستطيع أدمغتنا القيام بمهام متعددة. نعتقد أننا نستطيع ذلك. ولكن في أي لحظة يبدو فيها تعدد المهام ناجحاً فذلك لأن إحدى تلك المهام لم تكن تتطلب الكثير من الناحية المعرفية كطي الملابس أثناء الاستماع إلى الراديو. إذا كنت تهتم بهاتفك فأنت لا تهتم بأي شيء آخر. قد يبدو هذا وكأنه ملاحظة عديمة الجدوى لكنها عميقةٌ جداً لأنك ستتذكر فقط الأشياء التي تهتم بها. إذا لم تكن مهتماً بشيء ما فلن تتذكره، حرفياً”.
لدى عالمة الأعصاب في جامعة كامبريدج باربرا ساهاكيان دليل على ذلك أيضاً. تقول: “في تجربة أجريت في عام 2010، كان على ثلاث مجموعات مختلفة إكمال مهمة قراءة”. “حصلت إحدى المجموعات على رسائل فورية قبل أن تبدأ، وحصلت مجموعة أخرى على رسائل فورية أثناء المهمة، ولم تحصل المجموعة الأخرى على رسائل فورية، ثم كان هناك اختبار استيعاب. ما وجدوه هو أن الأشخاص الذين يتلقون رسائل فورية لا يمكنهم أبداً تذكر ما قرأوه”.
تقلق برايس أكثر بشأن ما يحدثه تشتيت انتباه الهواتف دوماً بذواكرنا بدلاً من استخدام وظائفها الأبسط، وهذا ما تسميه الخبيرة التقنية ليندا ستون “الاهتمام الجزئي المستمر”. تقول برايس: “لا يتشتت انتباهي بدفتر العناوين الخاص بي”. وهي لا تعتقد أن الهواتف الذكية تتيح لنا فعل المزيد. “لنكن واقعيين مع أنفسنا: كم منا يستخدم الوقت الذي يوفره لنا تطبيقنا المصرفي لكتابة الشعر؟ نحن فقط نفعل أشياء تافهة على إنستغرام”. كاثرين برايس من فيلادلفيا. تعطي مثالاً فتقول “ماذا كان بنجامين فرانكلين ليفعل لو امتلك تويتر؟ هل كان سيقضي كل وقته على تويتر؟ هل كان سيخترع ويبدع؟
وتسترسل برايس “لقد أصبحت مهتمةً جداً بما إذا كانت الانحرافات المستمرة التي تسببها أجهزتنا تؤثر على قدرتنا الحقيقية ليس فقط على تجميع الذكريات ولكن نقلها إلى تخزين طويل الأجل بما يعيق قدرتنا على التفكير العميق بما يهمنا. “أحد الأشياء المعيقة لدماغنا على نقل الذكريات من التخزين قصير المدى إلى التخزين طويل المدى هو الإلهاء. إذا تشتت انتباهك أثناء انشغالك”، بإشعار ما أو بسبب الرغبة الشديدة في التقاط هاتفك” فلن تجري التغيرات المادية لتلك العملية “.
التيقن من ذلك مستحيل، لأن أحداً لم يقس مستوى إبداعنا الفكري قبل الهواتف الذكية، ولكن برايس تعتقد أن الإفراط في استخدام هواتفنا قد يضر بقدرتنا على امتلاك البصيرة “أي القدرة على ربط شيئين مختلفين في عقلك. ولكن للحصول على البصيرة وبعدها الإبداع يجب امتلاك خامات كثيرة في عقلك، مثل تحضير وصفة بدون مكونات، والتي هي في الحقيقة ذكريات طويلة المدى”.
(دعم نظريتها عالم الأعصاب والكيمياء الحيوية الحائز على جائزة نوبل البالغ من العمر 92 عاماً إريك كانديل والذي درس كيفية تأثير الإلهاء على الذاكرة – التقت به برايس في القطار وناقشته بها. صورة شخصية لي بابتسامة كبيرة ويبدو إريك مرتبكًا بعض الشيء.”) يوافق أيضاً عالم النفس لاري روزين، المؤلف المشارك (مع عالم الأعصاب آدم جازالي) لكتاب “العقل المشتت: الأدمغة القديمة في عالم التكنولوجيا المتقدمة”: “تُصَعِبُ الإلهاءات المستمرة نقل المعلومات إلى الذاكرة.”
بالطبع فالهواتف الذكية مصممة لجذب انتباهنا. تقول برايس: “التطبيقات التي تجني المال بجذب انتباهنا مصممة لمقاطعتنا”. “اعتقد أن الإشعارات هي مقاطعات لأن هذا ما تفعله.”
بالنسبة لأوليفر هاردت، تستغل الهواتف عملياتنا البيولوجية. “فالإنسان حيوان ضعيف للغاية والسبب الوحيد لعدم انقراضنا هو دماغنا المتفوق: لتجنب الافتراس والعثور على الطعام كان علينا أن نجيد الانتباه لبيئتنا. يمكن أن يتحول انتباهنا سريعاً وعندما يحدث ذلك يتوقف كل شيء آخر، ولذلك لا يمكننا القيام بمهام متعددة.
عندما نركز على شيء ما، فهذه آلية للبقاء: أنت في البرية وتسمع قرقعة جذع يابس فتركز عليه، وهذا مفيد لأنه يشحذ الانتباه واليقظة وينشط الجهاز العصبي الودي ويحسن قدراتك المعرفية ويهيئ الجسم للقتال أو الهرب”. لكنه أقل فائدة الآن. “الآن وبعد 30 ألف عام نحن هنا بهذا الدماغ الدقيق” وكل إشعار هاتف نسمعه هو عبارة عن غضن يتكسر في الغابة، “هذا ما كان الإنسان عليه: حيوان صغير خائف.”
يمكن أن يؤدي استخدام الهواتف الذكية إلى تغيير الدماغ. فوفقاً لدراسة ABCD الجارية والتي تتعقب أكثر من 10000 طفل أمريكي حتى مرحلة البلوغ، يقول لاري روزين، الذي يدرس العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا والدماغ: “بدأ الأمر بفحص الأطفال في سن العاشرة باستخدام قياسات الورق والقلم الرصاص والتصوير بالرنين المغناطيسي، وكانت إحدى النتائج الأولية المثيرة هي وجود علاقة بين استخدام التكنولوجيا وترقق قشرة الدماغ”.
ويشرح “الأطفال الصغار الذين يستخدمون التكنولوجيا كثيراً لديهم قشرة دماغية أرق المفروض حدوثه في سن أكبر.” طبيعي ترقق القشرة أثناء النمو فالشيخوخة، وقد يرتبط هذا بالأمراض التنكسية مثل مرض باركنسون والزهايمر والصداع النصفي.
من الواضح أن مارد الهاتف الذكي خرج من مصباحه يصول ويجول. نحتاج إلى هواتفنا للوصول إلى مكاتبنا وحضور الفعاليات وغيرها من النشاطات المعروفة. يصعب جداً ألا تمتلك واحداً. إذا كان ما تفعله، هي أو تطبيقاتها، في ذاكرتنا يقلقنا فما العمل؟
يناقش روزين عدداً من التكتيكات في كتابه. فيقول: “أُفضل الاستراحات التقنية. ابدأ بفعل أي شيء على جهازك لدقيقة ثم اضبط المنبه لمدة 15 دقيقة. أسكت هاتفك واقلبه ولكن حفز عقلك بإخباره أنك ستمضي استراحة تقنية أخرى لدقيقة بعد التنبيه لمدة 15 دقيقة. استمر حتى تتكيف مع وقت التركيز لمدة 15 دقيقة ثم زد إلى 20. إذا كان بإمكانك الحصول على 60 دقيقة من وقت التركيز مع فترات راحة قصيرة للتكنولوجيا قبل وبعد فهذا نجاح.”
اقرأ المزيد: فراشات الملك المحبوبة مهدّدة بالانقراض وأكبر باندا في العالم يموت اليوم
تقول برايس، مؤسسة موقع Screen/Life Balance لمساعدة الأشخاص على إدارة استخدام هواتفهم “إذا ظننت أن ذاكرتك وتركيزك قد ساءتا وتلوم عمرك أو وظيفتك أو أطفالك فقد تكون منصفاً، ولكن قد يكون لكيفية تفاعلك مع جهازك”. بصفتها كاتبة علمية، فهي “منغمسة في التجارب ذات الشواهد العشوائية، ولكن مع الهواتف، فالأمر أكثر من سؤال نوعي حول تأثيره عليك. فسهل إجراء تجربتك بنفسك ومعرفة الفرق. رائعٌ امتلاك أدلة علمية. ولكن نستطيع ببداهة أن نعرف: فإذا كنت تتدرب على تجنب هاتفك ولاحظت هدوءً وذاكرة أكثر فتكون قد أجبت على سؤالك بنفسك”.
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!