-
هل ضاعت الفرصة في سوريا؟
شكل الربيع العربي فرصة حقيقية من أجل تغيير جذري في سوريا المحكومة بنظام ديكتاتوري تأسس بقبضة أمنية واشتغل بشكل مكثف على سياسة غسيل أدمغة المواطنين بحيث يتحول مفهوم المواطنة إلى الموالاة للنظام بل بالأحرى لرأس النظام تحديداً، وبحيث اختزل مفهوم الوطنية والوطن بشخص الرئيس الذي استولى على السلطة وحوّل نظامها الذي كان يجب أن يكون جمهورياً إلى نظام عائلي مافيوي يرتكز في سياسته الخارجية على إرهاب دول الجوار وفي سياسته العالمية على الانغلاق وخرق القانون الدولي والتحالف مع كل الدول الخارجة عن القانون والتي تتميز بطبيعة استبدادية تشبه طبيعته، أما داخلياً فاعتمد سياسة الإفقار وقمع الحريات الشخصية والعامة وتكريس سياسة الحزب الواحد وبالأحرى حكم العائلة والسيطرة على موارد البلاد الاقتصادية من قبل تلك العائلة وأدواتها، كما منع نهوض مجتمع مدني فعال، وارتكب انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان استمرت لما يزيد عن نصف قرن، وهو ما أوصل الشعب السوري للانفجار في آذار ٢٠١١ بلحظة تاريخية كان من الممكن أن تغير وجه البلاد بل المنطقة وتحول المسار في سوريا نحو دولة ديموقراطية منفتحة على العالم، دولة كان يمكن أن تنهض بمواطنيها وتحترم القانون الدولي لو تلقفت تلك الفرصة دول العالم الحر تلك ولو دعمت تلك الدول المؤثرة في العالم القوى الديموقراطية والعلمانية في سوريا بشكل فعال بعيداً عن لغة البيانات الدبلوماسية والإدانات الفارغة من التأثير، بينما أدت الآليات المعطلة بمجلس الأمن دورها في الوصول إلى حالة من الجمود في مسار إيجاد حل حقيقي للسوريين ضمن جو من تخاذل المجتمع الدولي في إيجاد وسائل ضغط فاعلة ويقابل كل ذلك شراسة التدخل الروسي والإيراني السافر على الارض السورية والفيتو الروسي في مجلس الأمن. سياسة عالمية فشلت في وضع حد لنظام ارتكب جرائم حرب قد تزيد عما ارتكبته النازية في الحرب العالمية الثانية، وتسبب في خلق أكبر موجة لجوء وكارثة إنسانية في العصر الحالي وفقاً للأمم المتحدة، ويمكن القول أن السياسة الأمريكية فشلت في سوريا بسبب عدم وجود اهتمام حقيقي في إنهاء الصراع، وهو ما فتح الباب على مصراعيه لاستحواذ الروس على سياسة المنطقة وعودتهم كفاعل سياسي دولي قوي ومؤثر على السياسة الدولية، بل أن السياسة الدولية والأمريكية في سوريا والمتجلية بعوامل كان منها عدم القدرة على وقف جرائم الحرب ومحاسبة مرتكبيها، ولا إيجاد أليات فاعلة لإنهاء الصراع مبكراً شجعت بوتين على تجاوز الخطوط الحمراء دولياً، وهو ماتجلى في حربه على أوكرانيا لاحقاَ ربما لأنه اختبر ردود الفعل الدولية على دوره في سوريا في تثبيت نظام دكتاتوري متهالك وفي إحالة سوريا إلى قاعدة عسكرية روسية ومختبر تجارب للأسلحة الروسية على الشعب السوري وفقاً لتصريحات الروس نفسهم حول ثبات فعالية أسلحتهم في سوريا.
ارتكبت الولايات المتحدة والمجتمع الدولي خطيئة كبرى في سوريا بعد استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي في الغوطة عبر تهديدات جوفاء أطلقتها ولم تقم بعدها بأية خطوات حقيقية لوقف جرائم النظام السوري، وهو ما شجعه لاحقاً لاستخدام السلاح الكيماوي عشرات المرات والإمعان في استخدام أسلحة محرمة دولياً والتعذيب الممنهج وجرائم العنف الجنسي والتهجير والتغيير الديموغرافي والحصار وكم الأفواه، على الرغم من تقارير لجان تقصي الحقائق والمنظمات الحقوقية و منظمة حظر السلاح الكيماوي التي تثبت تورطه، فشلت الأليات الدولية حتى الآن في عقاب النظام السوري ومحاسبته وهو ما قد يطلق العنان لكل مجرمي الحرب في العالم ليفعلوا ما يشاؤون للوصول للسلطة أو البقاء فيها وفي الإمعان قمع الحريات.
لقد كانت السياسة الدولية عموماً والامريكية في سوريا والتي تبدو "باستثناء الخطاب الإعلامي والمساعدات الإنسانية والعقوبات الضرورية وغير الفاعلة في آن معاً" وكأنها غير معنية إلا بالمراقبة والانتظار قاتلة، قاتلة لفرصة ثمينة لإنجاز تغيير حقيقي في المنطقة كان سيؤدي إلى عالم أكثر استقراراً، وإلى خلق شرق أوسط ديموقراطي منفتح على العالم يسعى لرفاه شعوبه وتعزيز قيم الديموقراطية في المنطقة، ولسوء الحظ هذا لم يحصل بسبب وحشية النظام السوري، وطول الأمد وسياسية اللا استراتيجية في سوريا، وفشل الأليات الدولية في وقف جرائم الحرب، بالإضافة إلى التدخلات الإقليمية في سوريا، والتي كانت جميعها عوامل تسببت في إضعاف قوى الحراك السلمي، العلماني والليبرالي، فتلقفت قوى الإسلام السياسي بأنواعها الفرصة وقفزت على المشهد السياسي مدعومة من دول إقليمية، ودفعت باتجاه العسكرة مدعومة من ذات القوى وعزز هذا التوجه النظام بسلوكه المتوحش كعامل أساسي في خلق الصراع المسلح، وتسببت التدخلات الإقليمية في دعم الصراع المسلح علي الطرفين في خلق فوضى استفادت منها قوى متطرفة خطيرة ودخيلة بأجندتها الثالثة التي تريد السيطرة وتحارب الجميع في سوريا، والنظام السوري كان أكبر المستفيدين من وجودها لأنها تخدم البروبوغندا الخاصة به والتي تحاول تلخيص ما يحصل في سوريا بصراع بين الجيش والإرهاب، وتسقط من حساباتها الفئة الأهم وهي الشعب السوري الراغب بالتغيير والحراك السلمي والمجتمع المدني، وبينما علي الأرض كان النظام يحاصر ويقصف المدنيين ويهجرهم في المناطق المناوئة له، كان النظام السوري يغض الطرف عن تمدد داعش في المناطق السورية كالبادية السورية المكشوفة لطيرانه والتي اتاحت لداعش التحرك من الرقة باتجاه تدمر مثلاً وارتكاب ابشع المجازر فيها عام ٢٠١٥ دون أي استهداف بينما كانوا يتحركون في البادية المكشوفة للطيران السوري وحلفائه دون أي ازعاج، بل أنه أفسح المجال لداعش لتقوم بعملياتها في مناطق كان من المفترض أنها تحت سيطرته كما حدث في السويداء ب ٢٥-٧-٢٠١٨ علي سبيل المثال لا الحصر.
اقرأ المزيد:ثلاثة عشر رئيساً لأميركا.. وما زال الأسد لعنتنا
النظام كان مستفيداً من وجود داعش بالمشهد وللأسف استطاع عبر وجودها بأن يخلط الأوراق فبات الاهتمام العالمي مركزاً على "الحرب على الإرهاب" على أهميتها، وأهمل المتسبب الرئيسي في وجود تلك القوى وهو سلوك النظام السوري والتراخي الدولي في إنهاء معاناة الشعب السوري ووقف جرائم الحرب ومحاسبة الفاعلين من كل الأطراف التي عاثت فساداً في البلاد وارتكبت جرائم ضد الانسانية.
أما القوى الإقليمية ذاتها على طرفي الصراع والتي بتدخلها ساهمت بتأجيج صراع عسكري ذو عمق سياسي طائفي وفي خنق الحراك السلمي الذي يمثل الثورة السورية الحقيقية، نراها اليوم تقوم بإعادة تعويم النظام السوري والأسد مجرم الحرب دون أي سياسة مواجهة فاعلة من المجتمع الدولي لوقف تلك المهزلة، في وقت بات فيه النظام السوري أكبر مصدر للمخدرات إضافة لكل جرائمه.
نحن نريد حل سياسي حقيقي في سوريا وهناك فرصة لم تمت أمام دول المجتمع الدولي المؤمن بالحريات لإثبات دور أكثر عدالة وفعالية في العالم إن استطاعت وقف هذا التطبيع المجاني مع النظام السوري وفي خلق مسار سياسي فاعل وفقا للقرارات الدولية وتحت المظلة الأممية فهي بذلك قد تعيد خلط الأوراق في التوازنات الدولية الجديدة التي تتم صناعتها بسبب ما قد يبدو ضعفا في السياسة الخارجية الامريكية وتأثيرات الحرب في أوكرانيا.
التطبيع المجاني مع نظام الأسد وتعويمه دولياً هو الباب الذي ستستخدمه قوى الشر في العالم من أجل استمرار سياسة القمع وغسيل الأدمغة من جهة، كما الحكومات الديكتاتورية التي ستترفه بالفوضى العالمية وضعف الأليات الدولية الأممية في حفظ السلام العالمي وحماية المدنيين من جهة أخرى.
والأخطر على الإطلاق أن تلك السياسة ستكون بمثابة بطاقة خضراء لدول أخرى لديها أحلامها الخاصة في مناطق أخرى من العالم، يا للأسف إنه المناخ الملائم لبناء تحالفات جديدة تسعى لخلق نظام عالمي جديد بقيادات جديدة تضمحل فيها القيم الليبرالية والديموقراطية لصالح الدول الشمولية، والتيارات المتطرفة، واليمينية، والعنصرية.
المطلوب من المجتمع الدولي المؤمن بقيم الحريات وحقوق الإنسان اليوم وأكثر من أي وقت مضى وحتى لا تفوت الفرصة مجدداً، وقف قطار التطبيع المجاني مع النظام السوري بشكل فاعل وتحقيق حل سياسي بجدول زمني واضح يضمن انتقال سياسي حقيقي وفق القرارات الأممية وأهمها القرار ٢٢٥٤ وبيان جينيف وإطلاق اليات المحاسبة لكل مجرمي الحرب وتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا وهو ما سيضمن استقرار المنطقة والعودة الآمنة للاجئين وإعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد، ويحقق سلام مستدام في سوريا والمنطقة كنتيجة.
ليفانت نيوز
قد تحب أيضا
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!