الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٤ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
هل تصبح الصين قاطرة الحضارة ؟
هل تصبح الصين قاطرة الحضارة ؟

مع تراجع الغرب ودخوله في أزمة اقتصادية مستمرة، بدأ الكثير من المفكرين ينظّرون لصعود الشرق والصين بشكل خاص، لتصبح هي قاطرة الحضارة بدل الغرب، ونشأت منظمات دولية اقتصادية وسياسية تؤطر هذا التعاون، وتسابقت الدول للانضمام إليه في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، والغريب في الأمر أن معظم هذه الدول تعاني من أزمة في بنيانها السياسي ( عجز وضعف التحول الديموقراطي ) ... فهل يمكن للحضارة أن تنتقل لشكل جديد شمولي استبدادي ؟ أم أن الديموقراطية وحقوق الإنسان هم أساس هذه الحضارة وليس الاقتصاد لوحده ؟.


خرجت الصين من المجاعة والحرب الأهلية والاحتلال على يد الحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماوتسي تونغ مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وأسست أكبر نظام اشتراكي بطريركي (أسري) زراعي، تحت قيادة صارمة من حزب سياسي عسكري شمولي رفع لمستوى التقديس ، اكتشف ماو سريعاً أن الثقافة التقليدية البطريركية تتناقض مع النظام الشيوعي وقيمه، فقام بما سمي بالثورة الثقافية التي تسببت بقهر وموت مئة مليون انسان، وحصول مجاعة ضخمة وطويلة ارتبطت باسم الصين (نشاهد نموذجها الآن في كوريا الشمالية)، حاول الحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماو صناعة مجتمع يشبه مجتمع النمل الذي يتحكم به الحزب (الملكة والذكور)، وتحويل كل انسان إلى آلة تعمل وتأكل وتموت بقدر ما يحدد لها هذا الحزب، وفرضت شروط اجتماعية وسياسية واقتصادية قاسية جداً، تلغي أي حرية أو خصوصية، ومع ذلك بقيت الصين على حافة المجاعة لعقود، حتى تنامى جيل جديد داخل الحزب ، بدأ يفكر بسياسات جديدة (سموها إصلاحية) لكن في الاقتصاد فقط، حيث تستمر الشؤون السياسة بقيادة حزب وحيد، هو كل شيء في قيادة ومراقبة المجتمع والاقتصاد والتعليم حتى الآن... هذه الإصلاحات سمحت بالعودة للقبول ببعض مبادئ البرجوازية (ملكية خاصة ، استثمار ، سوق).


وهكذا وبسبب رخص اليد العاملة الشديد وانضباطها الصارم، تمكنت البضائع الصينية من المنافسة تدريجياً في السوق العالمي، لكن على حساب النوعية، واكتشف الحزب أهمية الدخل الذي يمكن تحقيقه من التجارة الخارجية، وهكذا بدأ بإرسال البعثات العلمية التجسسية لسرقة العلوم والتكنولوجيا من الغرب والعودة بها للصين لتقليدها، وهكذا صارت الصين تنتج كل شيء لكن بسعر ونوعية منخفضة، وبدأت تدخل السوق العالمي كمنتج لأرخص البضائع وأقلها جودة عبر بوابة هونغ كونغ أولا، ومن ثم توسعت لتشمل شانغهاي ومدن غرب الصين التي تحولت لورشات انتاج ضخمة تستفيد من اليد العالمة الرخيصة جداً، حيث نقلت الكثير من الشركات العالمية ورشاتها لهناك وساهمت في تأهيل يد عاملة خبيرة. 

الشركات الصينية الجديدة الرأسمالية الرابحة جداً هيمن عليها أيضا الفاسدون في الحزب والجيش، فتمايزت طبقة سياسية اقتصادية متوحشة مفرطة الثراء هي اليوم تملك وتقود الاقتصاد والسياسة والأمن معاً، ومكونة من نخبة وعصبويات الحزب الشيوعي وذات نفوذ طاغي عليه . فإلغاء الملكية الخاصة الذي هو أساس الشيوعية، أصبح على يد الحزب الشيوعي انتاجاً موسعاً لهذه الملكيات باستغلال سلطة الحزب المطلقة التي تدير الاحتكار وتلزم العمال بالعمل تحت شروط غير عادلة لا يمكن لأي طبقة عاملة أن تقبل بها، مع العلم أن الطبقة العاملة هي من يحكم الصين نظرياً ... وبقي الشرق الصيني على حاله تقريباً، وانقسمت الصين لصينين واحدة رأسمالية صناعية غنية، وواحدة شيوعية زراعية فقيرة. وصار الانتقال بينهما يخضع لسياسات الحزب وبمقدار حاجته لعمال رخيصي الأجر.


الصين طبقت الإشتراكية الكاذبة والرأسمالية المشوهة، ونظام استغلال العمال البشع، واقتصاد المافيات السياسية، ولم تحترم حقوق الملكية الفكرية، ولم تستثمر في الإبداع والبحث العلمي بل في التجسس الصناعي وتقليد الغير، وأنتجت بضائع رخيصة تقلد بالضبط بضائع الغرب وتساهم في تدمير اقتصاداته، في الغرب يلتزم المنتجون باحترام البيئة وحقوق العمال وتمويل نظام الضمان الاجتماعي، فيخسرون امكانية المنافسة مع اقتصادات مشوهة غير منضبطة مثل الصين ... وهكذا تقوم الصين بتدمير أساس الحضارة الغربية الاقتصادي، وتتقدم اقتصادياً على حساب الحضارة العلمية والقيمية والاجتماعية والسياسية.


الصين وبمجرد أن توحد حقوق وشروط حياة كل الصينين سوف تصاب بأزمة عميقة، وبمجرد أن تحترم حرية الفكر والتعبير والانتظام السياسي أيضا تدخل في أزمة بنيوية، وبمجرد أن يطالب العمال بالعدالة ويتعمم نموذج استهلاك جديد ستصبح بضائع الصين غالية الثمن، وبنمو هذه الطبقة الغنية الجديدة من المستثمرين ستتحول الصين لمستهلك جشع، فالصين لا تستطيع الاستمرار من دون الديموقراطية، كغيرها من الدول التي طبقت النظام الشمولي، لكن هذه الديموقراطية سوف تحطم نظامها وتفوقها إذا دخلتها، وهذا ما يجعلها تتسامح مع كل شيء سوى الحرية، فهل تتصورون حضارة من دون حرية ... !!!


الأرقام الأخيرة للنمو في الصين بدأت بالتراجع مع توسع نظام الاستهلاك، ومعدلات الديون أصبحت تقارب ديون الولايات المتحدة ذاتها، وانتشار التعليم والتواصل يحدث تغير ثقافي سريع في المجتمع الصيني، وهذه مؤشرات على قرب حصول صدام سياسي مع الحزب الشيوعي الذي ربما سيسلك سلوك البعث في سحق شعبه، بل ربما البعث السوري كان قد تعلم منه ذلك كما تعلم منه نظام الطلائع والشبيبة.


من يراهن على انهيار الغرب وصعود الشرق بقيادة الصين وروسيا، من قوى وأحزاب محلية يسارية ودينية تعادي جوهر الديموقراطية والليبرالية، وكذلك من دول مثل إيران وحديثاً تركيا واسرائيل، قد يكون رهانه خاسراً، لأن مقياس التقدم الحضاري ليس أرقام الانتاج ومعدلات الأرباح بل القيم والمعايير الضابطة للحياة السياسية والفكرية.


فالحضارة متوازنة ولا يمكن التقدم في صعيد من دون التقدم في غيره، الوجود الاجتماعي التاريخي يقوم على أرجل ثلاث هي: الاقتصاد الثقافة السياسة، ومن دون توازنهم ينهار ويتحطم. كما انهار الاتحاد السوفييتي، وكما دمرنا سوريا بأيدينا وطلبنا مساعدة الغير في ذلك لأننا بنيناها على أسس خاطئة .


كاتب وسياسي سوري

العلامات

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!