الوضع المظلم
الأربعاء ٠٨ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
نهاية الفردوس العلمي
كه يلان محمد

يؤشرُ إلى عصر الحداثة بالتقدم العلمي وماتراكم على هذا الصعيد من الإنجازات التى مكّنت من الانتقال بالإنسان نحو مرحلة جديدة حيث انعتق من أسر مشروطيات الجغرافيا كما تراجعت مخاطر الأوبئة التي كانت تحصد حياة آلاف البشر صحيح إنَّ العلم هو سلاح ذو حدين قد تم بفضله تحقيق مكاسب مهمة.  نهاية الفردوس العلمي


إذ يكفي في هذا السياق التذكر بالانطلاق نحو مدارات كونية خارج كوكب الأرض ناهيك عن التقدم على المستوى الاقتصادي والتجاري وساد الاعتقاد في العقد الأخير من القرن السابق بأنَّ الديموقراطية ستصبحُ نموذجاً عالمياً لأنظمة الحكم وبذلك تُضَيقُ الخناق على الحكومات الديكتاتورية والسلطات القمعية ويبدأُ عهد الشفافية والإنفتاح لكن ربًّ قائل يعترضُ على التقريظ للعلم مشيراً إلى ما أحدثهُ من الكوارث نتيجة تضخُمَ قوة الإنسان التدميرية.


دعك من غياب الإنصاف في الإمتيازات التى يوفرها التقدم العلمي وهذا مايقودنا إلى موضوع أخلاقيات العلم التى كان يدعو إليها الفلاسفة والمفكرون إذ إنّ عدم التواضع في الشأن العلمي لاتكون عاقبته سوى نتائج وخيمة. ومايَفرضُ إعادة طرح هذا الموضوع من جديد هو انتشار فايروس كورونا المستجد "كوفيد 19"وكيل الاتهامات بين الصين وأمريكا إذ كل طرف يتهمُ الأخر بأنَّه وراء إطلاق هذا الوباء الذي قد داهم البشرية مايعنى إنَّ غريزة التدمير لاتختفي مع تطور الحضارة وبهذا ثتبت صحة توقع "فرويد" بل تلجأُ إلى المناورات وتلبس أردية العلم.


ومايزيدُ من الواقع قتامةً ليس ارتفاع عدد الضحايا وتحول المد والعواصم إلى أمكنة مهجورة فحسب بل التضارب في التصريحات بشأن إيجاد العلاج لهذا الخطر المحدق بالشرية فأصبح المرءُ يهب التنافس الفارغ من القيم بين القوتين المُتخاصمتين والشركات الطامحة لمزيد من الربح على حساب روح الإنسان، الأمر الذي يضعنا أمام سؤال جوهري، هل أصبح العلمُ خرافةً في سوق مزايدات السياسة؟ هل يريدُ الساسة بعد إشهار إفلاسهم الاعتماد على العلم لتدوير أنفسهم؟ نهاية الفردوس العلمي


لاشك أنَّ هذه الأزمة ستلقي بظلالها الواجمة على جميع المجالات في مقدمتها السياسة ومن ثمَّ ستنشغل العقول بدور العلم في لعبة السياسة وبما ينجمُ عن ذلك من الكوارث المناخية والإنسانية.لكن مايهمُ الالتفات إليه والعالم يعيشُ في لحظات حرجة هو شطط العلم والوهم بأنَّ ماوصل إليه الإنسان من التقدم هو بمثابة حصنٍ يحميه من مغبّةِ المجهول. من أين يأتي هذا اليقين؟ طبعاً من العلم ولكن ما فائدة العلم إذا لم يخففْ من ألم المرضى والمصابين الذين فقدوا الإحساس بالزمن في الحجر الصحي ؟هل يمكن للعلم مُغالبة الخوف الساكن في الأعماق حيال الصمت المخيم على محيطك؟


يبدو إنَّ وقع الصدمة هو بمستوى الإيمان المُطلق بقوة الحضارة المعاصرة والقناعة التامة بمفهوم سيادة الإنسان. هنا عندما يوصدُ دونك باب العلم الذي قد حلّ مكان الدين فلابدَّ أنْ تفتشَ عن عزائك لدى الفلاسفة والأدباء طالما لايقدمُ الساسةُ سوى توصيات بالتحمل والمطالبة بالاستعداد لأيام صعبة والتحصن بالعزلة و الأمر يستغرقُ وقتاً طويلاً قبل أن يكتشفَ العلماءُ حلاً لهذا المرض القاتل.إذاً لايصحُ الإستغرابُ مما يحصل حتى لو طالَ زمن الأزمة.


كم هو عابثُ وغريب عن العالم ذلك الذي يستغربُ أي شيء يجري في الحياة، فالبتالي يجبُ تفسير هذا الواقع البائس باعتباره نتيجةَ أخطاء في فهم العلم، عندما وُضعَ العلمُ في مرتبة المعرفة بالوجود في كليته وشموله وحصيلة ذلك كان الاستسلامَ لخرافة علمية على حدّ قول "كارل ياسبرز" وكأنَّ الأخير مقتنعُ بما قالهُ مواطنه "نيتشه" الذي اعتقد بأنَّ الفردوس العلمي ليس إلا كذبة حتميّة مثل نظيره من الفرادس الموهومة.


إنّ مايمرُ به الإنسان من الأزمات التي تقوّض أوهامه المتوشحة ببريق العلم مرة وبالآيدولوجيا الخلاصية مرة أخرى يحتمُ التفكير في القيم السائدة والإقرار بخطأ مفهوم السيادة ولايمكنُ إدراك أهمية قيمة التواضع إلا بعد المرور برواق الفلاسفة فهم يقومون بمداواة الإنسان من المخاوف ويعيدون إليه الشعور بالإطمئنان مع السكينة والطمأنينة تضعُ الأشياء في اتساقها كما ورد في تعاليم التاو وذلك ليس من خلال التمويه للحقائق الوجودية . 



إنما بالتصالح مع الحياة ومعطياتها والتحرر من الخوف الذي لايقودك إلا نحو مهلك العبودية التي تغذي غرائز الانحطاط وما تقدمه لك الفلسفة فضلاً لما سلف ذكره هو إمكانية مساءلة الذات وفحص الآراء المسبقة وهذا مايسميه "سعيد ناشيد" بالعلاج الديكارتي عبر إفراغ سلة التفاح لتمحيص ماهو مفيد عن غيره مما فسد هذا فيما يتعلقُ بوظيفة الفلسفة أما عن دور الأدب فتراه بالوضوح في رغبة الجميع لتصفح الأعمال الأدبية كلما اشتدت الأزمة.


فهذا العالم المتخيل يعوض الإنسان من حرمانه للحركة في الواقع والإختلاط بالأصدقاء والأهل، إذ ما تفاقمت مشكلة كورونا حتى تصاعدت مبيعات الأعمال التي تتناول الكوارث وتسردُ حكاية المعاناة البشرية على مرّ التاريخ. وفي هذا المقام من المناسب اقتباس كلام إيريك إيمانويل شميت حيث يقول في روايته "يرى من خلال الوجوه" يبدو لك الحاضر قوياً ومع ذلك ينكسرُ بأسهل من إنكسار شعرة، ونبقى بصحبة مؤلف "ليلة النار" الذي يعتبر بأنَّ الحياة مأساة فلنعيشها كملهاة. نهاية الفردوس العلمي


أخيراً، إذا كان الإنسان يفضل أي تفسير على حالة عدم وجود تفسير حسب رأي نيتشه فليكن تفسيرك للواقع فلسفياً وليس المقصود بذلك هو تبخيس دور العلم لأنَّ العلماء هم مقاتلون شجعان في معركة المصير لكن كل مافي الأمر هو التفطّن لعدم الانجرار وراء العلم المسيس والسياسيين الذين سيسدلُ الستارُ على وجوههم قريباً. والعارفُ هو من يعرفُ النهاية في البداية كما يقول الرومي.


 


ليفانت - كه يلان محمد 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!