الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
نداء البحر الأخضر هناك
محمد رجب رشيد


تحتوي الكرة الأرضية كما نعلم على الكثير من البحار، كالبحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والبحر الأسود والبحر الميت، جميع تلك البحار وغيرها تمتاز بملوحتها. لكن هل سمعتم بالبحر الأخضر؟ بالتأكيد لم يسمع به أحد رغم أنّه موجود.


َلقد وهب الله سبحانه وتعالى منطقة عفرين جميع مقومات الحياة (الطقس الرطب المعتدل، التربة الخصبة، وفرة المياه، الغابات التي تضم أنواعاً عديدة من الأشجار، ومن بينها شجرة الزيتون). ولقد اختار أجدادنا تلك الشجرة دون غيرها من أشجار الغابة لزراعتها في السهول المنبسطة بين سلاسل جبالها، لتشكّل لوحة طبيعية في غاية الإبداع والجمال، وكأنّها بحرٌ أخضرٌ يمتد على مدّ النظر، يتميّز عن البحار الأخرى بعذوبته النابعة من زيت زيتونه وخلوِّه من الملوحة.


احتراماً للتاريخ الطبيعي لمنطقة عفرين، ووفاء للأجداد اتّخذ الأحفاد من شجرة الزيتون رمزاً لمنطقتهم. إنّ اختيار شجرة الزيتون المباركة التي ورد ذِكرها في القرآن الكريم لا يعود لِوَارِدها الاقتصادي، وإنما لتغلغل جذورها في أعماق تربتها وتاريخها، بحيث أصبحت توءماً لأرواح أبنائها، ولقد ساوى أجدادنا بينها وبين أبنائهم ليس انتقاصاً من حبِّ أبنائهم، وإنما تعبيراً صادقاً عن مدى عشقهم وتمسُّكهم بموطِنهم. ومن أجل ذلك وَجَبَ على الأحفاد الدفاع عن كوردية عفرين بكل السُبل المتاحة، كيف لا؟ والكورد يشكِّلون الغالبية العظمى من سكانها بنسبة تتجاوز ٩٥ ٪، ومن يتعامى عن هذه الحقيقة أو يحاول طمثها بالتغيير الديموغرافي الذي يجري الآن على قدمٍ وساقٍ لا يختلف بشيء عن اللذين قالوا منذ أكثر من قرن: “فلسطين أرض بِلا شعب لشعب بِلا أرض”. وأمّا من لا يعترف بكورديتها أو يستثنيها من كوردستان سوريا فلا يختلف بشيء عن اللذين تخلّوا عن كركوك منذ ثلاث سنوات وسلّموها للحشد الشعبي، فإذا كانت كركوك قلب كوردستان الكبرى فإنّ عفرين رئتها.


بإستثناء مقاومة جيش الانتداب الفرنسي على سوريا في بداية عشرينات القرن الماضي، ونشاط حركة المُريدين في ثلاثيناته، كانت منطقة عفرين تعيش حياة هادئة وسالمة لم تشهد الحروب أو النزاعات منذ أكثر من قرن، إلا أنّ هذا النعيم لم يروق للأعداء والحاقدين، ففي منتصف العقد الحالي بدأت الأخطار تحدِّق بها من كل حدبٍ وصوبٍ لتنال منها. فالبحر الأخضر يتعرّض منذ سنوات إلى التلوث والجفاف نتيجة الحرائق المتعمّدة في غاباتها وإزالة حقول الزيتون بقطع أشجارها، والأخطر من ذلك محاولة مسح كورديتها بتدمير أسباب الحياة فيها، وممارسة القتل دون رادع أخلاقي أو قانوني لبثّ الرُعب في نفوس أهلها وإجبارهم على ترك موطن أجدادهم، وتوطين غرباء مرتزقة مكانهم لا يمتُّون إلى الإنسانية بصِلة.


إنّ ما يجري من انتهاكات بحق البشر والشجر والحجر في منطقة عفرين بعيداً عن وسائل الإعلام والاهتمام الدولي فاقتْ التصورات، وترتقي إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية، ولولا المرصد السوري لحقوق الإنسان ومنظمة حقوق الإنسان في عفرين لما سمع العالم بما يحصل فيها. إنّ من ينكِر تلك الجرائم مثله مثل الذي كان ينكِر قتل المتظاهرين السلميين في سوريا وتعفيش ممتلكاتهم، ومن يريد معرفة الحقائق أكثر يمكنه العودة إلى التقرير الصادر مؤخراً عن مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، حيث يقول التقرير: “إنّ هناك أسباباً معقولة تدعو لليقين بارتكاب عناصر الجيش الوطني السوري الحر، المدعوم من تركيا، جرائم حرب في منطقة عفرين وسرى كانيه (رأس العين) وكري سبي (تل أبيض)، تمتد من احتجاز الرهائن والمعاملة القاسية إلى التعذيب والاغتصاب”، ثم يضيف التقرير: “كانت القوات التركية على علم بهذه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وانتهكت التزاماتها بمعاهدة حقوق الإنسان بعدم معالجتها”.


لا شكّ أنّ تركيا تتحمّل كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عمّا يحصل في منطقة عفرين باعتبارها دولة محتلّة لها، سواء اعترفت أم لم تعترف بذلك. كما أنّ الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوري شريك في تلك الجرائم لأنّ جميع فصائل المرتزقة تابعة له، ولم يحاول وضع حدّ لها، يكتفي بالإنكار حيناً والتبرير أحياناً أخرى. أمّا المجلس الوطني الكوردي فهو غير معفى من المسؤولية باعتباره ممثلاً للشعب الكوردي السوري، وجزءاً من الائتلاف، صحيح أنّه لا يستطيع وقف الجرائم أو وضع حد لها، ولكن ما الذي يمنعه من اتخاذ موقف مشرف يتناسب مع حجم الكارثة، ثمّ مصارحة الشعب بما قام به وبما عجز عن القيام به؟.البحر الأخضر


منطقة عفرين تنادي أهلها الآن، وليس لها سِواهم بعدما تبيّن أنّ الرِهان على الأحزاب الكوردية السورية رِهان خاسر، خاصة وأنّ مواقفها من قضية عفرين شبيهة إلى حدٍ كبير بمواقف الدول العربية من قضية فلسطين. تلك المواقف التي تمثّلت في الفشل بالدفاع عنها، وعدم طرح مبادرة لإنقاذها قبل وقوع الكارثة رغم توفر الإمكانية حينها حسب تصريح السيدة إلهام أحمد. وبعد وقوع الكارثة أدارت معظم تلك الأحزاب ظهرها لمنطقة عفرين معتبرة قضيتها لا تستحق الاهتمام بها والدفاع عنها إرضاء للآخرين. نحن أبناء منطقة عفرين لا ينبغي أن يقودنا تخلّي الآخرين عنها إلى اليأس، بل يجب أن يكون حافزاً لتقديم البدائل.


قد لا نستطيع فعل أشياء عظيمة، كطرد المرتزقة منها أو تحريرها الآن، ولكن بالتأكيد نستطيع فعل أشياء صغيرة بطريقة عظيمة من قبيل العمل على إنشاء مرجعية تمثِّلها في المحافل الدولية، لا تكون بديلة عن الأحزاب أو ضدها. إنّ الوضع الحالي لمنطقة عفرين والظروف المحيطة بها تفرض وجود مرجعية من أبنائها الشرفاء أصحاب الخبرات والكفاءات والحمد لله هم كُثُر، وبالتأكيد لن يكون طريقها مفروشاً بالورود، بل سيكون شاقّاً رغم حصر مهمتها بشرح وتوضيح الأخطار التي تهدِّد كوردية منطقة عفرين وسلامة أهلها لمراكز صنع القرار في العالم الحر، والمطالبة بوضعها تحت الحماية الدولية إلى حين التوصُّل إلى حل نهائي للأزمة السورية.


ليفانت – محمد رجب رشيد  







 



كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!