الوضع المظلم
الإثنين ٠٦ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
نحو عقد اجتماعي  سوري جديد
مها حسن

ليست لدي أرقام دقيقة عن عدد السوريين المقيمين اليوم في أوربا، والذين يبذلون جهداً في الاندماج في المجتمعات الجديدة، وثمة بينهم من يعترض على هذه الفكرة( الاندماج)، كونها تعني بالنسبة لهم، التخلي عن هويتهم، والإنسلاخ عن ماضيهم وتاريخهم.


لكن حكومات الدول المُستقبِلة للسوريين الفارّين من جحيم الحرب، تبذل جهوداً حثيثة، لإدماج القادمين للعيش في بلادها، للتأقلم مع ثقافتها وعاداتها وقيمها..


ورغم الخلاف على فكرة الاندماج، ومدى تعارضها مع الهوية الأولى، وتعارض الانتماءات، فإن ما يلفت النظر في تجارب السوريين في منافيهم، مع الشعوب الأخرى، أنهم يحتاجون إلى خبرات تتعلق بالاندماج فيما بينهم، بالإضافة للاندماج مع الشعوب الجديدة.


 


الاندماج مع الغرب


سوف يكتشف السوري حجم الجحيم الذي كان يحياه في سوريا من فوارق في المعاملة والتمييز، حين يرى حقوقه مُصانة في بلاد لم يولد فيها، ولم يكن له فيها أقارب أو أصول أو جذور.. سوف يتعلم أولاده فكرة الدفاع عن حقوقهم وأفكارهم واستقلاليتهم، وسوف تجد النساء مكانتهن الاجتماعية وسوف يحصل على المناصب جميع  الاشخاص الذين يستحقونها، حيث العمل السياسي والديمقراطية وتكافؤ الفرص، تفتح الأبواب أمام كل من يملك مشروعاً ليحقق ذاته..


سيبدأ السوري اللاجئ في الاستفسار عن حقوقه، والدفاع عنها، ويمكن طرح آلاف الأمثلة من خلال صفحات التواصل الاجتماعي، عن أسئلة للسوريين حول سبب تأخر مبلغ المعونة الاجتماعية، أو سبب تناقص المبلغ في أحد الشهور، أو حتى حول إمكانية تقديم شكوى ضد أحد الموظفين الرسميين لسوء معاملة أو تأخر في إجراءات العمل.


هذه الطريقة في التفكير : معرفة الحق والمطالبة به وفق القانون، لم تكن مألوفة في بلادنا، حيث الواسطات والفوضى والمحسوبيات التي تسود فوق القانون..


تدريجياً، سيجد السوري الأجنبي إذن نفسه محاطاً بنظام اجتماعي وفكري مختلف، الأمر الذي يجعله يعيد تنظيم مفاهيمه عن العالم، وتغيير أحكامه المسبقة، حول تفاصيل كثيرة كان يجهلها، وهويرى بعينه موظفاً من لون بشرة مختلفة، أو من جغرافيا بعيدة، يحتل منصباً مهماً، لأنه يتمتع بحق المواطنة والمساواة بين أي شخصين يعيشان على هذه الأرض، دون التمييز بين أصولهما، أو المدة التي قضاها كل منهما في هذا البلد..


 


الاندماج مع السوري الشريك


سيتغيّر أداء السوري في الغرب إذن، وسيفهم حدوده وحدود الآخرين، ولكن السؤال الذي يظل عالقاً:  لماذا لا يستطيع هذا المواطن السوري في الغرب ، والمندمج مع الغربي ، والمتقبّل لخلافه واختلافه مع الغربي، أن يندمج مع مواطنه الأول، السوري، ويتقبل اختلافه؟


 


فإذا نظرنا إلى الخلافات المتشعبة والمتعددة التي تظهر في كل يوم أمامنا، بين السوريين أنفسهم، حيث ثقافة الاستعلاء من قبل أبناء منطقة على منطقة أخرى، أو عائلة على عائلة أخرى، إذ يبدو التباهي بالأصول لدى أبناء فريق على فريق آخر، يقع في مرتبة أدنى في السلم الاجتماعي، وفق تراتبية تضمن حُسن السيرة لفئة دون غيرها، أو الاستعلاء والفوقية من قبل إثنيات معينة، داخل البلد نفسه، على إثنيات أخرى، فإننا ندرك حجم عدم الاندماج بين المواطنين السوريين أنفسهم داخل سوريا، وبالتالي، وبطريقة أقسى وأكثر عدوانية، فيما بينهم وهم في الخارج.


من هنا يظهر أحد أهم ظواهر الخلل في الثقافة السورية، هي غياب المواطنة، وحلول التفوق العرقي أو الإثني أو القومي أو العشائري أو الطائفي أو المناطقي... إلى ماهنالك من انقسام وتعدد لهذا التفوق، ليشمل أبناء الحي ذاته، أو العائلة ذاتها... تقسيم قائم على استعلاء ونبذ، تُحدده قيم قديمة تفرض مفرداتها البالية : ابن عيلة ـ أكابر ـ ابن أصول ـ وما هناك من ألفاظ معاكسة سلبية ومهينة يصعب ذكرها، لأن مجرد الاستشهاد بها، هو إساءة لأبناء المناطق أو الجغرافيات.


هل من المنطقي أن يقبل السوري الذي يعيش حديثاً في الغرب، بحرية الأخرين وحقّهم الذي يضمن له تلقائيا حريته وحقوقه، ينما يشنّ حرباً على السوري الذي يختلف عنه في مكان الولادة : المنطقة ـ العائلة ـ القومية ـ الطائفة ـ الديانة...


من المسؤول عن عدم فهم السوري للسوري واحترامه له؟ ومن المسؤول على علوّ ثقافة الاستعلاء الدموي على فكرة المواطنة والمساواة في الحقوق والوجبات والميزات؟ هل هي مسوؤلية المواطن نفسه أم هي ثقافة تفرضها يوميات المعيشة في سوريا، والتي تخلّق وتعزّز هذه الأفكار، عبر إعلاء حقوق فئة على غيرها، فتتولد مع الزمن هذه الحالة المتكلّسة من رفض الآخر واحتقاره والرغبة في استبعاده للانفراد بالبلد!


مستقبل بلادنا الملونة ـ نحو عقد اجتماعي جديد


حين فازت فرنسا بكأس العالم، كثر الحديث عن الفوز الذي أنجزه فرنسيون من أصول أجنبية، هم أبناء حاليون لفرنسا، التي حققت لهم أحلامهم، وساعدت كل منهم ليكون الشخص الذي يريد.


لا أزال أذكر مشهد الرئيس ماكرون يمازح أعضاء الفريق ويقبّل رؤوسهم كأنهم أخوته أو رفاق حيّه، كما فعل مع مابيه، المنحدر من أصول جزائرية كاميرونية، أو بول بوغبا، ذي الأصول الغينية،  الذي كان نجم الاحتفال، وطغى على وجود ماكرون ذاته..


وضع الفرنسيون جانباً، منذ سنوات طويلة، موضوع الأصول، وتعاملوا مع كل مواطن، وفق إنجازاته الشخصية. الأمر الذي يخلق الأمل بإمكانية استفادة السوريين المقيمين في أوربا لتطبيق تجربة الاندماج فيما بينهم. ربما نتعلم هذا الاندماج والانتماء للمفاهيم المعاصرة حول الحريات والحقوق واحترام الاختلاف، لنتخلص من إرثنا في التشنج والتعصب للجذور الدموية، فنستطيع نقل هذه التجربة إلى بلادنا، ونحياها فيما بيننا، بحيث يحترم العربيُ الكرديَ، والسنّيُ العلويَ، والمسلمُ المسيحيَ، والمؤمنُ لغير المؤمن، كأننا قالة عقد اجتماعي جديد، حرّ، مدني، إنساني، منفتح.. ربما نستطيع هكذا بناء وطننا السوري الجديد، خالياً من الكراهية وأفكار التفوق العنصرية، والاستئثار بالمزايا، ليصبح وطننا السوري القادم ملوناً بجميع هذه الانتماءات، حيث عُرفت سوريا منذ القدم أنها أرض هذا الموازييك الملون، الذي يجب أن يكون سبباً للتفاهم والتقارب، لا للتنابذ والاختلاف.


مها حسن


 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!