-
من يربح معركة الشرعية؟
تسارعت الأحداث في الأيام الأخيرة في الشمال السوري مسفرة عن تساقط بلدات الشمال بيد قوات «النظام السوري» مدعوماً بغارات جوية من الطيران الروسي، لينتقل النظام من مرحلة «دبيب النمل» إلى مرحلة «النار في الهشيم». سوف يسعى النظام برعاية روسية إلى تحويل المكاسب العسكرية على الأرض إلى أوراق سياسية تنبّئ بأن النظام هو السلطة الشرعية الوحيدة في سوريا، وعلى العالم أن يتعامل معه انطلاقاً من هذه الرؤية.
لقد تعامل النظام خلال سنوات الحرب السورية بمنطق «حق القوة» لا بمنطق «قوة الحق» وأن «موازين القوى العسكرية» على الأرض هي التي يجب أن تتحكم في المسارات السياسية، متجاهلاً كل الاعتبارات السياسية والحقوقية والاقتصادية والأمنية، فالنظام الذي تقدم على الأرض عسكرياً لا يمكن اعتباره منتصراً، لأنه مع كل تقدم ارتكب جرائم بحق المدنيين، ودمر البنيان السوري، وهجر السكان الشرعيين من بيوتهم، وأهلك اقتصاد سوريا إلى درجة الفناء.
لكن الحقيقة التي علينا تثبيتها هي أن لحظة انتصار النظام عسكرياً هي نفسها لحظة سقوطه سياسياً وحقوقياً واقتصادياً، وهو يعلم ذلك علم اليقين، ويتخوف من ذلك، لكنه يستأنس بوعود حلفائه الذين ينقذونه كلما أوشك من الوصول إلى «حافة الهاوية» وكلما حشر في الزاوية. فقد حرم النظام من الاحتفال بالنصر بعد موقعة حلب وبعد موقعة الغوطة وكذلك بعد استعادته للجنوب السوري؟!.
ليس هذا فحسب وإنما وضعت العراقيل بوجه النظام في كل الاتجاهات فقد وجد الطريق مسدوداً لإعادة اعمار سوريا التي دمرتها الآلة الحربية، وتم تعويق «عودة اللاجئين» إلى سوريا باستثناء ما فعلته الحكومة اللبنانية المضغوط عليها من فريق «حزب الله» الموالي لإيران، كما تم إعاقة عودة النظام إلى «جامعة الدول العربية» ليبقى معزولاً سياسياً ومخنوقاً اقتصادياً ومضغوطاً بآلاف الملفات الحقوقية، التي تبرز في وجهه في مناسبة أو في غير مناسبة، وخاصة «ملف الكيماوي» و«ملف قيصر».
إن الذي واجهه النظام منذ عدة أشهر سيواجهه وبشكل مضخم فيما لو نجح بأخذ بقية الشمال المحرر، والحديث هنا عن «إدلب» التي يعتبرها مراقبون آخر معقل من معاقل الثورة، فلن يفرح النظام السوري بأي انتصار مزعوم، بل إنه مهدد بسيف العقوبات الاقتصادية التي من شأنها أن تنهكه، وقد تفجّر انتفاضة جديدة في معقله.
يتمتع النظام السوري اليوم بمؤنسات الصمت الدولي، وكأنه قد قرأ المشهد السياسي بطريقة تشعره بالطمأنينة وأن الدول متوافقة على انهاء سلاح المعارضة والتخلص من المسلحين، وربما هناك صفقة غير ملعنة وغير مكتوبة بين الكبار تتمثل بإطلاق أمريكا يد روسيا في الشمال السوري عسكرياً، مقابل موافقة روسيا على استمرار برنامج الضربات الإسرائيلية ضد الوجود الإيراني في كل من سوريا والعراق دون إخطار مسبق، ووافقت روسيا على هذا العرض حتى لو أدى إلى إنهاء الوجود الإيراني في البلدين.
قد يسعى أطراف هذه الصفقة وهم روسيا وأمريكا واسرائيل للتسابق فيما بينهم لينجز كل منهم الجانب الذي يخدم مصالحه ثم يتنصل من «الصفقة». فموسكو ستندفع باتجاه إدلب مستفيدة من الوجود الإيراني إلى جانبها قبل أن تخسر خدمات إيران، لكن إسرائيل ستكثف ضرباتها على القواعد الإيرانية كي تتحاشى غدر الروس بهم كما غدروا في تفاهمات الجنوب السوري السابقة، أما أمريكا فسوف تدير الصراع بطريقة تجعل الروس غير مرتاحين في تقدم قوات حلفائهم على الأرض وخاصة أن لدى أمريكا الكثير من أوراق الضغط التي يمكن أن تستخدمها كلما اقتضت الحاجة.
يبدو واضحاً أن المجموعة الدولية بقيادة أمريكا لن تسمح لنظام الأسد وروسيا بكسب «معركة الشرعية»، لكن السؤال المطروح هنا: هل ستكسب المعارضة السورية وقوى الثورة تلك المعركة؟ وهل فعلت ما يلزم أصولاً لكسبها؟. انطلاقاً من مبدأ «ليس المهم ما يفعله الآخرون بل المهم ما ينبغي عليك فعله».
هذا السؤال كبير!.. والجواب عليه كبير، ويستدعي الكثير من الآلام والشجون!.
فالعالم كله رأى أن ثورة الشعب السوري مختطفة بجناحيها السياسي والعسكري من قبل الجهة «الخطأ»!.
فالجناح السياسي متمثلاً بالائتلاف وغيره من المؤسسات المدنية يتصدره حزب «الإخوان المسلمين».. وللإخوان تجاربهم المدمّرة في البلدان العربية، ولا يمكن تمرير الثورة عربياً حين يتصدر الإخوان زمام أمورها.
والجناح العسكري متمثلاً بالفصائل المسلحة يتصدره القاعديون و«تنظيم القاعدة» مغضوب عليه دولياً لأسباب حقيقية، فكيف يمكن تمرير مشروع الثورة بقيادة «القاعدة»؟.
ومن هنا تبدو أهمية الخطأ الاستراتيجي «الملعوب» في الثورة السورية الذي تقول خلاصته: «صحيح أن الشعب السوري الذي أطلق الثورة السورية هو شعب مسالم حضاري وديع..لكن الذين تصدروا المشهد الثوري هم جماعات إرهابية عدوانية».. وصحيح أن نظام الأسد لا يجاريه في إرهابه أحد لكن إرهاب الأسد يستهدف الشعب السوري بينما إرهاب القاعدة والإخوان يستهدف السلم العالمي، مما يجعل الخشية حاضرة في أن يختار العالم الظالم «لا شرعية النظام» على «لا شرعية المعارضة».
ونظراً لخطورة تلك الجدلية لا بد من اعتماد خطة عمل لكسب معركة الشرعية وهذه أبرز ملامحها:
1. يجب استبعاد الإخوان المسلمين كتنظيم وراية ورؤية من الثورة السورية، فلا يكفي استبعادهم بالاسم مع الاستبقاء على رؤيتهم السياسية القائمة على العنفية والعبثية واستعداء العالم بأسره ونظريات «المؤامرة الكونية» و «صدام الحضارات».
2. يجب استبعاد «تنظيم القاعدة» من المشهد السوري الثوري، والتفريق بين ما هو ثوري وما هو قاعدي، فالقاعدة مشروع همجي تدميري يسترخص الإنسان، ويستسهل الدماء، بينما الثورة السورية هي مشروع إنساني حضاري نهضوي.
3. من أجل كسب معركة الشرعية لا بد من إعادة الاعتبار للثورة السورية بسختها الأولى التي بدأت بها، لتذكير «العالم المسيس» أن ثورة السوريين لا علاقة لها بالجريمة والسواد والدمار واستدعاء الأجنبي، وفتح الحدود لأصحاب المشاريع «الظلامية الماورائية».
4. لكسب معركة الشرعية يجب أن تدار القضية السورية على أساس حقوقي لا على أساس عسكري أو سياسي، فلو اعتبرنا الشرعية تتأسس على الاعتبار العسكري لجاز شرعنة كل الاحتلالات العسكرية على مدى التاريخ الإنساني، وشرعنة الجرائم التي ارتكبت ضد الأبرياء. كما لا ينبغي تأسيس الشرعيات انطلاقاً من المعادلات السياسية التي تحكم مصالح دول أخرى. ولكي تكسب الثورة السورية معركتها الشرعية يتحتم عليها أن تدير الصراع على أساس حقوقي لأنها بذلك تمتلك كامل «العتاد القانوني» الذي لا يمتلكه المجرم القاتل.
5. وفي غمرة الصراع لكسب المعركة الشرعية لا بد من الإجابة على سؤال: هل لديكم البديل القيادي والإداري فيما لو حدث الانتقال في سورية؟. مع أن هذا السؤال ظالم إلى حد كبير لكنه سؤال مشروع وواقعي!. صحيح أن «حقوقية الشعب السوري يجب أن تعني شرعيته» لكن العالم الذي يتذرع بالخوف من الفوضى سوف يطالب قوى الثورة السورية بالبديل القادر على إمساك الأمور ومنع فوضى السلاح وانتشار الجريمة.
6. ومن أجل كسب معركة الشرعية لا بد من تقديم المعارضة السورية رؤيتها عن شكل «سوريا المستقبل»، الرؤية التي تتضمن حديثاً واضحاً عن الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المواطنة والقانون، خالية من كل عوامل الخطر والتهديد.
من يربح معركة الشرعية؟ من يربح معركة الشرعية؟ من يربح معركة الشرعية؟
هو الصراع- إذاً- على «معركة الشرعية».. لكنه للأسف الشديد صراع من طرف واحد، حيث خاضه النظام وحلفاؤه اللئام بكل طاقاتهم وبأدق تفاصيله، مستخدمين أدوات «الحرب الخشنة» لإثبات شرعية النظام الفاقد لكل أنواع الشرعية، في الوقت الذي لم تدخل المعارضة أصلاً مضمار السباق مستفيدة من أدوات «الحرب الناعمة»، لتبقى الشرعية الحقيقية هي شرعية الشعب السوري لا النظام ولا المعارضة.
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!