الوضع المظلم
الجمعة ٠٣ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
من ذاكرة التاريخ المعاصر لحركتنا الكردية السورية
صلاح بدر الدين

تعميماً للفائدة سأحاول تنشيط ذاكرتي بتسليط الضوء في عدّة حلقات على أحداث ووقائع علمتها من مصادرها الحقيقية، أو عاصرتها شخصياً، تكاد تقع بطيّ النسيان والإهمال، رافقت حركتنا الوطنية الكردية، وأصبح البعض منها عرضة للقيل والقال. 


يميل المتابعون لتاريخ الشعوب والأقوام والإثنيات، إلى الاعتقاد بصعوبة الفصل بين تسلسل مراحل تاريخ شعب ما في أطواره البدائية والرعوية، ونمو بذور الرأسمالية من التبادل السلعي، وحتى توسعها المديني المونوبولي، وصولاً إلى أعلى درجاتها الإمبريالية، بحسب تفسير النظرية الماركسية، وبين التحولات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، في بنيته ومحيطه، وظهور أدواته السياسية، النضالية، على شكل ثورات وانتفاضات وحركات وتنظيمات، ولايغفل هؤلاء الفرق بين التخصص في تاريخ الأجناس والأقوام من جهة، وبين التركيز على التاريخ السياسي وتجلياته، كما أشرنا، من الأدوات وهي الحركات والأحزاب والجمعيات، بمختلف ألوانها النضالية والدعوية والثقافية والإعلامية التي تخدم الهدف الأساسي لذلك الشعب. 


وفي ساحتنا، وبما يتعلّق الأمر بالنخب المتعلمة أو المثقفة أو المتنورة أو المسيسة أو المحايدة أو الملتزمة، فمن حق الجميع بل من واجباتهم التطرّق الى تاريخ شعبهم، والإحاطة بحركته الوطنية مع التنويه بأنّه ليس كل ما يكتب أو يسرد في مقالات، ويمزج بحكايات تنمّ أحياناً عن مشاعر شخصية أو رغبات ذاتية أو ميول احتياليّة كيدية، تعبّر عن الحقيقة، بل قد تضيف شكوكاً أخرى على تاريخ تعرّض أصلاً إلى التشويه والتزييف، لذلك من المفيد، بل الضروري، أن يظهر بين نخبنا مختصّون بتأريخ أصل الكرد وجغرافيتهم ومراحل تطورهم، وماتعرّضوا لها من مؤامرات ومخططات تقسيمية وإبادة جماعية، ودورهم بتاريخ المنطقة، وفي مواجهة أشكال العدوان الخارجي، وفي مواجهة الاستعمار والانتداب، ومن أجل البناء الاقتصادي والثقافي والتطور الاجتماعي والسلم والتقدّم.


أما ما يتعلّق الأمر بتأريخ وسرد وتقييم ونقد التاريخ السياسي للحركة الكردية، فنحن بأمسّ الحاجة الى من يتصدّى لها، وستكون النتائج مفيدة إذا توفرت الشروط التالية: أولها، يفضّل (وليس فرضاً أو لابد منه) أن يكون سياسياً مناضلاً مشاركاً في المراحل الأولى والأخيرة، أي بنحو خمسة عقود، وأحد صناّع قراراتها أو معاصراً وناشطاً ومجرباً. وثانيها، أن ينتهج -أيّا كان- الموضوعية في تبيان الحقيقة، ومحايداً في سرد الأحداث، ومن حقّه إلى جانب ذلك التقييم والنقد، بحسب انطباعاته ومفاهيمه الخاصة، وثالثها، أن لا يكون محتفظاً بمواقف مسبقة قبل الاسترسال والتعمق في الموضوع المشار إليه. 


بعد اندلاع الثورة السورية، أي في الأعوام العشرة الأخيرة، انتشرت ظاهرة (المحلل الإستراتيجي) و(المختصّ بالقضية الفلانية) و(الخبير الأمني والسياسي)، كتعبير عن الواقع المزري والردة السوداء، التي أصابت العديد من القوى والأحزاب والمؤسسات السياسية والإعلامية، وأصابت الثقافة بالصميم، وغاب الدور الريادي في هذه الفورة الفالتة لأصحاب الحكمة والحل والربط، ليحلّ محلهم (الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب) واختلط كما يقال الحابل بالنابل، وباتت الحقيقة بهذه الأجواء بعيدة المنال في أغلب الأحيان.


انعكست تلك الفوضى في ساحتنا بتحول الحكواتي إلى مؤرخ والشاعر أو الشويعر إلى كاتب سياسي، والروائي إلى محلل إستراتيجي، والباحث إلى سوداوي ناقم على كل شيء ومنتقم من الكل، والحزبي الى مناضل، والمقاتل المسلح إلى قائد شعب وأمة، وأمير الحرب الى رجل أعمال من طراز رأسمالي مدني، والمتعاون مع المحتل إلى وطني، شخصياً لست ضد أن يتمتّع الفرد بعدّة مؤهلات، ولكن لاشك أنّ أي إنسان له ميزة وإتقان في ميدان معين، يكون من صلب اختصاصه، وقد يلم بصفات أخرى من باب الهواية وليس التخصص، فمثلاً من الغرابة إلى درجة الاستهجان أن يصف شخص ما نفسه بالأديب والشاعر، ثم يدّعي احتكار الحقيقة في قراءة التاريخ السياسي للحركة الكردية، أو أن تجد فلاناً من الناس لم يكن يوماً ضمن إطار الحركة الكردية بكل تفرعاتها، بل قد يكون مناوئاً لها أو قريباً من السلطات الحاكمة أو منخرطاً في تيارات سياسية أخرى مناهضة للحركة، وتراه الآن خبيراً بشؤون أحزاب الحركة الكردية يخون من يشاء ويستلطف من يريد ويغازل من يرغب، وفي كل أحكامه ينطلق من العارف بالحقيقة المطلقة.


الأخطر بكل ما أوردناه أعلاه، هو استهداف الحقيقة وتزييف الوقائع وتجاهل أحداث الماضي والحاضر، وكل ذلك يدخل في اطار الجريمة (الثقافية)، الأشدّ وطأة حتى من جرائم الحرب ضد الإنسانية، فالأخيرة تحدث وتزول وتدان، أما ما نحن بصدده فهو حجب الحقيقة أو الانتقاص منها أو تزييفها كتابة وتوثيقاً أمام جيل، بل أجيال من الصعب الإحاطة بها وإعادة إنتاج الحقيقة بالسرعة المطلوبة.


نحن والثقافة والشباب


سأتذكر على الدوام عندما ترشح الدكتور نور الدين زازا أو (ظاظا) في الدورة الانتخابية للبرلمان السوري عام ١٩٦١، عن الحزب الديموقراطي الكردي، كنت مع مجموعة من الشباب من أعضاء ومناصري الحزب، التقينا به بأحد المراكز بالقامشلي، فاستقبلنا والبسمة على محياه مخاطباً وممازحاً: (أنتم الشباب عماد المستقبل، ما أتمناه أن تثابروا في التعلم وأن تبلغوا جميعاً مرادكم في اختيار شريكاء الحياة والسعادة الزوجية). 


سأبدأ بما بعد العام ١٩٦٥، بعد التحوّل الجذري في نهج حركتنا المتمثلة حينذاك ( بالبارتي اليساري–الاتحاد الشعبي)، سابقاً، وليس خافياً أنّنا كنا، موضوعياً، امتداداً للمدرسة البدرخانية، التي امتزجت في معالمها السياسة والنضال الثوري بالثقافة، وكنّا نستمدّ عنفواننا القومي والوطني من الثورة الكردية بكردستان العراق، بزعامة مصطفى بارزاني، الذي أعاد إلى كرد المنطقة إرادة الحياة ونشدان الحرية.


بداية، كانت غالبية أعضاء كونفرانس الخامس من آب، من الجيل الشاب التي لم تجتاز عتبة الثلاثين مع مجموعة من المناضلين القدامى، من حكماء زمانهم، كل في منطقته في النضال القومي، وكان أمامنا على طاولة البحث مهام كبرى يجب إنجازها بدون أن تقبل التأجيل، منها فكرية وسياسية وثقافية وتنظيمية، وبعد طرح مشروع برنامجنا بين الأوساط الوطنية، حصل إقبال فاق كل التوقعات من الجيل الشاب، بشكل خاص، من النساء والرجال، وبما أنني كنت قبل ذلك مسؤولاً عن التنظيم الطلابي بالقامشلي، علمت مدى حجم من التزم معنا، وهكذا الأمر في مناطق كوباني وعفرين، ومدينتي حلب ودمشق.


كثيرون أطلقوا حينها على الحزب –حزب الشباب– وانصبّت اهتماماتنا على تنظيم هذا القطاع الحيوي، وجاء وقت كان الشباب يشكلون أكثرية، في اللجنة المركزية واللجان المنطقية والمحليات والفروع، كان مسؤولا منظمتي حزبنا بالعاصمة دمشق وفي لبنان من الشباب، على سبيل المثال، وعندما تقرّر تشكيل فرق فولكورية –غنائية– مسرحية، كان عمادها الشابات والشباب الذين انشغلوا بتطوير الفنون القومية، وتخلصوا من ذلك الفراغ العميق، وعندما استطعنا الحصول على المنح الدراسية في البلدان الاشتراكية، سابقاً، جهزنا وأرسلنا حوالي ٣٠٠ شابة وشاب، نقلنا معظمهم من سوريا إلى لبنان، ثم بلدان المقصد، بوسائلنا الخاصة وبدعم الأصدقاء.


لم نكن حزباً حاكماً، بل حزباً معارضاً تتعرّض قيادته للملاحقة والاعتقال في كل لحظة، وإلا لكنّا حققنا خطوات رائدة وعميقة في مجال الاهتمام بتنشئة الجيل الشاب، وتلبية احتياجاته المادية والمعنوية والمستقبلية، لقد طرحنا أفكاراً متقدمة في مجال الحركة السياسية الكردية كانت تلبّي أماني وطموحات الجيل الشاب، قولاً وعملاً، لذلك كان الإقبال الشبابي غير مسبوق على الإطلاق.


لقد قامت رابطة كاوا للثقافة الكردية، بدور بارز في تلبية طموحات الشباب الكرد ومثقفيهم، منذ أواسط سبعينات القرن المنصرم، للاطلاع على تاريخهم ومصادر ثقافتهم ودور أجدادهم في التاريخ، بعد أن كان الفراغ الثقافي يخيم على الأجواء، تناولت الرابطة في طرحها ومنشوراتها وكتبها، المترجمة والمطبوعة، مختلف جوانب الحياة الكردية، القديمة منها والحديثة، وكذلك الثورات التحررية والنضال السياسي والمشاركة الوطنية مع الشعوب التي يتعايش معها الكرد. 


كما ذكرت، سابقاً، فإنّني أطرح بما علمت من مصادره، أو كنت معاصراً ومشاركاً، ولاشك ولإيماني بالتعددية، أنّ هناك تجارب أخرى غير التي أفصحت عنها، محترماً كل الآراء الأخرى. (وللبحث صلة)


ليفانت – صلاح بدرالدين  

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!