الوضع المظلم
الجمعة ٠٣ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
  • من الفوضى إلى الدمج: دراسة تحولات التعليم السوري في تركيا

من الفوضى إلى الدمج: دراسة تحولات التعليم السوري في تركيا
من الفوضى إلى الدمج دراسة تحولات التعليم السوري في تركيا16

من الفوضى إلى الدمج: دراسة تحولات التعليم السوري في تركيا

تحقيق: أحمد طلب الناصر


- البدايات وتقلّبات ملفّ التعليم السوري:


أشرف المعلّمون السوريون، من كافة الاختصاصات التعليمية، على تدريس الأطفال السوريين خلال العامين الأولين من اللجوء داخل مخيمات الجنوب التركية، بصورة تطوّعية بادئ الأمر.




وبعد انتشار ظاهرة المدارس السورية الخاصة، التابعة لمنظمات إغاثية وإنسانية، تباعاً داخل الولايات الكبرى كإسطنبول وأنقرة ومرسين وهاتاي بين عامي 2012- 2015، عمل معظم المعلمين برواتب متدنّية تُقدم لهم من إدارات تلك المدارس، والتي أجبرت أهالي التلاميذ على دفع أقساط شهرية بحجة دفع الرواتب للمعلمين (بالرغم من اشتراط مديريات تربية الولايات التركية على المنظمات تعليم السوريين بالمجّان وتوفير رواتب المعلمين من أنشطتها الخاصة بوصفها جمعيات إغاثية غير ربحية).


ومع نهاية عام 2015 زادت معاناة المعلمين السوريين نتيجة تحكّم أصحاب المدارس بمصائرهم وانتشار ظاهرة الفصل التعسّفي والمحسوبيات داخلها؛ وترافق ذلك مع ازدياد تذمّر الأهالي الذين وصلت أقساط بعض أبنائهم لأكثر من 200 ليرة شهرياً (نحو 100 دولار آنذاك) في بعض الولايات.


وصلت الصورة إلى التربية التركية جراء الشكاوى المتكررة، فسارعت لوضع يدها على ملف التعليم السوري والإشراف على إدارته بالاتفاق مع منظمة الطفولة في الأمم المتحدة (اليونسيف)، خصوصاً بعد التدخلات الدولية وتعقّد الأوضاع العسكرية والسياسية المرتبطة بالثورة السورية.


فتعقّدت معها قضية اللاجئين السوريين عموماً، بمن فيهم المقيمين داخل الأراضي التركية؛ ومن هنا بدأ العمل بخطة "الدمج" والتوطين.




ومع انطلاقة العام الدراسي 2016- 2017 وزّعت وزارة التربية والتعليم على المدارس السورية، في عموم الدولة التركية، إداريين أتراك من قبلها بصفة (منسّقين) وظيفتهم الإشراف على سير عملها والتنسيق بين المديريات الفرعية والمدارس السورية، التي تحوّل اسمها منذ ذلك الحين لتصبح "مراكز التعليم السورية المؤقتة".


وأول عمل نفّذه المنسقون الأتراك داخل تلك المراكز كان تنظيمهم لجداول بأعداد وأسماء التلاميذ السوريين المداومين في المدارس، بالإضافة إلى المعلمين العاملين فيها.


- البدء بتنفيذ الدمج:


مع انتهاء تنظيم قوائم التلاميذ والمعلمين ورفعها إلى المديريات، أعلنت دائرة "تعليم مدى الحياة" التابعة لوزارة التربية والتعليم التركية في أنقرة، والمسؤولة عن مراحل التعليم ما قبل الجامعي في تركيا، أعلنت البدء بتنفيذ خطة دمج السوريين داخل المدارس الحكومية التركية؛ فكانت الانطلاقة مع نقل التلاميذ والمعلمين من أبنية تلك المدارس الخاصة إلى مدارس حكومية قريبة، والدوام فيها عقب انتهاء دوام الأتراك الصباحي.


بعد عملية الانتقال، تم إرسال تلاميذ الصفين الأول والخامس إلى المدارس التركية ودمجهم فيها بالتزامن مع نشر ما يقرب من 5500 مدرّس تركي داخل المراكز السورية المؤقتة، على نفقة مفوضية الاتحاد الأوروبي من المبالغ التي خصصتها لدعم السوريين، وبمرتّب قدره 1000 دولار أمريكي لكل مدرّس لقاء تقديمهم دروساً مكثفة في اللغة التركية لكافة المراحل، استعداداً لدمج بقية التلاميذ مستقبلاً.


وفي السنة التالية تم دمج الصفوف الثلاثة: الثاني والسادس والتاسع، لتتبعهم في السنة الحالية صفوف الثالث والرابع والسابع والعاشر؛ وسيتم دمج الصفين الثامن والحادي عشر في التعليم التركي في السنة المقبلة.


- هل ستستمر (اليونسيف) في أداء دورها إزاء التلاميذ؟


منذ انطلاق خطة الدمج، شكّلت منظمة اليونيسيف، وبتمويل إضافي من الاتحاد الأوروبي، الداعم الرئيسي للأطفال السوريين وتعليمهم داخل مراكز التعليم السورية المؤقتة، .

ولدى توجّهنا بالسؤال حول مستقبل دورها بعد إتمام الدمج وانتقال التلاميذ إلى المدارس التركية، أجابت ممثلة مكتب اليونيسيف في تركيا "إ. كالان" بأن المنظمة "دعمت الأطفال السوريين في المراكز المؤقتة، وستستمر بدعمهم داخل المدارس الحكومية التركية عبر توفير كافة المستلزمات الدراسية الضرورية إضافة إلى تقديم منحة مالية للملتزمين بمقاعد الدراسة في جميع المراحل الصفية، تتراوح ما بين 40- 60 ليرة تركية شهرياً، يتم إيداعها في حساب أولياء أمورهم داخل فروع مؤسسة البريد التركية (PTT) طيلة العام الدراسي".


ومن جهتهم، شدّد "المنسّقون" الأتراك على ضرورة تواصل المعلمين السوريين خلال عطلة الصيف مع الأهالي لحثّهم على تسجيل أطفالهم في المدارس التركية، نظراً لتوقف التسجيل في المراكز المؤقتة وإنهاء تدريس المنهاج السوري المعدّل الذي كان يدرّس فيها، اعتباراً من العام الدراسي المقبل.


واستدراكاً لحالة الأطفال المتسربين خارج التعليم، ممّن لا تزيد أعمارهم عن 11 سنة، أوعزت اليونيسيف للتربية التركية بتخصيص عددٍ من المدارس خلال عطلة الصيف لاستيعاب 20 ألف طفل سوري من جميع المراحل الابتدائية بغية إخضاعهم لدروس مكثفة في اللغة التركية تمهيداً لضمّهم مع أقرانهم بداية العام الدراسي المقبل.


ويبقى مصير طلبة صفّ الثاني عشر (البكالوريا) الذين لن يطالهم الدمج في السنة القادمة تحت تصرّف التربية التي تدرس حالياً العديد من الخيارات لاحتواء من تبقّى منهم خلال العام الدراسي المقبل بوصفهم آخر من يتلقّى دروس المنهاج السوري، حسب ما أوضح ممثل تعليم "مدى الحياة" في مديرية تربية إسطنبول، قبل توجههم إلى الجامعات.


وتجاوز عدد التلاميذ السوريين الذين يتلقون تعليماً داخل المراكز المؤقتة والمدارس الحكومية التركية الـ 630 ألف طالب، أي بنسبة 85% من إجمالي عدد الأطفال السوريين في سنّ الدراسة ما قبل الجامعية، حسب آخر إحصائية للوزارة.


- المعلمون السوريون و"بلع الموس على الحدّين"!


قامت التربية التركية في بداية هذا العام الدراسي (2018- 2019) وتحديداً في أكتوبر/ تشرين الثاني 2018، بتوزيع ما يقرب من ثلث المعلّمين على المدارس الشرعية التركية (الأئمة والخطباء) لتدريس طلبتها مبادئ اللغة العربية؛ وثلث آخر تم توزيعه على عموم المدارس التركية للعمل بصفة موجهين تربويين للطلبة السوريين المدمجين داخلها مؤخراً؛ نتيجة تناقص أعداد الصفوف والحصص جراء الدمج، وسيلتحق الثلث الأخير بسابقيه مع بداية العام الدراسي القادم.


وبلغ عدد أولئك المعلمين في عموم الولايات التركية ما يقرب من 13400 معلّم من جميع التخصصات التعليمية. وكما هو الحال مع التلاميذ السوريين أشرفت منظمة اليونيسيف على دعم المعلمين من خلال تقديم منحٍ شهرية لهم (بوصفهم متطوعين) منذ السنة الأولى للدمج؛ وكان مقدارها خلال تلك السنة 900 ليرة تركية (حوالي 300 دولار أمريكي وقتذاك). ومع تسارع هبوط الليرة التركية تم رفع قيمة المنحة لـتصل إلى 1300 ليرة في العام التالي؛ ومنذ بداية هذا العام بلغت المنحة 1603 ليرة تركية (أقل من 300 دولار أمريكي اليوم). ويُعتبر هذا المبلغ اليوم، إذا اعتبرناه "راتباً شهرياً"، مساوياً لمرتب العسكري المجنّد التركي، وهو القيمة الأدنى بين رواتب الموظفين.


ويعاني المعلمون السوريون عموماً من هذا الواقع المعاشي المزري سيما وأن متوسط آجار البيوت في غالبية المدن التركية يتراوح بين 800-3000 ليرة تركية ما يجعل المعلّم السوري ضمن أدنى المراتب الوظيفية في تركيا.



- آراء المعلمين السوريين: توافق وتفاوت وتضاد!


نظراً لتعدد الآراء وكثرتها من جهة، ولأهميتها في تحديد وتوصيف الحالة العامة لملف التعليم السوري ومصيره من جهة أخرى، قمنا بجمع طروحات وآراء عيّنة لمعلمين من مختلف الاختصاصات والتوجّهات وحصرها ضمن هذه المساحة لتسليط الضوء على كافة الجوانب السلبية والإيجابية، تاركين للقارئ حرية المتابعة والتقييم.


البداية مع المدرّس "راغب بكريش"، وهو أحد المهجّرين من مدينة إدلب، ويعمل مدرّساً للسوريين في مادة الرياضيات منذ نحو 5 سنوات، اثنتان منهما كانتا في (مرسين) والثلاثة الأخيرات قضاهن في إسطنبول وما يزال ضمن التعليم المؤقت، إذ يقول: "الرواتب مخجلة، والسبب الوحيد الذي يجعل المعلمين متمسّكين بهذا العمل هو استمرار الراتب صيفًا حيث تنخفض فرص العمل بالتدريس الخاصّ".

وتتفق آراء غالبية المعلمين السوريين مع رأي المدرّس "بكريش".


ومنهم مدرّس اللغة العربية "أيمن العلي"، من أبناء ريف حلب الشمالي، وهو من بين الثلث المفروز على مدارس "الائمة والخطباء".

وتقول المعلمة "إنجي قصار"، وهي من بين اللواتي نلن الجنسية التركية الاستثنائية، كالعديد من المعلمين والمعلمات الحاصلين على شهادة جامعية: "بالنسبة لدمج الطلاب أراه إيجابياً لأنه يساهم في تعجيل إتقان لغة البلد الذي يعيشون فيه والتأقلم مع الواقع بضرورة التعايش مع المجتمع التركي بجميع أطيافه. أما بالنسبة للمعلم السوري فلا أظن أن هذا اللقب تم الاعتراف به من قبل وزارة التربية التركية إذ تتعامل معهم بصفة متطوعين جردتهم من حقهم في الاسم وألزمتهم أعباء تفوق أعباء المعلم التركي، وطبعًا هذا استغلال لظروف المعلمين وتخوفهم من ضياع ما يسد رمقهم من معونة اليونيسيف".



أما مدرّس مادة العلوم "أمين مهرات"، من أبناء حمص، وكذلك من الحاصلين على الجنسية التركية الاستثنائية، فيتفق مع رأي المعلمة إنجي لكنه يبدي تخوّفه على مصير اللغة العربية التي بدأت تتراجع شيئاً فشيئاً عند الأطفال ويدعو لحمايتها من الاندثار. أما ما يخصّ المعلّم فيعلّق: "أعتقد أن عمل المعلم السوري سينتهي إذا ما أوقفت اليونيسيف دعمها له وأنهت عقدها مع التربية التركية. فدخل المعلم متعلق باليونيسيف، ولا يمكن مطالبة الحكومة التركية بتحسين وضع المعلم السوري سيما وأن عندهم ما يقرب من نصف مليون خرّيج مختص بالتعليم وخارج الوظيفة نتيجة شروط التوظيف بالغة الصعوبة، ناهيك عن المعارضة التي لا تكلّ ولا تملّ في تحريضها على السوريين مدّعية حصولهم على رواتب من الحكومة!".


أما المدرّس "ياسر الخوجة"، وهو أحد مهجّري العاصمة دمشق نتيجة الملاحقات الأمنية، ومن أفراد الثلث المتعلّق بالإرشاد التربوي للتلاميذ المدمجين بالمدارس التركية، فيخالف كلّياً ما عبّر عنه المعلمون السابقون، إذ يرى بأن "التعليم مهنة إنسانية سامية أكثر منها مهنة للتجارة والربح، وإخراج جيل متعلم للمستقبل يتطلب جهداً وإرادة، ويؤسفني أن أرى ما حدث للطلاب السوريين بعد توقّف رواتب فئة من المعلمين الذين كانوا يديرون مدارسهم السورية الخاصة ويقبضون مرتّبات مرتفعة نتيجة إجبار التلاميذ على دفع الأقساط الجائرة، وأجبروا لاحقاً على قبض رواتب اليونيسيف الرمزية.



فغابت الشعارات الرنّانة التي كانوا يرددونها عن مهنة التعليم وسموّه ورسالته ومواثيق الشرف.. والعديد غيرها من خُطبهم الكاذبة. ورأيت بأم عيني كيف ساد التسيّب وعدم الجديّة وإهمال تعليم أبنائنا السوريين".

ولم يقف المدرّس "خوجة" عند هذا الحد، فأكمل: "إن هيئات التدريس في تلك المدارس الخاصة كانت تنتمي لسياسات ومواقف معينة، وكان بعض المدرسين يفرضون على الطلاب انتماءاتهم السياسية والعقائدية في تعدٍّ سافر على منهج ومهنية التعليم. ساعدهم في ذلك غياب الرقابة والتفتيش. بعد انتقالي للمدرسة التركية ومخالطتي للمعلمين والإداريين الأتراك شعرت بالفارق الشاسع بينهم وبين من ذكرتُ، مهنياً وأخلاقياً. وبتعاملهم الراقي تجاهي وتجاه التلاميذ السوريين.. لا تهمني توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية خارج المدرسة".



المدرس "براء الشهابي" التقيته مساءً في المعهد الخاص الذي يدرّس فيه ساعات إضافية لسد عجز الراتب، فأصرّ على تعريف نفسه بهذه الصورة: "مدرس رياضيات حاليًا، مترجم ومنسق باصات ومرشد نفسي في مدرسة تركية صباحاً". ثم أكمل "الوضع النفسي والمادي للمعلم السوري يرثى له، وأتوقع تخلّي قسم من المدرسين عن هذه المهنة والانتقال لأي مهنة أخرى، أو السفر خارجاً، والبعض قام بذلك".


ويتفق مع الشهابي زميله مدرس الفيزياء والناشط التربوي "بهاء حمزة" فيقول محدداً الإشكالات بصورة أدق: " بالنسبة للمعلمين تم تجريدهم تمامًا من مهمتهم وجرى تحويلهم الى مجرد مترجمين أو مساعدين للمرشدين بالمدارس التركية رغم افتقار أغلبهم للغة التركية والأهلية لإدارة الجانب النفسي لدى الطلاب الأجانب في المدارس التركية واضطرار أغلبهم لترك التدريس بسبب واقع الراتب الضئيل. أما الطلاب السوريين فعلى الرغم من انتقالهم لنظام تعليمي منظّم وفعال ومستقر الا أننا سنخسر لغتهم العربية وسنواجه صعوبات لغوية مستقبلاً بالتزامن مع اضمحلال الثقافة السورية والضياع بين هويتين ثقافيتين".



ونختتم الآراء مع معلّم الصف "سليمان العلي" المهجّر من دير الزور، والذي كرّس حديثه عن التلاميذ موضحاً أن "الدمج في مرحلة الصفوف الأولى جيد نوعًا ما ولا يخلو الأمر من بعض السلوكيات التي يتعرض لها تلاميذ سوريين من أقرانهم الاتراك وخصوصًا من لا يتقن اللغة بشكل جيد وكثيرًا ما يتم تجاهل أغلب الواجبات المدرسية من المعلم التركي وهذا ما لمسته من خلال الشكاوى التي وردت من بعض الأولياء".


- إشارة أخيرة:


نسمع ونقرأ يومياً العديد من الإحصاءات حول عدد اللاجئين السوريين المتواجدين في تركيا، بعضها صادر عن مفوضية شؤون اللاجئين، وبعضها عن دائرة الهجرة التركية، والبعض الآخر عن اليونيسيف وهلم جرّا..

إلا أن جميعها تفتقر إلى الدقة والموضوعية نتيجة عوامل عدة، أهمها على الإطلاق يتمثّل بمدى الفارق الشاسع بين إحصائية وأخرى متجاوزاً المليون ونصف لاجئ في بعض الأحيان. فنلاحظ أن غالبية الإحصاءات اليوم تتراوح بين الرقمين: 3,6- 5,2 مليون لاجئ!

ولكن ما نود تأكيده والإشارة إليه هو أن عدد الأطفال السوريين الذين تتراوح أعمارهم بين 5- 17 عاماً (في سنّ التعليم) في تركيا قد تجاوز المليون بالتأكيد، وأن أكثر من ثلث هذا العدد لا يزال خارج التعليم، وربما خارج الإحصاء!


من الفوضى إلى الدمج: دراسة تحولات التعليم السوري في تركيا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!