الوضع المظلم
السبت ٠٩ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • "منطقة عازلة" بين نارين لإحتواء أحلام "يتامى الإسلام"- الكورد!

رضوان باديني

د. رضوان باديني

مارست تركيا بكل وسائل الضغط والأوراق الإستراتيجية التي تملكها، بما فيها موقعها الجيوإستراتيجي، مارست إبتزازاً فظاً على حليفتها أمريكا وعلى مدى شهور، لحملها على قبول إنشاء "منطقة آمنة" بشروطها في شرق الفرات، لكبح جماح النضال الكوردي المتصاعد. فبدءاً من الإستدارة نحو روسيا في شراء العتاد العسكري الإستراتيجي و صواريخ س400، وإنتهاءاً بالتهديد "بقلب الطاولة" على الأمريكان والخروج من الناتو...لم تدخر فرصة إلاّ ووجهت فيها ضربات لعلاقات الطرفين. ويبدو، أن واشنطن قررت في النهاية عدم إفلات أنقرا من يدها وأذعنت لبعض شروطها. لكن الإتفاق على مضض حول "المنطقة الآمنة" في بعض فقراته غير واضحاً في تحديد: عمق المنطقة، نوعية الإدارة فيها، المصير النهائي لحلفاء واشنطن الكورد..ألخ. والإبهام الذي يكتنف فقرات ومفاصل "الإتفاق" تجعل القناعة بجدوى التفاهمات بين الطرفين هشة وبغير مصداقية. هذا هو الإنطباع الذي يولد من متابعة تحليلات مختلف المراقبين من شتى الإتجاهات والتوجهات. ثم أن ما يزيد القناعة بهشاشة الإتفاق هو إستمرار تركيا بالتهديد بالإنسحاب من هذه التفاهمات وإجتياح المنطقة بوحدها "بدون إذن من أحد" في حال لم تصل مع أمريكا لتأمين مقتضيات "أمنها القومي"،! وهو ما يصرح به المسؤولين الأتراك على الدوام.


إذاً، ما من شك أن التعارض في رؤى الطرفين حول مضمون "التفاهم" قائم ومستمر! وما إستخدام المصطلحات المتباينة، ذات المضامين المختلفة، على لسان كبار مسؤولي البلدين: "منطقة تامبونية"، "منطقة عازلة"، "ممر سلام"، "منطقة آمنة"..ألخ، إلاّ دلالة على أن ما إنتزعته تركيا في لحظة الإستذءاب ليس دوماً ما يتوافق مع مطالبها في حالة الصحوة. أما أمريكا، ففيها معسكران يتصادمان بشأن تركيا، الأول يقر بأن العلاقات المستمرة منذ قرابة 60 سنة، يمكن لها أن تتجاوز هذه المحنة بالحوار. والآخر يقول: يمكن فرض عقوبات سياسية وإقتصادية وعسكرية قاسية لحمل أنقرا على تغيير سلوكها وسياستها! وهكذا يبدو أن صبر الطرفان لم ينفذ بعد وما يزالان يتنازلان عن بعض خطوطهما الدفاعية ما قبل الحمراء لإنجاح الإتفاق!


في البداية كانت المواقف متباعدة بشدة بين الطرفين: كان هدف تركيا القضاء التام على "الإدارة الذاتية"- (الكُردية)؛ إبعاد المسلحين الكورد لمسافة 40كم؛ تدمير الأنفاق والمحصنات العسكرية؛ جمع وتسليم الأسلحة الثقيلة من قوات قسد..ألخ. أما أمريكا التي إمتصت جزئياً الغضب التركي، قدمت سلة من الإقتراحات في خطة محكمة لتهدئة الوضع، ووقف الإجتياح الذي كان قاب قوسين أو أدنى. كما وأرفقت رؤيتها بخارطة مفصلة لتصنيف أجزاء من "المنطقة الآمنة" حسب بعدها وقربها من الحدود، خطرها الكموني على تركيا؛ وحسب نوعية الأسلحة المتواجدة فيها؛ وكذلك حسب غلبة سكانها من الكورد أو العرب..ألخ. ودعمتها بتفاصيل من الإجراءات التي تتطلب مزيداً من الوقت، قد يستغرق تنفيذها سنوات. طبعاً هدف امريكا من كل ذلك، خلق توازن بين شريكيها المعاديّين لبعضهما البعض (الترك والكورد) بشكلٍ يحفظ فيه ماء الوجه للجانبين: ضمان أمن الحدود التركية، وتطمين الكورد بأنهم "في حماية أمريكا"، وبمنأي عن الخطر الداهم!. وكما يبدو، أن ما ساعد في تقريب الإرادة الأمريكية من النجاح، هو أن تركيا، غير حاسمة حالياً في القطيعة النهائية مع الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي ساعد الأخيرة في إيجاد نوعٍ من الحماية لحلفائها الأكراد في منطقة آمنة، صحيح عسيرة، لكنها على قدر تطلعاتهم المتواضعة.


والتفاوت في تقدير النتائج المتوخاة من المنطقة الآمنة ليس مقتصراً على أمريكا وتركيا فقط. فأطراف المعادلة المحلية والإقليمية والدولية المتدخلة في الأزمة السورية أوسع بكثير. وما تكدرت به العلاقات الأمريكية التركية يمكن أن تكون مضاعفاته أكبر بكثير للأطراف الأخرى.

نظرة عن قرب للمشهد المعقد من وجهة نظر الأطراف الرئيسية ستساعدنا لرؤية أوضح:


الكورد السوريون، الذين إستفادوا من ظروف الحرب السورية في تنظيم حركتهم، أملاً في الخلاص من سلطة النظام السوري الذي أضطهدهم أبشع إضطهاد، وحرمتهم حتى من حمل أسمائهم الكُردية و الأوراق الرسمية للبلد الذي ينتمون اليه. وفي تعاونهم العسكري مع التحالف العالمي بقيادة أمريكا ضد داعش، زادت شكيمتهم وتنامت قوتهم عسكرياً، لكن قبل أن يصلوا لنهاية النفق ونيل بعض حقوقهم القومية أثاروا مخاوف تركيا التي خشيت أن تؤدي تجربة أكراد سوريا لتحريك أكرادها. وكان ذلك كافياً لتركيا لتصعيد ضغطها بشكلٍ غير مسبوق على حليفتها التاريخية أمريكا، للقبول بأكبر عدد من الشروط التركية، أهمها كبح جماح الكورد العسكري. وكوردياً، القبول بمنطقة آمنة تديرها جزئياً تركيا، كقبولهم "بالذئب بحراسة الأغنام"! لكن خياراتهم شبه معدومة. وقد أدركوا بأن حجمهم ووزنهم ليس بالقدر الذي يمكن به صد الخطر التركي. ولذك قبولهم بمنطقة تقرر أمريكا قربها وبعدها من عدوهم اللدود تركيا...أفضل بكثير من منطقة تكون فيها تركيا السلطة الوحيدة.


أما سوريا- فهي أيضاً معنية بإضعاف الكورد بدرجة ليست أقل مما ترغب به تركيا. رغم أنها تعتبر إنشاء منطقة خاصة من أي طرفٍ كان على جغرافيتها بدون رأي دمشق، إحتلال وتجاوزعلى سيادتها. لكنها حريصة في نفس الوقت على غض الطرف لحسابات خاصة لها مع روسيا، الصامتة وفق تفاهمات خاصة مع أمريكا. ورغبة منها لإستغلال المناخ النفسي المضطرب للكورد جراء التهديدات التركية بإجتياح المناطق الكردية، تطالب دمشق بعودة الكورد "لحضن الوطن السوري" بدون أن توعدهم بأي وضع قانوني جديد، تحترم فيها حقوقهم القومية. ولذلك السؤال يبقى قائماً: هل منطقة عازلة بين ناري عداوة تركيا وسوريا كافية لحماية الكورد؟


أن ما يقوي الأعتقاد بأن "المنطقة الآمنة" قد تكون جزئياً مفتاح حل الأزمة بين أمريكا وتركيا، وضمانا "مؤقتاً" بأن مصير شرق الفرات لن يكون مشابها لغربه (عفرين)، هو إفتراض إيجابي، يجمع عليه أغلب الأطراف الدولية المعنية، الذين يؤكدون بأن وضع المنطقة النهائي مرتبط بالحل النهائي للأزمة السورية. هذا الرهان مرتبط بدوره بمجموعة من العوامل داخل كل دولة. ففي تركيا يتوقف على مدى قدرة أردوغان الإستمرار في حشد الرأي العام حول نقطة "الأمن القومي" المبالغ فيه؛ وفي أمريكا بمدى نجاح إدارة ترامب بالحفاظ على الحليفين المعاديين لبعضهما البعض. وفي هذه الظروف، منطقة آمنة بالحدود الدنيا من مقومات الأمن كافية لإحتواء كل أحلام "يتامى الإسلام" المتواضعة- الكورد!

العلامات

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!