الوضع المظلم
الأربعاء ٠١ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
  • مسلسل" النار بالنار".. هل أطفأ الحب النار أم انتصر الخراب؟

مسلسل
النار بالنار

ما معنى أن تمرّ أمام زحمة الأعمال الدرامية في مونديال الموسم الرمضاني، مرور المتعطش للشيء الخاص والمختلف، وأن تستوقفك بعض الأعمال، التي تفتح باب الأسئلة على جمال وفن أداء الممثلين، الموسيقى التصويرية، حكاية العمل، هو ما فعله مسلسل"النار بالنار"، والذي يعكس الرؤية الإخراجية للمبدع محمد عبد العزيز، الذي أبهرنا بمقاربته للغة البصرية السينمائية، التي تشابكت مع حكاية العمل، وأداء الممثلين العالي، هذا التناغم مع العبث حيناً، وجدية الحوار، واقترانه بالشعبي، ولغة المثقف، من خلال دراما تنتمي إلى الواقع، وتعكس ما يعيشه اللبناني والسوري من خيبات وأحلام، ولحظات حلم مسروقة، حالة المثقف المهزوم، العامل المعتّر، والفنان، وشرائح طفيلية تمثلت بالمرابي، فهل استطاع محمد عبد العزيز تقديم رؤية جديدة في دراما الأعمال المشتركة السورية اللبنانية، وهل أطفأ الحب هذه النار حقاً؟

مسلسل "النار بالنار"، من إنتاج شركة "الصباح إخوان"، وتأليف رامي كوسا، وبطولة نخبة من النجوم السوريين واللبنانيين، أبرزهم عابد فهد وكاريس بشار وجورج خباز، طارق تميم (جميل)، ساشا دحدوح، زينة مكي، هدى الشعراوي، جمال العلي، والشابان فكيتوريا عون، وتيم عبد العزيز (بارود)، إلى جانب ضيف الشرف أحمد قعبور، وغيرهم.

حروب وحب مهزوم

"النار بالنار" عمل يضيء عدداً من القضايا الاجتماعية والسياسية، ومنها العنصرية ضد اللاجئين السوريين في لبنان، وقضية مفقودي الحرب الذين لم يُعرف مصير بعضهم إلى اليوم، وهم ضحايا التدخل السوري في لبنان عقب الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في أبريل 1975، إلى جانب قضايا اجتماعية أخرى.

ويبقى السؤال: إلى أي درجة استطاعت الأنظمة خلق الشروخ والكراهية بين الشعوب؟ وهل بات الشارع مرتهناً للمرابين والمهربين، المتواطئين مع الأمن والشرطة؟ وهل ينتصر الخراب؟

 

حكايات في حكاية

تدور أحداث "النار بالنار"، في أحد أحياء بيروت الشعبية، والذي شكّل منصة حقيقية للحب والقتل، والصراع، وكأننا في عنبر تشيخوف، الجميع مأزوم، السوري، اللبناني، حالة غضب وقلق وعبث، غضب اللبناني من اللاجئين السوريين، غضب السوري من وضع غير إنساني وجد نفسه فيه، غضب اللبناني من سرقة البنوك لأمواله، وهنا نجد سارة (زينة مكي) ضحية، ظهور المرابين وثقافة التشبيح، وكأننا نردد مع المتنبي: فعلى أيّ جَانِبَيْكَ تَمِيلُ.

وبالتالي نكون كمن وُضع في عناية مشددة، فالكل مأزوم، مع بعض الصور واللحظات المضيئة التي منحت العمل جماليات، كقصة الحب بين "جورج خباز (عزيز)، وكاريس بشار (مريم)، وجماليات بعض المشاهد بين طارق تميم (جميل)، الذي يمثل المثقف، وساشا دحدوح، والتي شكّلت إضافة حقيقية للحكاية.

ويضيء العمل على المثقف وتجريده من دوره، كل هذا يدفعه ليكون مقامراً، وقد شكل مشهد دخول قمر، زوجة جميل، إلى عالم الرجال وجلوسها في تحدٍّ مع جميل في مشهد وكأنه مسروق من سينما عالمية، أو من رواية عن جرح المرأة، المرأة في اختبارها للوجع والصبر وإعادة بناء ما ضاع. وقد أبدعت ساشا في الأداء التمثيلي، وطارق تميم تفوّق على جرحه بأدائه العالي، الصوت، لغة الجسد، حالة العبث، ومشهده في الشارع وقد أراد إحراق نفسه، كدلالة إلى الثورة بل وحاجتنا إلى ألف ثورة لتغسل كل هذا السخام.

سيناريو متقن

يرسم سيناريو "النار بالنار" شخصيات العمل بإتقان عالٍ، فعمران "عابد فهد" المرابي، الذي يعيدنا إلى شخصية شايلوك في تاجر البندقية، يستغل الجميع دون أي تمييز بين سوري ولبناني، يهدد، ويراهن على أغلى ما يملكون، ولا يهمه أن يقتطع أي جزء من جسد الآخر، ولكن حاجة الناس تجعلهم يرهنون أغلى ما يملكون (بيانو، لوحات تشكيلية، وغيرها).

عمران نموذج الشبيح المرابي الذي لا يصعب عليه شيء، يزوّر جواز سفر لبناني ويخرج مريم من مركز الاحتجاز لأنه أحبها، أو لأنها منحته صفة رجل شهم، مريم التي ستشكل علامة فارقة في صيرورة العمل، وتقلب المعادلات، بعد أن تميل إلى عزيز، الذي أحبها، فهل أطفأ الحب النار الذي بقلبه حقاً؟

يبدو عزيز "جورج خباز"، في العمل منطوياً على حزنه، أشبه بشخصيات كافكا، يحاول أن يبلل عزلته بالموسيقى والحب ورائحة القهوة، الخط العام في شخصيته كرهه للسوري، ويُحمِلَهُ وِزر اختطاف النظام السوري لوالده خلال الحرب، أي قبل ما يقارب 40 سنة.

تتشابك الأحداث والحكايات بعد وصول مريم "كاريس بشار" إلى الحي، وهي امرأة بسيطة، مات أهلها، واعتقل زوجها،  فتتعرف على عمران، وتصطدم بالعنصرية التي فرضها عزيز، تتشاجر معه تحت اللافتة التي رفعت ضد السوريين ومنعت تجولهم "يمنع تجول السوريين بعد الثامنة مساء"، وهي لافتة واقعية وحقيقية، عرفناها قبل المسلسل وقد أدانها الكثير من الكتاب سابقاً، ومنهم إلياس خوري، وزياد ماجد، واستطاع كوسا توظيفها بذكاء عالٍ، دون أن يقترب بشكل حقيقي من أسباب كراهية اللبناني للسوري. يقول عزيز لمريم: "ماضيكم معنا بشع وحاضركم أبشع، نحنا أرسلنا وراءكم على أساس قوات ردع، صار بده مين يردعكم".

تتنامى الشخصيات، حتى الحلقة 20، بعدها نرى خللاً ما في سيرورة الأحداث والحوار، تكرار، بطء، ونهايات مسدودة.

 

أبطال متعددون

كل ممثل بطل في هذا العمل، ساشا "قمر"، التي أدت دورها كزوجة، وسيدة بيت، وعاملة، أداء ساحر، بعفوية، وبذكاء عالٍ، ببحة صوتها الذي يصل إلى القلب، ببساطتها، وجمالها، فكانت صورة من صور المرأة في حفاظها على البيت والزوج الحبيب، وفي استفزازها العاشق، ولا ننسى أبداً مشهد دخولها معه التنافس على القمار والربح، والذي أخذنا إلى لحظات تراجيدية، هل نضحك.. هل نبكي ونحن نرى الزوج يراهن على طفله في بطنها؟

وقد أبدع طارق تميم في دوره، في لغة الجسد، في كلامه ولغته المثقفة، في حنانه وصداقته لجيرانه، ولم ينجُ من عمران أحد!

وبدت كل من زينة مكي وكأنها من عوالم ماركيز، أو روايات إيزابيل الليندي، عفويتها، حكمتها، ورائحة الزمن بكل تناقضاته في صوتها.

زينة مكي التي مثّلت ضياع الشباب، بين العادات والتقاليد، وبين أنظمة تسرق أحلامهم وأموالهم، وكانت النهاية بيد المرابي المتشابك مع الأنظمة الأمنية والمخابراتية. أما جمال العلي فقد كان أداة في سلسة الخراب، وثقافة التشبيح والخراب.

جيل جديد

الجميل في هذا العمل ظهور الوجوه الشابة الجديدة، والذين وقفوا أمام الكاميرا بجرأة أعادتنا إلى أفلام الواقعية السحرية، تيم عزيز "بارود"، الذي أدى أداء ملفتاً، فكان الصبي والشاب، والطفل الذي سرقت طفولته، فهو بائع اليانصيب، الشهم، المنقذ للصبية رؤى، التي رأيناها في "ستيليتو"، وهنا في النار للنار كل شيء مسروق حتى الطفولة.

أداء عالٍ

في هذا العمل يبدو "عابد فهد"، في أدائه التمثيلي وكأنه "الجوكر"، أو الممثل الذي خرج من جلده، أدى دور المرابي بلغة الجسد والصوت، بتعابير تستفز، لا يرفّ له جفن أمام أي موت يسعى إليه.

عابد فهد الممثل الذي جسد دور جساس، والظاهر بيبرس، والحجاج، والكثير من الأعمال، الولادة من الخاصرة، وأهل الغرام، وغيرها، في هذا العمل ترك بصمة مختلفة، وقدّم تمثيلاً بعيداً عن الصورة النمطية المعتادة.

أما مريم (كاريس بشار)، فقد أبدعت في دورها، مشيتها، صوتها، بساطتها، وشكّلت صورة من صور المرأة الشعبية السورية، التي تحمل حبها أنّى ذهبت، فكانت صوت الضحية، ضحية التشبيح والمرابين والحرب، والأنظمة التي أنتجت كل هؤلاء.

نهايات تراجيدية

بعد أن رأينا النهايات التراجيدية والحب الملاحق بالموت، نسأل هل انتصر الخراب حقاً؟ وهل ظهور المرابي في آخر العمل وهو يضحك ضحكة القاتل ويحمل دولاراً هو ما ينتظر مستقبل هذه المدن؟ لو واصل الكاتب كتابة السيناريو نفسه إلى آخره ولم يتوقف عند الحلقة 20، هل كنا فعلاً سنجد تنامي الشخصيات بشكل مختلف؟

نهايات قاسية، موت مريم، ذهاب عزيز إلى دمشق، عودته إلى بيروت، إزاحته للافتة التي وضعها، كل شيء يتغير، رغم أن هذا الحب ملاحق بالموت، والنهايات تراجيدية ومحبطة، لا سيما مشهد الموت والدم.

هروب بارود مع حبيبته وطفلها إلى دمشق، سجن سارة. النهايات أخذتنا إلى حالة من الإحباط فنحن غرباء تماماً، مثل اللوحات المعلقة على جدران المرابي، أو على جدران غيره، نرى تشيخوف غريباً ونقول تستمر حكاية العنبر رقم 6، ولكن بصورة أفظع، نرى لينين وجيفارا، هؤلاء الغرباء عن المكان، مكان منقطع عن الذاكرة، ومثقف محكوم بسجن المكان ومشاكله، وزعران يسرحون ويمرحون.

ليفانت - فاتن حمودي

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!