الوضع المظلم
الإثنين ٠٦ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
محكمة كوبلنز بين العاطفة ومنطق العدالة
طارق عزيزة

الانتهاكات المرتكبة ضدّ حقوق الإنسان، سواء وقعت في أوقات النزاع المسلّح أم في زمن السلم، تعدّ جرائم وفق القانون الدولي وتستوجب محاسبة مرتكبيها، بصرف النظر عن حجم دور المتورّطين فيها، ومن بينها جرائم التعذيب والإخفاء القسري للأشخاص. ولمّا كان عمل أجهزة الأمن والمخابرات جميعها في "سوريا الأسد" ما هو إلا مسلسل متواصل من اقتراف جرائم من هذا النوع، فإنّ قرينة تورّط عناصرها بارتكاب الانتهاكات قائمة، سواء قام بها العنصر مع توفّر النيّة الجرمية لديه، أو في معرض قيامه بالواجبات الوظيفية. هذا يعني أنّ مجرّد عمل المرء في أجهزة المخابرات الأسدية هو تهمة بذاتها، فكيف إذا كانت البلاد في حالة ثورة وأجهزة المخابرات، منذ الأيّام الأولى للتظاهرات الشعبية السلمية، لم تكفّ عن اعتقال الناس وإخفائهم قسراً وتعذيبهم وقتلهم، حتى لمجرّد شبهة المشاركة في المظاهرات أو التعاطف مع الثورة.


رغم كلّ ذلك، ثارت موجة واسعة من الجدل والخلاف في الرأي بين السوريين/ات حول قيام السلطات الألمانية قبل نحو عامين، بتوقيف العقيد أنور رسلان والمساعد أول إياد الغريب، العضوين السابقين في أحد أجهزة مخابرات النظام السوري، وتحديداً المخابرات العامة المعروفة بـ"أمن الدولة"، وذلك على خلفية اتهامات لهما بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، واستناداً لمبدأ الولاية القضائية العالمية المعمول به في ألمانيا.


ومنذ بدء محاكمتهما في نيسان (أبريل) من العام الماضي أمام المحكمة الإقليمية العليا بمدينة كوبلنز، كان هناك من أيّد الإجراء ورأى فيه خطوةً هامّة على طريق تحقيق العدالة ومحاسبة المتورّطين في ارتكاب انتهاكات بحق السوريين، في حين تعاطف آخرون مع الموقوفَين ووجدوا أنّ من الظلم اعتقالهما ومحاكمتهما، نظراً لأنّهما انشقّا عن النظام في وقت مبكّر نسبياً من عمر الثورة (انشقّ الغريب مطلع عام 2012 ورسلان أواخر العام نفسه). الآن عاد الجدل والخلاف ليتجدّد بعد صدور قرار إدانة إياد غريب، والحكم عليه بالسجن مدة أربع سنوات ونصف، لمساهمته في اعتقال عشرات الأشخاص من مظاهرة سلمية، واقتيادهم إلى الفرع الأمني الذي كان يعمل فيه، فيما تستمرّ محاكمة العقيد أنور رسلان، لأنّ المحكمة فصلت بين القضيّتين.


خلال المحاكمة أتيحت لإياد وفريق الدفاع كل الوسائل، بما فيها استدعاء شهود، لإثبات عدم تورّطه في الجرائم المنسوبة له، باستثناء ما أقرّ واعترف به هو نفسه من مشاركته في اعتقال متظاهرين سلميين، أي أنّ الفرصة كانت متوفرة أمامه للحصول على براءته مما هو بريءٌ منه حقاً أو نما يفتقر لأدلّة تثبته. والمحكمة توصّلت بالفعل إلى نفي كثير من التهم عنه وفصلت مسار قضيّته عن قضيّة العقيد رسلان الطافحة بالتهم، والتي تقدّم ببعضها مدّعون شخصيون ضدّ المتهم.


هناك من استنكروا الحكم، والمحاكمة نفسها، بحجّة أنّ المجرمين الكبار من أركان النظام مازالوا بعيدين عن دائرة العدالة والمساءلة، وأنّ رسلان وغريب ما هما إلا "كبش محرقة" لأسباب لا علاقة لها بتطبيق العدالة حقاً، وبلغ الأمر ببعضهم حدّ اعتبار القضية برمّتها تخدم النظام لجهة الانتقام من الضباط المنشقّين! لكن في الواقع، وخلافاً لهذا الزعم، لم تقتصر المسألة على ما يجري في كوبلنز، لأن الادّعاء الألماني نفسه أصدر بالفعل مذكّرات توقيف دولية بحق بعض كبار قادة النظام الأمنيين، ومن ضمنهم اللواء جميل حسن، المدير السابق للمخابرات الجوية وأحد أشهر مجرمي النظام السوري. والأهمّ أنّ تعليل الحكم الذي صدر بحق إياد غريب لم يتناول شخصه فقط، وإنما استفاض في تعرية منهجية الإجرام التي يتبعها نظام الأسد في قمع معارضيه، استناداً إلى الأدلة والوثائق والشهادات والخبرات التي عُرضت في جلسات المحكمة.


رغم الجدل والانتقادات، فإنّ هذه خطوة هامّة في مسار العدالة الطويل. وإلى حين توفّر الظروف التي تتيح محاسبة كبار المجرمين لا ينبغي أن يُستثنى الصغار منهم من الملاحقة والمحاسبة بذريعة عدم إمكانية الوصول إلى أسيادهم، فالعدالة واحدة وقضيّتها لا تتجزّأ، و"ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه". وبمثل ما يوجد مجرمون في مواقع المسؤولية أصدروا الأوامر بارتكاب الانتهاكات وقمع المتظاهرين السلميين، هناك مرؤوسون قاموا بتنفيذها. ومبدأ المحاسبة والعدالة يشمل مصدري الأوامر ومنفذيها معاً، فالمسؤولية الجنائية لا تنتفي عن المنفذين لمجرّد القول إنّهم لا يملكون خيار الرفض، أو أنّهم انشقّوا لاحقاً رفضاً للاستمرار في ممارسة الانتهاكات. يمكن أن يُنظر إلى هذه المعطيات بوصفها من الأسباب المخفّفة للعقوبة، خاصّة في حالة المنشقّين الذين أظهروا تعاوناً مع العدالة، وهو ما جرى مع إياد الغريب فعلاً، حيث استفاد من الظروف المخفّفة، سواء في مقدار العقوبة التي طالب بها الإدّعاء العام، أو تلك التي قرّرتها المحكمة في حكمها عليه.


إنّ العدالة في أبسط صورها تعني محاسبة من يثبت تورّطه في جريمة ما، وتبرئة من تثبت براءته وردّ الاعتبار له. فإمّا الوثوق بالقضاء والإيمان بمبدأ العدالة والمحاسبة بالمطلق، كائناً من كان المتهم وأيّاً تكن عواطفنا تجاهه، أو أنّ الكلام عن العدالة سيبقى محض شعارات جوفاء لا قيمة لها.


طارق عزيزة


ليفانت - طارق عزيزة

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!