-
كلاب اسطنبول وأوادم سوريا
ماجد ع محمد - كاتب سوري
لا أنكر بأني ومنذ أن وطأت قدماي أرضَ مدينة اسطنبول التركية بعد اللجوء إليها من سورية منذ عدة أعوام، لم تشغلني مباهجها، ولا سلبت لبي يوماً ليالي تقسيم الحمراء فيها، ومع إعجابنا بالحضارة المادية الغنية في هذه المدينة التي يمتزج فيها الكلاسيك بالحداثة، والتي رغم كُبرها وكثافة السكان بها ففيها من المساحات الخضراء ما يوازي مناطق بأكملها في بلدان مشرقية أخرى، ناهيك عن الخدمات الجبارة لما تقدمه البلديات فيها، إلاّ أن حب ناسها للعمل بقيَ محط إعجابٍ لديّ، وذلك لإدراكي أن أغلب مواطني البلد من ميسوري الحال، ونادراً ما تجد فرداً ليس له حساب في البنك بخلاف العامة في بلدنا سورية، إذ مع التصور بعدم حاجتهم للعمل الدؤوب مثلنا، إلا أنهم مع ذلك ملتزمون بالعمل إلتزام يستدعي الإعجاب بالحيوية والنشاط لديهم، وحيث أن بلدان مثل تركيا وماليزيا وسنغافورة تدفع المرء للإيمان بقدرة الإنسان على البناء عوضاً عن حقن مواطني البلد ليل نهار ببضعة كليشيهات ديدنها الاعتصام بالسلطة والانشغال الأبدي بالمكائد السياسية، أو بتخدير الأنام سنين طويلة بقصص الفلاح تعويلاً على الماورائيات.
وبما أننا خرجنا من بلد يعاني من وجع القصف والتدمير، لذا كان هرم ماسلو الخاص بالحاجات الإنسانية ماثلاً أمام كل من كان مسكوناً بهموم الآخرين، إذ لم تسرقنا الملذات قط، ولا خطفتنا مراتع المغريات ولو لبضع ساعات منذ مكوثنا بها، ورغم أهمية الكهرباء والمياه التي لا تنقطع في هذه المدينة إلا نادراً جداً، ورغم الميزة الكبيرة للمواصلات في المدينة بكل أشكالها السريع والبطيء، وما كان يسير فوق الأرض أو ما يمضي تحت الأرض، فمع كل تلك الخدمات التي جعلت حياة المواطن تسير على ما يرام، إلا أن أكثر ما لفت انتباهي في هذه المدينة هي الكلاب الشاردة أو المقيدة في شوارعها وساحاتها.
فالكلاب بالنسبة لي كانت هي نقطة الفصل والمفارقة الكبرى بين البلد كبلد يحكمه القانون الغربي الصرف بالرغم من أنه يعد من بلاد المسلمين، وبين بلدنا الموجود على الخريطة والذي يعيش اللعنة بحذافيرها والجحيم قائم على ترابها، بالرغم من أن معظم مواطنيها من أتباع الديانات السماوية ولا أثر يذكر لأنصار الديانات الوضعية فيها، ويدّعى الكثير إن لم نقل معظمهم بأن الغرب الكافر الذي تقتفي تركيا أثره وتتشبه به أخذ من لدنهم الحضارة والقيم والأخلاق والمعارف والعلوم؛ علماً أن أي زائر إلى سورية سواءً قبل الثورة أو بعدها قد يقول بعد سؤاله عن سلوك الناس فيها، بأن الكثير ممن التقى بهم يفتقرون بوجهٍ عام إلى كل ما ينسبونه إلى أنفسهم من أخلاقيات ومحامد ومحاسن الغرب الكافر!!!
وعدا عن فقدان الإنسان كإنسان لقيمته الوجودية في سورية مقارنة بالكلاب المتمتعة بكامل حقوقها الحيوانية في تركيا التي تطبّق القوانين الغربية في كل أمور الرعية، ولا تعتمد في تسيير شؤون الدولة أو أمور حياة مواطنيها على زجليات السلطة الأبدية أو خرافات المشايخ، بعكس بلدنا وحيث الهاجس الديني يكاد يكون كالغيمة التي تظلل كامل مساحات سورية، إلا أن الدين لم يقدر لا على تقليل الجور والحرام، ولا استطاع يوماً الحدَّ من تغلغل الفساد أو إيقاف العنف والعدوان والإجرام، بالرغم من أن هناك طيف كبير جداً من المسلمين مصرون على القول بأن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر، علماً بأن المنكر في ازدياد ومساحة الفحشاء لم تتقلص شبراً واحداً مع دوام امتداد الغطاء الديني، إذ وكأن الصلوات تعمل فعلاً عكسياً، فبدلاً من أن تبعدنا أو تبعدهم عن الحرام بكل صنوفه يحببنا ويحببهم به ويقربنا ويقربهم إليه!!
ولا شك أنه حتى بعد الثورة لم يتغير حال الأنام أو حال الكلاب في البلد نحو الأحسن، وذلك لأن أحد أبرز أسباب التقهقر القيمي في سورية هو أن الفساد والمفسدين غيروا فقط المنصة التي يقفون عليها والشعارات التي يتبجحون بها، فمعلوم أن ثقافة التغاضي عن زناخات من كانوا منا، محسوبين علينا، أو نحن منهم، لازمت السوريين طوال حكم الأسدين الأب والابن، ومن ثم استمرت الآفة نفسها فترة الثورة السورية، وانتعشت في مناطق نفوذ الثائرين على النظام منذ ما بعد 2012.
إذ كما كان البعثي خاصةً والموالي عامةً وإمعاناً في المديح بقائده المفدى يتناسى كل قذارات وانتهاكات أزلام السلطة أو الشبيحة، وربما من حبه للسلطة أو حباً بمصالحه دافع عن وضاعاتهم؛ كذلك صار حال المعارض الشكلي الذي خلع ثوب النظام وارتدى قفطاناً آخر، حيث أنه بدعوى عدم تشويه سمعة الثوار تغاضى عن كل انتهاكات المحسوبين على الثورة ليس الآن فحسب، إنما ومنذ انتقالها إلى مرحلة الثورة المسلحة التي تم شرعنة الفساد فيها باليافطات الدينية من قبل آلاف الفاسدين، وكمثال قريب على ذلك كتب الناشط آزاد عثمان بأن "أحلى شيء في غزوة عفرين أن حرامية الفصائل كانوا يسألون ضحاياهم، أي من قاموا بسلب ونهب كل ممتلكاتهم عن أهمية الصلاة - التي تحثهم على الفحشاء والمنكر - وكذلك عن عدد الركعات"، وحيث بات جلياً بأن الشعارات الدينية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام هي تماماً مثل الشعارات التمجيدية بالأسد في مناطق نفوذه والتي شرعن أصحابها والمتشدقون بها كل جرائم النظام؛ وغدا معلوماً للناظر في حال البلد أن كل من تلحّف بتلك الشعارات سواء الأسدية أو الدينية هو عملياً يستخدمها كغطاء شرعي لكل ما يقترفه من موبقات.
على كل حال ولأن كلاب اسطنبول يُشعرون الماكث بها بالأمان والطمأنينة، وذلك بفضل القانون الذي يحمي هذه الفئة من الكائنات لتعيش بكل هدوء وسكينة إلى جانب الأسراب البشرية، لذا فكُلَّما صرّح مسؤولو أنقرة بما يتعلق برغبتهم الجامحة في إنشاء المنطقة الآمنة في سورية، تذكرت الحالة الأمنية المزرية التي يعيشها السوريون في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وخاصةً منطقة عفرين، وحيث أن المرء فيها ليس ملك نفسه إن ابتعد خمسمائة متر عن بيته، وأقول حينها ليت ساسة أنقرة وقبل الحديث عن المناطق الآمنة في شمال سورية، حقّقوا الأمان في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم ولو فقط بمقدار ما تتنعم به قطعان الكلاب في شوارع اسطنبول، حينها لا بأس بأن يردّدوا موضوع الواحات الآمنة على طول حدودهم مع سورية كلازمة موسيقية تعمل هناك على إغفاء كل الأوادم والأنعام.
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!