الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
كافكا في متاهة الكوابيس
إبراهيم أبو عواد

وُلد الأديب التشيكي فرانز كافكا ( 1883_ 1924 ) في براغ، التي كانت آنذاك جزءاً من الإمبراطورية النمساوية المجرية، لعائلة ألمانية من الطبقة الوسطى تنحدر من أصول يهودية أشكنازية. لَم يتوقع أن يصبح كاتباً عالميّاً، ولَم يتخيَّل في يوم من الأيام أن تصبح مؤلفاته من عيون الأدب العالمي. فالقليلُ من كتاباته نُشرت أثناء حياته، ولَم تستقطب انتباه القُرَّاء. والكتاباتُ القليلة تعني أنه لَم يكن حريصاً على نشر أعماله، ونَيل الشُّهرة والمجد الأدبي. كما أنه طَلب من صديقه المُقرَّب ماكس برود أن يُتلِف كل كتاباته بعد موته. وهذا يعني أنه غير مقتنع بها، ويرى أنها لا تستحق النشر، ولا فائدة من اطلاع القُرَّاء عليها. وبالطبع، لَم يستجب صديقه لهذا الطلب، ونشر أعماله بعد موته، وصنعَ مجدَ كافكا الأدبيَّ إلى الأبد.

ونظرةُ كافكا إلى أعماله الأدبية تحمل فلسفةَ جَلْد الذات ومُعاقبتها، لذلك لَم يُرِد أن ترى أفكاره النور. فقد كانت الكتابةُ بالنسبة إليه عملاً شخصيّاً، وحواراً ذاتيّاً، وتفريغاً للمشاعر على الورق. كَتَبَ لِنَفْسِه، كَتَبَ كإنسان مجروح ومكسور، ولَم يَكتب كصاحب مدرسة أدبية، أو زعيم تيار فكري. وهذا الانكسار المسيطر على حياته الشخصية وأعماله الأدبية، ينبع من غربته الروحية واغترابه العاطفي، وعُزلته الوجدانية، فهو يشعر على الدوام أنه خارج الزمان والمكان، ولا ينتمي إلى العناصر المحيطة بِه. فهو تشيكي المولد، يهودي الديانة، يكتب ويتكلم بالألمانية. وهذا الأمر يحمل في طيَّاته بذور العزلة والغربة، فالتشيكُ يعتبرونه ألمانيّاً، والألمانُ يَعتبرونه يهوديّاً. ومعَ أنه تشيكي المولد لا يكتب باللغة التشيكية، ومعَ أنه يهودي الديانة لا يَكتب باللغة العِبرية. وهذه الغربةُ المتفاقمة جَعلت منه شخصاً خجولاً ومُعَذَّباً، وأدخلته في صِدام معَ والدَيه، فصارت علاقاته الاجتماعية متوترة تمتاز بالقلق والخوف، ولَم تكن أزماته الاجتماعية إلا انعكاساً لأزماته الروحية. درس كافكا الكيمياء والحقوق والأدب في الجامعة الألمانية في براغ عام 1901. وحصل على الدكتوراة في الحقوق عام 1906. لكنه عمل موظفاً صغيراً في مؤسسة للتأمينات العمالية عام 1908، وعانى من التناقض الصارخ بين مهنته التي تُشكِّل مصدر رِزْقه، وبين قضاياه الفكرية وشؤونه الأدبية.

 وهذه الأزمة تُضاف إلى أزماته المتكاثرة، التي انتقلت إلى إنتاجه الأدبي. فالكتابةُ الأدبية عِند كافكا هي هروب من الذات والواقع، وتحويل الأحلام إلى كوابيس، وإظهار للجانب المأساوي في الحياة، وتسليط الضوء على المعاناة والألم والحزن، وإبراز المنحى السَّوداوي في داخل الشخصيات وخارجها. لذلك استحق كافكا لقب "رائد الكتابة الكابوسية".

وهذا اللقبُ يتَّضح معناه إذا عَلِمْنا أن روايات كافكا تنتهي دائماً بموت البطل معَ اختلاف أسلوب الموت. فبطلُ رواية "المسخ" ( 1915) يموت، وبطل رواية "المحاكمة" (1925) يُعدَم، وبطل رواية "القلعة" ( 1926) يُقْتَل .

انهارت حياة كافكا، وانكسرَ عالَمه الواقعي، فحاول إحياء نفْسه من جديد في أعماله الأدبية، وسعى إلى بناء عالَمه الخاص على الورق. هذا العالَم الافتراضي المحكوم بقانون الأحزان والآلام، والذي يَظهر في الألفاظ الكئيبة والمعاني الصادمة.

لَخَّصَ كافكا فلسفةَ إنتاجه الأدبي بالكامل في بداية رواية " المسخ"، حيث يقول عن أحد الشخصيات: ((استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نَفْسَه قد تحوَّلَ في فِرَاشِه إلى حشرة هائلة الحجم)). هذا هو السطرُ الأول في الرواية، ويُبرِز نظرة كافكا إلى أنساق الحياة، وتفاصيل المشاعر الإنسانية، وفلسفة العلاقات الاجتماعية. فالإنسانُ -في نظر كافكا- هو شخص مسحوق منبوذ لا قيمة له، تَطحنه قسوة الحياة المادية، وكُلُّ الذين يُحيطون بِه لا تربطهم بِه أية علاقة، إلا علاقة المنفعة والمصلحة، في ظل الغياب التام للمشاعر الإنسانية.

وهذه النظرة السَّوداوية للإنسان والمجتمع والعالَم، متجذرة في نفسية كافكا الذي عانى من طفولة تعيسة رغم ثراء أبيه. فأبوه كان شخصاً مُستبدّاً سحق شخصية ابنه، ولَم يستطع الابنُ أن يُفلِت من كابوس أبيه، فعاشَ الابنُ حائراً بين مشاعر الاحترام التي يَجب أن يحملها تجاه أبيه، وبين مشاعر الكراهية والحقد بسبب سيطرة أبيه المطْلقة وشخصيته الطاغية. شعر كافكا بأن أباه رَجل غريب لا يَمُتُّ له بِصِلة، ولَم يشعر بالدفء والحنان في بيته، وأحس بالعزلة والاغتراب بين أفراد عائلته، فسعى جاهداً إلى بناء علاقات عاطفية مع النساء، لعله يجد تعويضاً عن حِرمانه الروحي، وانكساره الجسدي، وخَيبات الأمل الكثيرة في حياته.

بَحَثَ عن الحب والحنان خارج البَيت، لأنه لَم يجدهما داخل البيت. ولكنَّ هذه العلاقات العاطفية باءت بالفشل، ولَم يستطع كافكا أن يُتوِّج أيةَ علاقة بالزواج. وهذه القضيةُ تُشير بوضوح إلى عدم قدرته على إتمام الأمور، ونقطةُ الضعف هذه لَم تُؤثِّر على مشاعره الإنسانية وعلاقاته الاجتماعية فَحَسْب، بل أيضاً أثَّرت على إنتاجه الأدبي. فأغلبُ أعماله الأدبية غير مُكتمِلة، وهذا يعني أنه عاجزٌ عن إيجاد نهايات منطقية لقصصه ورواياته. لقد كانت أعماله الأدبية -كتفاصيل حياته- أسئلة بلا إجابات، ومساحات مفتوحة على كل الاحتمالات والكوابيس والكوارث. لَم يسيطر على مسار الأحداث على الورق، ولَم يسيطر على تفاصيل حياته في الواقع. وفي هذا إشارة واضحة إلى التشويش الرهيب في ذهنه، والقلق الوجودي الذي يسيطر على أعصابه، والخوف الكامن الذي يَشُل قدرته على التفكير والتخطيط للأمور.

 كان خائفًا من كل شيء. خافَ من الزواج (الارتباط)، فانهارت علاقاته النسائية، وخافَ من تقديم نَفْسِه بين أفراد عائلته، فصارَ ظلًّاً باهتًا لشخصية أبيه القوية، وخافَ مِن أكل اللحوم، فصارَ نباتيّاً، وخافَ من الأمراض، فأصابه السُّل الذي دمَّر حياته، وأنهاها في 3 حزيران/ يونيو 1924. وكان في الحادية والأربعين من العُمر.

استمرت أزمات كافكا بعد مَوته، فقد تعرَّضت كتاباته للحرق على يد هتلر، وتَمَّ اعتباره يهوديّاً خائناً، ومثالاً للعبث والتشاؤم والضياع والسَّوداوية، لكنَّ أحداً لَم يَلُمْ هتلر على فَعلته، لأن كافكا شخصيّاً كان قد أحرقَ أغلب كتاباته.

ومِن السُّخرية أن نقول: إن هتلر قام بتحقيق وصية كافكا التي لَم يُحقِّقها صديقه المُخْلِص ماكس برود، وهي حرق كتاباته.

ليفانت - إبراهيم أبو عواد

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!