الوضع المظلم
الإثنين ٠٤ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • قراءة نقدية في مسرحية عنوانها "في حارتنا نتاشا"

  • في مسرحنا عمل يجذب أفكارنا وخوفنا ليُفرغ شحنتها
قراءة نقدية في مسرحية عنوانها
سالي علي

يقال عن غير المألوف بأنه قد خرج عن الصندوق وبمعنى أقرب إنه خرج عن المتعارف عليه في تقديم الفكرة، ولكن هنا مسرحية لم تخرج عن الصندوق فقط بل عن خشبة المسرح أيضاً لكمية المتعة الممزوجة بالألم مع الفرح فيها وإيصالها للجمهور عبر الإيقاع البصري السمعي والحركي الممتع خلال اثنين وأربعين دقيقة فقط.

فتندصم كمشاهد عندما تنتهي المسرحية لتقول بداخلك: لماذا؟

وهذا السؤال يطرح عدة أوجه عن ماهية إعلان وجوده، فلماذا انتهت المسرحية ولماذا لا تستمر ولماذا لا أستطيع إبقاءها كمشاهدة حيّة تعج بالحركة والموسيقا والتغذية البصرية؟ إذا لماذا؟

والجواب بسيط لأنها كانت جداً قريبة من خوفنا المكنون الصامت كانت بمثابة إسقاط للهوية المبتذلة التي نرتديها جميعاً في الشارع وفي منازل أصدقائنا وخلف أبواب عديدة نخاف طرقها حتى، نحن نخاف من الحقيقة لذلك نأتي للمسرح ليرقص نيابة عن جسدنا، ليغني نيابة عن صوتنا وليتحرك وفق ما نشعره، نيابة عن قلقنا وخوفنا من المواجهة فنصفق لكادر العمل ونحن حقيقةً نصفق لأنفسنا.

المسرحية تتحدث

عن فتاة مجهولة الهوية تدّعي نتاشا تعمل بمهنة الدعارة الشريفة على حد وصفها بفكرة العمل كونها لا تؤذي أحداً وتتكتم على فضائح سكان الحارة من رجالها إلى نسائها حول ما يتفوهون به أمامها وما يتعرون عنه في حضرة وجوده فهي المخلصة لرغباتهم ولا تتكلم من خلف ظهرهم بل تحميهم وتسمعهم وتمتعهم، ومن حولها يتوارى رجال الحارة المتنوعون كأطياف المجتمع الذي تنحدر منه بيئة العمل فهناك الرجل الذي يفتخر بلقب مهنته أكثر من فخره بنفسه وكأن دراسة الطب ولقب الدكتور هو من يسيطر عليه ولولا اللقب لا وجود له أصلاً. وهناك رجل صاحب مقهى شعبي قرر أن يصبح مطرباً كونها موضة رائجة وما ينقصه عن غيره حتى لا يصبح مثلهم.

 

وأيضا نرى شخصية الرسام الذي لا يفهم بالفن ولا يعلم الفروقات بين المدارس الفنية لدرجة أنه يستعين بورية مخبأة في جيب بنطاله موجود ضمنها تعريفات ومصطلحات تجعله عندما يتلفظ بها يبدو فناناً حقيقياً إلا أنه بالحقيقة فقط يخرفشُ خطوطاً ويعيدُ تكرار ذاتِ اللوحة وفي كل مرة يدّعي بأنّها مختلفة وتنمتي لمدرسة فنية أخرى حتى يتوارى خلفَ غرقهِ بالتكرار.

ويوجد الرجل الجبان ضعيف الشخصية الذي يخشى من حبيبته التي تسيطر حتى على إيقاع حركة جسده النحيل الذي يسقط بشكل مستمر على خشبة المسرح مع تعابير وجه يتحكم بها بشكل عجيب فهو أغلب زمن المسرحية صامت لكن وجهه ناطق بشكل مستمر.

وفي مقابله توجد شخصية معاكسة للجبان وهو الأزعر الحمش الذي يضرب كل من يقع بطريقه ليثبت للجميع أنه الأقوى وليس بضعيف يتباهى بصوته المرتفع وحركات يديه المبعثرة فوق خشبة مسرح تشعر بأنها ستتحطم قريباً لتنهي العرض بصدمة وضحكة جماهيرية.

وأخيراً، شخصية الرجل الثرثار الذي يعمل في خدمة مقهى المحبة، وهو رجل من غير الواضح إن كان قد بلغ من الرجولة ذروتها فيتعالج طبياً عن طريق الأعشاب وخلطات الدكتور بديع الذي تخرج حديثاً ويجرب في أبناء حارته مهارته البدائية في الطب كأنّهم حقل تجارب لا مانع لديه كطبيب إن كانوا سيستفادون أو يتضررون بقدر ما يهمه أن يقال عنه الدكتور فلان.

ديكور المسرحية

عبارة عن باب في منتصف المسرح معلّق فوقه لافتة باسم "مقهى المحبة" وخلفه فراغ وعتبة تفصل بين قاع المسرح الخلفي وقاع المسرح الأمامي ويمتد من جانبي المسرح يميناً وشمالاً أنابيب مجارير مفتوحة النهاية ومتوجهة نحو الجمهور تماماً في محاولة موفقة جداً لتوصيل فكرة أن هذا المجتمع الذي تتحدث عنه المسرحية قادمٌ من فوهة قمامة قد ألقيت عليه غصباً وهو بالتالي مجتمع لا مبالٍ متعايش معها فيخرج من القاع ليسقط بقاع أوسع وأكثر قذارة.

حتى إن عنصر الإيقاع الموسيقى في المسرحية يتناغم مع أفكار الشخصيات من الداخل فهناك مشهد بالمسرحية يقوم على تجسيد أفكار صاحب المقهى والتخبطات التي يعيشها عندما علِم بالشائعة التي تقول بأن نتاشا قد أصيبت بمرض الإيدز.

فنشاهد كيف الشخصيات قد جسّدت تعبيرياً حركياً من خلال التنقل مشياً بسرعة وعشوائية حول شخصية صاحب المقهى وكيف انتقلوا لحركات راقصة باليدين كالرقص التعبيري عما يدور بعقله من عشوائيات وقلق وخوف من فكرة أن يكون قد انتقل له المرض منها وكيف سيواجه مجتمعه بأنه قد عاشر عاهرة يُمنع الاقتراب منها علناً لكن سراً لا مانع ولا رقيب حتى الذات البشرية تأمر هنا بالسوء الذي يجلب للشخص المتعة نتيجة القذارة التي تحيط أبناء المجتمع من عنف نفسي واضطهاد وجود وعدم تقدير فيلجؤون جميعاً إلى نتاشا حتى تُذكرهم بأنهم ليسوا حسالة كما يتم برمجتهم إنما هم بشر حقيقيون.

في بداية المسرحية

نرى كيف ركّز الكاتب والمخرج مع الشخصيات التي تؤدي عن كثرة تواجد النفاق في المجتمع والدليل عنوان المقهى الذي استخدموه "المحبة" وهم بالحقيقة المطروحة بالعمل لا صلة بينهم وبين المحبة، فالجميع يتكلم ويثرثر على بعضه والكُل يكره وينافق ويثير النميمة والبغض بين بعضهم.

الجميع غير متكاتف غير متجانس يلقون الكلام السيء وينقلون الشائعات ويساهمون في تفكيك صلة الربط بين بعضهم، وهم ذاتهم بعد أن علموا بأن التي تجمع بينهم قد أصيب بالمرض تجمعوا تكاتفوا توحدوا والتصقوا فأصبحوا كتلة واحدة تُرجمت على المسرح من خلال اجتماعهم مراتٍ عديدة في المقهى للنقاش في وضعِ الحل للستر من الفضيحة وفي مخبرِ التحاليل الطبية أيضاً حين كانوا ينتظرون نتائج تحاليل نتاشا فهم هنا بشكل ملفت لعقل المشاهد قد تعروا أمام بعض وكشف الجميع ما يفعلونه سرأً.

في ختام المسرحية

عادوا لطبيعتهم الأولى، فالمطرب يدندن أغاني أقل ما يمكن وصفها بالساقطة كلامياً لكن تعتاد الأذن البشرية على دندنتها لأنه قد فرضَ نتيجة الإعادة والتكرار أن تنطقها النفس البشرية باللاوعي وبرغبة دفينة لممارسة التفاهة والحصول على الألقاب المؤقتة التي تغذي الأنا العليا بداخل كل شخص من داخل هذا المجتمع بسبب ما يتعرض له من تهميش وتصغير من قبل من هم أعلى وأقوى مرتبة مجتمعية منه فيفرغ شحنة غضبه بأن يصبح تافهاً.

ثم وبعد انتظار شغوف كمشاهدة تظهر نتاشا وتلقي على الشخصيات جميعاً السلام وفي أول مرة نرى ذهول جميع شخصيات المسرحية ومع  تكرارها للسلام  تصعد موسيقى الفرح والإثارة فهي صاحبة الحضور المجهول بداية والمفهوم نهاية حيث أكدت من خلال عدة جمل نطقتها في المسرحية بأنها أخذت على خاطرها من الجميع لأنهم تخلّوا عنها حين وقعت ضحية الشائعة رغم أنها تقرف من رائحتهم وقد تحملت جميع مشاكلهم ولأن يقينها بأن الجميع سيعود إلى حضنها كونها صاحبة السلطة الأعلى في المسرحية فهي ختمت ووقعت على بياض بأن الجميع إذا رحلوا فيوجد غيرهم الكثير، لكنها ستبقى حاضرة رغماً عن أنفِ الجميع ولن تتخلى عن مكانتها التي أخذتها بطواعية منهم وهنا نلمح فكرة السطو على الوجود والتحكم به.

هذه المسرحية قد بُنيت على فكرة حقيقية أولى جميعنا نريد أن نُبرزها ألا وهي تسليط الضوء على خوفنا ممن قد فرضوا وجودهم وسيطروا علينا وعلى فكرة ثانية بأن المجتمع حالياً وبوضوح تام وعام يقومُ على تعويم كل ما هو سيء وإخفاء من هم حقيقيون في قاع أقرب ما يمكن وصفه بأنه مصرَف صحي تنصرف من خلاله عيوبُ المجتمع مع تناقضات سكان الحارة التي سقطت هويات المجتمع غالبيتها من خلال حركة أجسداهم المتناغمة مع حركة الموسيقى والإضاءة فكانت كتلة جميلة ليتنا نقتدي بها فنبقى معاً حتى لا يدخل بيننا الغرباء.

ليفانت - سالي علي

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!