الوضع المظلم
الإثنين ٠٦ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
قباقب سكر
قباقب سكر

مررتُ بالسوق بعد تسعة أشهر من الغياب، سافرتُ فيها إلى إسطنبول قسراً حيث لم يبقَ لي في غازي عنتاب طاقةً على تحمل أزقتها بعد خلوّها من المعارف والأصدقاء الذين هجروا تركيا في رحلة بحثهم عن منفى ويأس جديدين. فيما لم يكن أمامي إلا إسطنبول.


السوق الشعبي السوري الذي اكتسبَ شهرة واسعة في مدينة غازي عنتاب ويُعرف (بالبازار الإيراني) يحتوي على الكثير من المحال والبقاليات السورية التي تبيع المنتجات السورية المُصنّعة في تركيا. شاعَ عنه أنه سوق (المعترين والزعران) في آن، فهو يضم أهالي يعملون أكثر من ستة عشر ساعة يومياً ليكسبوا قوتهم اليومي، في حين أنه يحتوي أيضاً ما سماه بعض الأهالي (مافيات) خليط من سوريين وأتراك يعلمون بتصريف الأموال، والمنتجات المهرّبة، وغيرها من الأعمال المشبوهة والتي يمكن أن تلاحظ وجودها بمجرّد مرورك أمام واجهات بعض المحال التي كُتب عليها باللغة العربية عبارات مثل: تصريف دولار، نشتري ذهب، وعلى الواجهة عينها يُعرض بعض ألبسة اللانجري النسائية رديئة الصنع.


في زيارتي الجديدة لم أكن متسوّقة مارقة كما في السابق، ينتابها شعور مريع بالوحدة فتقصدُ شارعاً مكتظاً بالسوريين بحثاً عن متكلمين بالعربية، وإنما كنتُ أبحث عن منزل أستأجره، فالعثور على منزل للآجار في المناطق المنظمة في (غازي عنتاب) بات شبه مستحيل بالنسبة للسوريين.


قبل أن أتخذ قراراً بالبحث عن بيت في تلك المنطقة كنتُ قد جبتُ المدينة طولاً وعرضاً، وسألت كثيراً من المكاتب عن سكن للآجار لكنهم كانوا يرفضون رفضاً قاطعاً عندما يعلمون أنني سورية، ويقولون بلهجة حادة (يابانجي يوك)، فأعود لأقنعهم بأن عائلتي صغيرة، وبأننا سنحافظ على المنزل، ولكن للأسف كل محاولاتي كانت تبوء بالفشل، اقترحَ عليّ أحد حراس الأبنية ألّا أصرّح بأنني سورية أثناء سؤالي سماسرة المكاتب وأصحاب البيوت عن الآجار، وأن أقول عوضاً عن ذلك: إنني فتاة إيرانية، رفضتُ بشكل مطلق وركضتُ متعجلة، كنت خائفة أن يقودني غضبي من طرحه لأن أخطئ معه بردّ غير لائق، ومظهره يوحي أنه شخص بسيط يحاول المساعدة وحسب.


أثناء تجوالي في الحارات المتفرعة عن شارع السوق بحثاً عن منزل، كنتُ أراقب بعين المشتاق تارة والمراقب أخرى، الذي يلتمس تغييرات قد تكون طرأت على السوق بعد نحو عام من الغياب. لم يتغيّر شيء، كل المعروضات تراوح في مكانها، محال الخضراوات والفواكه ومنتجات البن والألبان والأجبان السورية، وواجهات بعض المحال المريبة صامدة أيضاً. تغييرٌ صغير قد طرأ على محل معروف جداً في تلك المنطقة يقدم المأكولات الشعبية السورية (الفول، الفتة والحمص) فقد كان للمحل المسمّى (النكمة) فرعاً واحداً، غيرَ أنه صار له فرع آخر أو محل آخر قد افتتح مؤخراً وأخذ العلامة التجارية (الاسم) كونه حقق رواجاً وشهرة عاليين، حاولتُ فهم تفاصيل عن المحل الجديد لكن لم أوفق، تناولت صحن الحمص اللذيذ وتابعت جولتي قاصدة إحدى الشباب السوريين العاملين في العقارات علّه يستطيع مساعدتي في إيجاد طلبي.


سأكون كاذبة إن لم أعترف أن هذا السوق وعلى الرغم من أنه يثير مشاعر جميلة داخلي ويذكّرني بسوريا وبعض أحيائها العشوائية، إلا أنني في لحظات كثيرة أيضاً كنت أشعر بالخوف. الخوف من سرقة محفظتي أو التحرش، إذ طالما سمعتُ قصصاً حول سرقات وحوادث جنائية ارتُكبت في تلك المنطقة، لكن حبي للعربية وإتقاني التحدث مع البائعين البسيطين بطريقتهم العفوية وتسامحهم كان يترك أثراً إيجابياً في نفوسهم على الرغم من أن هيئتي وطريقة لباسي لم تكن منسجمة معهم.


تنتشر على البسطات المتفرّعة من المحال منتجات مختلفة منها الغذائية وأخرى خدمية: أدوات بلاستيكية وأغراض الطبخ والمنظفات وغيرها من المنتجات الموقعة بأسماء سورية. على إحداها لمحتُ (قباقيب السكر) الحلوى الملونة المصنوعة من السكر والتي طالما أحببتها في كل مراحلي العمرية، وتذكّرني بأسواق دمشق الشعبية والفخمة أيضاً، إذ إن هذا الصنف من الحلوى كان محبّباً لدى الأطفال السوريين من مختلف مكوناتهم وطبقاتهم. الكثير من المنتجات السورية موجودة في (البازار الإيراني) لكن هذه المرة الأولى التي أرى فيها هذا الصنف، أحسست فجأة بدفء غريب يجري في أوصالي، فها هي المدينة التي ظننتها قد تغيّرت وأعرضت عن احتضاننا تعجّ بمنتوجاتنا الحميمة وبعضاً من ذاكراتنا.


ترى هل نحن تغيرنا أم أن غازي عنتاب هيَ من تغيرت، وما قيمة هذا التغيير؟ ما تأثيره! إن كانت المدينة ما تزال تثيرينا وتحرّك داخلنا الحنين، يُقال: إن غازي عنتاب واسطنبول وغيرها من المدن التركية ترفض وجود السوريين، وإن الشعب التركي مسيّس والرفض المحلي للسوريين ليس موجة عابرة أو احتقان عفوي مرتبط بتراجع الاقتصاد التركي بل هو توجّه يُراد منه في النهاية التخلّص من السوريين، والدفع بهم للخروج من تركيا.


تنتابكُ أثناء التفكير بهذا الطرح مشاعر مختلطة، لبرهة تتأقلم مع فكرة أن السوريين باتوا منبوذين في كل بقاع الأرض، وليس من المُستهجن أن يكون وضعهم كذلك في تركيا، فهي الحالة العامة، وعكسها الخاص، تعود بك الذاكرة إلى سنوات وفودك الأولى إلى تركيا، حيث تمكّن السوريون حينها من إشعال ثورة أخرى في مدنها، شباب الثورة بروحهم وحماسهم نقلوا فكرهم وتمرّدهم إلى شوارع تركيا، فأضاءوا بعضاً من عتمتها وبثوا روحاً في أحيائها النائية ومدينة غازي عنتاب التركية هي أكبر مثال على ذلك.


المدينة الهادئة، الصغيرة نسبياً، والبعيدة عن صخب العصر صارت منذ 2013 إحدى أكبر تجمع للسوريين، وملاذاً آمناً لهم لإكمال نشاطهم وعملهم، افتُتحت فيها المنظمات ووسائل الإعلام السورية، ومنتديات الفكر والسياسة، فصار تواجد السوريين بتشاؤمهم واندفاعهم، بإخفاقهم ونجاحهم، بنضجهم ومراهقتهم، جزءاً لا يتجزأ من جمالها، وعلا ضوضاؤهم الثوري الحالم كلّ أرجائها. فكان من الطبيعي أن ترى الشباب السوريون يتجولون في حدائقها ومقاهيها يكملون بعضاً من نقاشاتهم وتنسيقهم مع أصدقائهم في الداخل، يجتمعون ليلاً في حاناتها المحدودة لإكمال ما بدأوه، وبنفس الحماس التهبت في أزقتها قصص الحب، وعلى أرصفتها كتب العشاق نهاياتهم الحزينة.


هل تبدلتْ ملامح المدينة بعد هجرة عددٍ كبير من السوريين منها، بعد تقهقر الثورة، وتوقف كم هائل من المشاريع والأعمال، هل تلاشت نكهة عنتاب؟! لا أعرف بدقة ما الإجابة، لكن ملامحها الحزينة تشي بتبدل ملموس يأبى قلبي وعقلي استيعابه اشتريت حلوى (قباقب السكر) تناولتها على مهل وتابعتُ مسيري باحثةً عن منزل.


كاتبة وصحفية سورية



 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!