الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • فاتح المدرس.. أيقونة الفن التشكيلي السوري وفيلسوفها

فاتح المدرس.. أيقونة الفن التشكيلي السوري وفيلسوفها
فاتح المدرس.. أيقونة الفن التشكيلي السوري وفيلسوفها

تفردت أعمال الفنان التشكيلي السوري فاتح المدرس بخصوصية فريدة، فقد شكلت المزاوجة في لوحاته بين الواقعية والرمزية والأسطورية، مع انكفاء ذاته لمراعاة أسطح لوحاته وصرامة هندستها، مساراً جديداً في مسيرة الفن التشكيلي السوري ليصبح بلا منازع رائد وأيقونة الفن التشكيلي في تاريخ سوريا الحديث.

لطالما كانت لوحات المدرس ملاذاً لعشرات من الفنانين المتعطشين، لنهل مزيد من قدرات المدرس على هز عرش المفاهيم السائدة في الفن التشكيلي في سوريا والمنطقة العربية.

مهّدت فلسفة وموهبة المدرس بتعامله مع الريشة واللوحة، رفيقا دربه وروحه، الطريق للعديد من طلائع الفنانين حول العالم العربي بشكل عام، والسوريون بشكل خاص، ليتخلصوا من قيود الفن التشكيلي الكلاسيكي.

فن وإبداع

تقصّد المدرس في تجاربه الفنية الأولى أن يحجب الصورة النمطية المُدركة، والتي ترسّخت لفترات طويلة من الزمن في أذهان الناس، بقصة ومعنى اللوحة ليستعيض بها بواقع بصرية جديدة مستقاة من شبابه وطفولته.

فكادت ملامح الحرية تصرخ من صميم لوحاته، ليتحرر الإنسان من سيطرة الإنسان وجبروت الطبيعة، منتفضة على القوانين والتقاليد البالية والمؤرقة. ولتكسر قيود الفقر والخوف التي تتحكم بالساحة الإبداعية العربية وبصيرورة التغيير الجاد والعميق والإيجابي في مسار بناء شخصية الفن العربي المعاصر.

رحيل المدرس مع نهاية الألفية الثانية، كان بمثابة الكسوف للفن التجريدي السوري والعربي، بعد فسحة أمل زرعها على دروب المبدعين الراغبين بسبر أغوار الفن. فقد استنبط المدرس لغة جديدة وفريدة في الواقع العربي، لينقل للجميع محاورة أنيقة ابتكرتها ريشته وطبعتها لوحته، في تشكيل سردي منمق أحياناً وقاسي أحياناً أخرى، بغاية كسر النمطية السائدة التي تملكت الفن العربي حتى منصف القرن الماضي.

اقرأ أيضاً: محمد الماغوط.. بساطة اللغة و"ثائر حرر الشعر من عبوديته"

تمكّن المدرس من ريادة الفن التشكيلي التجريدي في وقته، بدون منازع. فكانت لقدرته على الرؤية بعين الحقيقة لعدم القدرة على استمرارية نمطية البقاء ثابتاً دون تطور، أن فتحت الأبواب واسعة لمحبي الفن بكل تصنيفاته على الانتقال والتطور لمرحلة جديدة قادرة على رفع المستوى الثقافي والفكري العربي بعيداً عن الجمود والتصنع القاتل.

تفوق المدرس على العديد من الفنانين المعاصرين له في قدرته الرائعة على خوض غمار الحداثة الفنية، فاستقت لوحاته مثل: "كفر جنة" و"نهر قويق" و"عالو"، أبعاد حداثتها بإعادة صياغة الطبيعة والعيش في سوريا، إعادة صياغة قصص وأساطير المنطقة بكل مكوناتها بموهبة فنية عالية، متميزة عن معاصريه الذين اكتفوا بنقل صورة نمطية متكررة.

حياته (1922-1999)

أبصرت عيني المولود فاتح المدرّس النور في العام 1922 بقرية "حربته" التابعة لمدينة عفرين في حلب شمال سوريا، لأب سوري من مدينة حلب وأمّ كرديّة من إحدى قرى الريف. قُتل والده على يد إخوانه في سن مبكرة من عمره، واستولى أعمامه على ميراثه، فعاش فقيراً في رعاية أخواله، ومن ثم متنقلّاً مع أمّه في قرى الشمال.

ومثّلت صورة معاناة والدته وصراعها مع الحياة، هاجساً رافقه طوال حياته وحتى مماته، وكان يقول دائماً: "هي كل شيء، الحب العميق والأمومي، المطر والثلج، والمقاتلة التي حمت أولادها وربتهم وعاشت لأجلهم".

تلقّى علومه الأولى في قرية ضمن محافظة حلب، وأوّل من اكتشف موهبته الفنية كان معلما في المدرسة الابتدائية، الأمر الذي حفّز لديه الشعور بأنه ولد رسّامًا.

 وعند انتهائه من التعليم الثانوي انتقل إلى لبنان ليدرس الأدب الإنكليزي في الجامعة الأمريكية وتخرّج منها، وعاد ليعمل في مهنة التدريس بسوريا.

وفي العام 1950 أقام معرضه الأول في نادي اللواء بحلب، وفي عام 1957 انتقل المدرّس إلى مدينة روما في إيطاليا ليدرس التصوير في أكاديمية الفنون الجميلة وتخرّج منها عام 1960، وتابع التعليم الأكاديمي عندما سافر إلى فرنسا وحصل على شهادة الدكتوراه من أكاديمية الفنون الجميلة في باريس عام 1972.

تزوّج فاتح المدرّس مرتين الأولى كانت ابنة خالته الكردية وتدعى هبة، والثانية شامية وتدعى شكران الإمام، وقد رُزقَ المدرّس بخمسة أبناء، توفي منهم اثنان وبقي له ثلاثة.

اقرأ أيضاً: أحمد شوقي.. أمير الشعراء

عمل المدرّس أستاذاً بكليّة الفنون الجميلة في دمشق، وانتُخب عضواً في المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية ورئيساً لنقابة الفنانين، كما أنّه أحد الأعضاء المؤسّسين لاتّحاد الفنانين التشكيليين العرب، وعضو في اتحاد الكتَّاب العرب.

في 28 حزيران 1999، ودّع الفنان فاتح المدرس الحياة، تاركاً اسمه وارثه حيّاً في التاريخ السوري كواحد من أبرز فناني البلاد والذي وصل إلى العالمية، حيث كانت لوحاته جزءاً من مقتنيات الفيلسوف الفرنسي "جان بول سارتر".

فاتح المدرس.. الفنان الشامل

نالت المعارض التي أقامها المدرّس أو شارك فيها أو شارك نجاحاً منقطع النّظير، وحاز على الكثير من الأوسمة والجوائز على أعماله. وكانت لوحاته حاضرة في معظم المعارض العالمية التي اهتمت بالفن العربي المعاصر باعتباره واحدًا من أشهر الرّسامين العرب في الرّبع الأخير من القرن العشرين، إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق.

في الرسم، لا يمكن الإلمام بلوحات المدرّس ومعارضه وجوائزه، ولا يمكن إغفال أعمال تاريخية له مثل لوحة "كفر جنة" التي اقتناها المتحف الوطني في دمشق فور عرضها عام 1952، ولوحات أخرى مثل “خاتم الخطوبة” و"ملا خانة".

لم يكن المدرس رساماً نمطياً، إلا أنه كان موسيقياً وشاعراً وأديباً. وكانت من أولى أشعاره السريالية قصيدة "الأمير" التي نُشرت في مجلة "القيثارة" التي كانت تصدر في اللاذقية، وصدرت له مجموعة قصصية بعنوان "عود النعناع" التي تحولت في ما بعد إلى فيلم روائي من توقيع المخرج بلال صابوني، إضافةً إلى إصداره مجموعتين شعريتين هما: "القمر الشرقي يسطع على شاطئ الغرب" بالاشتراك مع الشاعر والمسرحي شريف خزندار عام 1959، والثانية كانت أواخر الثمانينيات بعنوان "زمن اللا شيء" بالاشتراك مع صديقه الشاعر الراحل حسين راجي.

وفي عام 1954 أصدر دراسة في الفن تكوّنت من ثلاثة أجزاء عرض من خلالها موجز تاريخ الفنون الجميلة ومن بينها كانت دراسة في النقد الفني المعاصر.

عام 1974 أصدرت السينما السورية الفيلم الطويل "ثلاثية العار" الذي تناول قصصًا كتبها سابقًا فاتح المدرّس.

ويصف فاتح المدرس أعماله، بالقول: "عندما أرسم، أشعر بأن هناك ظلمة شديدة أطبقت على كل شيء، وأنني أخرج من نفق، وأنني أرى نورًا في داخل رأسي، وكأن ريحًا باردة تهبّ على وجهي، فأبتسم وأعرف أنني وصلت إلى قمة الانفعال في اللوحة، وأعرف أنها انتهت… هذا هو الإحساس في كل عمل أقوم به، وكل لوحة لا أمرّ بها في هذه الحالة أعتبرها عملًا كاذبًا وغير ناضج".

ليفانت نيوز_ خاص

إعداد وتحرير: عبير صارم

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!