الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
غسّان كنفاني الحاضر الحاضر
رقية العلمي

خمسة عقود تنقص سنة كان ذاك هو السبت الأسود، اليوم الذي اختاره الموساد لإنهاء حياة غسّان كنفاني، وذلك لإسكات فكره وتكميم قلمه معتقداً بأن موته سينهي قناعاته، لكن ظنه قد خاب.


والنتيجة، بعد مرور كل هذه العقود، انتشار نتاجه الفكري والأدبي للعالمية، حيث ترجمت أعماله لعشرات اللغات، وأصبح غسّان كنفاني رمز الأدب الفلسطيني والنضال والموت في سبيل الرأي وقضية وطنه فلسطين.


ليتفاجأ العدو أن السحر قد انقلب على الساحر، فالنتيجة كانت تحوّل كنفاني إلى دلالة عالمية دولية ساهمت بإبقاء القضية حية في الوجدان الأدبي والفني والنضالي على السواء، فهو كاتب مناضل يجمع بين كتابة القصة والمقال والرواية، وهو كذلك ناقد أدبي وصحفي، كما أنّه بارع في رسم وكتابة قصص للأطفال، قصص ما زال يدرسها ويقرؤها أطفال فلسطين والأطفال العرب كذلك أطفال العالم.


حول الألق المستمر والمستدام الذي ما أطفأ الاغتيال وهج سيرته وما محا أثر أعماله، تقول الكاتبة والناشرة اللبنانية غريد الشيخ: "الكتّاب والمبدعون لا يموتون حتى وإن ذهبت أجسادهم وصعدت أرواحهم إلى السماء. ما زال المتنبي وأبو العلاء المعري وابن منظور والزبيدي ونزار والفيتوري بأعمالهم الخالدة".


فهل من الممكن لمبدع ومناضل كغسّان كنفاني أن يغيب؟ ما زالت رائحة البرتقال تنتشر من رواياته، وما زالت يافا وحيفا وعكا وباقي مدن فلسطين تلوح من بين صفحات كتبه، وما زالت قصص من كتب عنهم يلاحقوننا أينما كنّا.. ما زال وجه غسّان كنفاني يطلّ من كتبه مبتسماً مطمئناً إيانا أنّ فلسطين ستعود بفضل نضال نسائها ورجالها، وما زال وجهه يطلّ ساخراً في وجه كل صهيوني وعميل ليقول له: مصيرك أن ترحل يوماً لأن البلاد ستبقى أبداً لأبنائها الحقيقيين.. لروحك السلام ولفلسطين ألف قبلة، إلى أن نلتقي جميعاً فيها حرّة أبيّة".


حول ذلك الحضور الأبدي لغسّان كنفاني، يقول الكاتب والناقد الفلسطيني فراس حج محمد: "ها هو غسّان كنفاني بعد ما يقارب من نصف قرن على اغتياله ما زال داخلاً في صلب النقاش السياسي والثقافي والإبداعي الفلسطيني، حاضراً رغم الغياب، متنوعاً في تجليات هذا الحضور، وسيظلّ غسّان حياً ما دامت السموات والأرض، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها".


هذا ما ورد في كتابه "استعادة غسّان كنفاني"، المنشور عن دار الرعاة في رام الله ودار جسور الثقافية في عمّان، والذي صدر بالتزامن مع ذكرى اغتيال غسّان كنفاني التاسعة والأربعين، واعتبر النقاد بأنّ الكتاب يعزّز من تواجد غسّان اليومي سياسياً وثقافياً واجتماعياً في الحياة الفلسطينية وطناً وشتاتاً.


يركّز الكتاب على غسّان كنفاني المثقف، ومسيرته الإبداعية، في مجالات أدبية وصحفية متنوعة، قاصّاً وناقداً وشاعراً. وألف في سياق التوثيق لاستمرار ترسيخ صورة غسّان في وجدان العرب والفلسطينيين؛ كما يناقش الكتاب شخصية كنفاني ونتاجه الأدبي وثقافته الموسوعية فضلاً عن مواقفه السياسية.


كما ويتطرّق الكتاب لأبرز أعمال كنفاني؛ منها إعادة قراءة رواية "رجال في الشمس"، المأساة الخالدة وفقاً للواقع المعاصر، الذي شهدت فيه القضية الفلسطينية تطورات جذرية.


ويبحث الكاتب حضور الأطفال في قصص غسّان، رسماً وكتابة، مشيراً إلى المجموعة القصصية "أطفال غسّان كنفاني والقنديل الصغير"، والمؤلفة من ست قصص قصيرة عن الأطفال أنموذجاً. منها الدراسات والأبحاث ورسائل الماجستير وأطروحات الدكتوارة، والمقالات والتدوينات جُلّها تتناول سيرة وأعمال الكاتب والأديب واسمه المرتبط كواحد من أهم المناضلين الذين قضوا في سبيل القضية الفلسطينية، منها مثالاً لا حصراً:


كتاب ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية: غسّان كنفاني، أميل حبيبي، وجبرا إبراهيم جبرا، للكاتب فاروق وادي 1981 - المؤسسة العربية للدراسات والنشر.


وعد الغد: دراسة في أدب غسّان كنفاني للكاتبة فيحاء عبد الهادي 1987 - دار الكرمل.

الطريق إلى الخيمة الأخرى: دراسة تحليلية في أعمال غسّان كنفاني للكاتبة رضوى عاشور، 2017 دار الشروق.


الشخصية في قصص وروايات غسّان كنفاني، رسالة الماجستير للطالبة هيام عبد الكاظم إبراهيم 2016 جامعة القادسية، العراق.


الحداثة الزرقاء البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسّان كنفاني، أطروحة الدكتوارة للكاتب أفنان القاسم جامعة السوربون 1975، طُبعت في كتب أكثر من مرة.


بيد أنّ الكتاب الثاني المختار هنا في السياق هو كتاب: "العبقرية وتجلياتها في حياة غسّان وإبداعاته" والصادر عن الدار العربية للعلوم 2015.


لماذا غسّان كنفاني؟ هو السؤال الذي طرحه الدكتور محمد عبد القادر طرخان على نفسه عندما بدأ بكتابة السيرة الأدبية لكاتب لم يلتق به يوماً في حياته، ولكنّه كان حاضراً في وجدانه وساهم في تشكيل ثقافته ووعيه، وكان من أولى اهتماماته في الكتابة، وبالتأكيد هو يتحدّث هنا عن نموذجٍ استثنائي في الأدب الروائي الفلسطيني ممن كان له دور رائد في المسيرة النضالية للشعب الفلسطيني وهو "المبدع العظيم، الراحل المقيم" غسّان كنفاني كما يحلو للمؤلف تسميته: "أعلم أن وصفي لغسّان كنفاني بالعبقرية لا يكفي لأن يجعله عبقرياً، ولا يوجب على الآخرين التسليم بهذا الوصف، ومن هنا جاء هذا الكتاب ليوضّح مرتكزات هذا الوصف، ومستنداته، ودعائمه وأدلته ومبرراته. والكتاب هو قراءة عبقرية غسّان كنفاني وكشف معالمها، وإضاءة أبعادها، استناداً إلى ما توافر من معلومات حول شخصية غسّان وتطورها، ومنظومته القيمية والسلوكية، وإبداعاته المتعددة، وأدواره الريادية في حياة شعبه وفي إرساء أركان جوانب أساسية في الثقافة الوطنية والقومية والإنسانية التقدمية".


الباب الأول من الكتاب رمى إلى إضاءة الجانب الذاتي في شخصية غسّان وقدراته الذهنية، وسماته الإنسانية وصورته في أذهان ممن عرفوه وتأثروا به. أما الباب الثاني فقد اهتم بإضاءة العبقرية الكنفانية في تجلياتها الإبداعية المتنوعة والمتعددة.


الملاحظ في السنوات الأخيرة ازدياد شعبية غسّان كنفاني بين صفوف الشباب الفلسطيني من الجيل الرابع للنكبة يوازيه نفس الحماس في أوساط الشباب العربي حيث نتاجات أعمال غسّان هي الأكثر مبيعاً وتتمّ إعادة نشر جميع مؤلفاته باستمرار، وهناك مشاريع كثيرة في المسرح والسينما وفي ورش الكتابة كلها ضمن أجندات أبقت ذكراه لتصبح ظاهرة عالمية، مفادها "غسّان كنفاني الحاضر الحاضر".


ولكي لا ننسى، يعود الفضل فوق كل ذلك أيضاً لزوجته، آني كنفاني، المرأة التي ساهمت كما أوردنا في أكثر من منبر، على نشر أدبه للعالمية من خلال حرصها على ترجمة أعماله، ومن خلال تأسيس وإدارة مؤسسات غسان كنفاني الثقافية ورياض الأطفال المنتشرة في كافة المخيمات الفلسطينية في لبنان.


كل ما تقدّم دحض فرضية غولدا مئير، التي صرحت ساعة علمها تنفيذ الموساد لعملية الاغتيال: "اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلح، فغسّان بقلمه كان يشكل خطراً على إسرائيل أكثر مما يشكله ألف فدائي مسلح". وها قد حصدت مئير وسلالتها عكس ما تمنت.


مثلما أوردنا، ما دام غسّان بيننا حياً، فالرجل مات جسداً واغتيل غدراً، مما لفت النظر أكثر لشخصه إثر الحادث المروع، فزاد اهتمام العالم به، فكُتب عنه وتُرجم له ليصبح أيقونة فلسطين الحية، ويصبح اسمه محلقاً في الأعالي.


هنا وهناك ومنذ ذلك الزمان الماضي، والآن وفي الوقت القادم، سيبقى غسّان كنفاني موجوداً رغم كل شيء وها هو الواقع هنا مصدقاً لعبارته: "قد حاولوا أن يذوبوني في فنجان شاي ساخن، وبذلوا- يشهد الله- جهداً عجيباً من أجل ذلك، ولكنني ما زلت موجوداً رغم كل شيء".. نعم غسّان كنفاني ما زال موجوداً رغم كل شيء.


رقية العلمي

ليفانت - رقية العلمي

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!