الوضع المظلم
الأربعاء ٠١ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
عندما كان كوكب حمزة في دمشق
ميرنا الرشيد

من مكان إقامته في منزل فخري كريم صاحب مؤسسة المدى العراقية للإعلام والثقافة والفنون في منطقة ركن الدين بدمشق، جلس كوكب حمزة الملحن العراقي، الذي لم يخطط يوماً لأن يحترف التلحين، وأن يُلقب بمكتشف النجوم، على أريكته المجاورة لباب الشرفة الزجاجي. كانت أمامه منضدة بنية اللون لم تبرح مكانها منذ مكوثه في المنزل، تكومت فوقها فناجين القهوة والكتب وصحن الفاكهة والكمبيوتر المحمول. بدأ الكلام مستعيداً شريط ذكرياته عن تلك الصداقات التي مضت به إلى عشق دمشق، المدينة التي صُنفت من بين أسوأ مدن العالم لسنوات عديدة.

بالطبع لم يكن من اليسير استخراج ما بجعبة كوكب من حكايات الماضي ومغامرات الهوى، فهو لتواضعه لم تكن تغريه اللقاءات الصحفية والظهور الإعلامي. ونظراً لما ربط بيننا من صداقة، كانت قد وُلِدت في أشهر الشتاء البارد، قبل بضعة أشهر فقط من إجراء الحوار، وافق على فتح كتاب الذكريات. لم يكن حينها قد بقي على إقامته في دمشق سوى أيام قليلة. هاتفته حينها عند الظهيرة، وكما هي عادته رحب بزيارتي: "أهلين أبوي، أهلين يا قلبي، تعالي، أنا بانتظارك".

بداية الصداقات

لم تكن صداقة الملحن الشيوعي بـ(علي إسبر)، أول سوري تعرّف إليه في تشكوسلوفاكيا عام 1974 مجرد مصادفة عابرة، جمعت بين طالبين عربيين في الغربة. لقد مهدت لسلسلة طويلة من الصداقات مع كتّاب وشعراء ومخرجين من الوسط الثقافي السوري بقيت مستمرة طيلة حياته. بعد وصوله إلى موسكو عام 1975 لدراسة اللغة الروسية في أحد معاهدها وإكمال دراسته الموسيقية، التقى بالمخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد. جمع بينهما بناء السكن الجامعي وقصص مشاكسات الطلاب.

 

روى ملحن أغنية الكنطرة بعيدة إحدى هذه القصص، بأسلوبه الطريف وصوته المبحوح الممزوج بنيكوتين أعقاب السجائر، التي تعهد منذ سبعينيات القرن الماضي أن يهجرها دون أن يفعل ذلك. لقد مضى على هذه القصة الآن حوالي خمسين عاماً. راح كوكب يكح ويضحك في آن معاً مسترجعاً ذكريات مسابقة الأغنية السياسية التي شارك فيها مع عبد اللطيف عبد الحميد، وقد حصلا على المرتبة الأولى فيها، دون أن يدرك أحد أنهما نفذا مقلباً فنياً في المسابقة. فعندما حان دور عبد اللطيف بالغناء، تولى كوكب العزف على العود، وكانت الأغنية من التراث الشعبي السوري، لكنّ الجمهور تفاعل معها على اعتبار أنها من النمط السياسي، وبأعجوبة كما قال: "استطعتُ أن أمنع نفسي من الضحك، وكان عبد اللطيف يبعد وجهه عني لئلا يضحك، وينكشف المقلب أمام الجمهور".

المجيء إلى دمشق

قادت الأقدار وضغوطات حزب البعث للشيوعيين في العراق كوكب حمزة إلى دمشق بعد أن سئم السجون ومضايقات نظام صدام حسين له. وعلى الرغم من انتهاء مدة صلاحية جواز سفره جازف بالدخول إليها في الشهر العاشر من عام 1980، مستعيناً بدبوس خياطة لتمويه التاريخ المدون. استقل الباص من مطار دمشق وصولاً إلى ساحة المرجة، المحطة الأولى له في المدينة التي قاسمته لحظات فرحه وحزنه.

لم يكن يدرك حينها أن ما يشده إلى دمشق كان أكثر من مجرد بحثه عن ملاذ آمن وطريق للعبور إلى كردستان العراق. عاد إليها بعد ثلاث سنوات من مجيئه الأول تاركاً وراءه رحلة مضنية من النضال الثوري مع حركة الأنصار الشيوعية العراقية، ضمت فنانين ومثقفين مسكونين بهَمِّ التحرر من الظلم والديكتاتورية، ليكمل مشواره الفني في التلحين والتوزيع الموسيقي.

استقر كوكب في تلك الفترة في غرفة صغيرة شبهها بالحفرة في ساحة عرنوس التي تشكل امتداداً لسوق الصالحية. وصفها مازحاً بأنها لا تدخلها الشمس وخالية من الأوكسجين ومن غاز ثاني أكسيد الكربون. تلك الغرفة التي ضلّ الطريق إليها في الليلة الأولى لاستئجارها، عندما كان عائداً من مطعم الريس برفقة الملحن والمطرب العراقي الراحل فلاح صبار، كانت شاهدة على ولادة لحن أغنية بساتين البنفسج التي خطّ كلماتها الشاعر العراقي رباض النعماني، وقصيدة أمي تطارد قاتلها للراحل ممدوح عدوان. ألفّ فيها أيضاً موسيقا العديد من المسلسلات التلفزيونية للمخرجَين سمير سلمون وعدنان إبراهيم، وموسيقا فيلم الصفصاف المهاجر الفائز بالجائزة الذهبية في مهرجان دمشق السينمائي الرابع للمخرج الراحل علاء الدين الشعار.

غادر كوكب دمشق عام 1989 بعد أن تلقى دعوة لإقامة حفلات وأمسيات موسيقية في أمريكا. غادرها وهو عاتب على إذاعة دمشق آنذاك لعدم بثها الأغاني التي كان يسجلها في استديوهاتها، وحزين لأنه لم يكن يملك أجرة الطريق ليصل إلى منزل الممثلة الراحلة ملك سكر التي دعته ذات مرة للقاء وديع الصافي. كان كوكب مصمماً على العودة إلى دمشق ليستكمل سهرات الغناء والرقص في غرفته ومَنزلَي ممدوح عدوان وبندر عبد الحميد، إلاّ أن الطائرة التي استقلها حطت في الدنمارك، حيث بقي فيها خمس سنوات إلى حين حصوله على الجنسية الدنماركية. منذ ذلك الحين، لم ينقطع عن زيارة دمشق حتى بداية الأحداث الأخيرة فيها.

أصابته أخبار الحرب والتفجيرات التي كانت تحدث في أرجاء مختلفة من سوريا بانهيار وأذى نفسي. "كنت أتابع الأخبار في الدنمارك، وأشعر أن الموت يصيب روحي"، ومع ذلك لم يتردد في الرجوع إلى مدينته التي وصفها بمدينة الحب والذكريات. سأل نفسه مراراً، عندما قرر العودة إليها في المرة الأخيرة: "هل أشعر بالخوف من العودة إليها؟ هل أنا مستعد لرؤية وجهها الذي أتعبته الحرب؟" كان قراره أن يشيح بنظره عما خلفته الحرب من نتائج ومظاهر سلبية، ويمني قلبه بما بقي فيها من أشياء جميلة، مستعيناً بمخزون ذاكرته من الأيام الخوالي فيها، وما بقي له من أصدقاء لم يغيبهم الموت أو الغربة. استطاع أن يصمد بقراره هذا حتى شهر حزيران من عام 2019، ثم قفل عائداً إلى الدنمارك دون أن تعتريه النية بالعودة مجدداً إليها.

ربما لن يعكر إحساسه بعد الآن مشهد طوابير النساء والأولاد المصطفين على أفران الخبز، والجياع والمشردين الذين افترشوا أرصفة الشوارع للنوم، أو طلب النقود من عابري الطريق. لن يرى مجدداً ذلك العجوز الذي كان مُكَوراً على الرصيف يرتجف من برد الشتاء، وبالتأكيد لن يستطيع أن يهاتف عادل محمود صديق الماضي والحاضر، ليستنجد به كلما أضاع مفتاح بيته، فيسرع عادل بالمجيء إليه وهو على يقين أن المفتاح لم يغادر جيب كوكب حمزة. لن يكون بمقدوره كلما شعر بالملل وضيق المكان أن يستقل التاكسي متجهاً إلى مطعم الرجاء القريب من ساحة السبع بحرات، ليتشارك الخمر مع أصحاب المكان، ويُدَوزِن العود لمجموعة من الشباب كان قد تعرف إليهم للتو.

سألته في إحدى المرات، وكان حينها في الدنمارك، متى سنلتقي مجدداً في الشام؟ فأجابني: "في أقرب فرصة ممكنة". لكن أصبح مؤكداً الآن أن هذه الفرصة لن تحين أبداً.

ملاحظة: أُجري الحوار في صيف عام 2019.

ميرنا الرشيد: صحافية سورية

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!