الوضع المظلم
الخميس ٢٨ / مارس / ٢٠٢٤
Logo
عقدة
كفاح محمود كريم

بسبب التراكمات التربوية والاجتماعية والدينية الموروثة أو التي تتعلق بالمناهج الدراسية الجامدة عبر عشرات السنين، والبناء القبلي لمعظم مجتمعاتنا التي تمنح الشيخ صلاحيات تشبه صلاحيات الدكتاتور في النظم السياسية الشمولية، تكلست مجموعة من القيم والسلوكيات التي حولت الكثير ممن يتولون أي مسؤولية إدارية صغيرة كانت أو كبيرة إلى دكتاتوريات قزمية تحاول تقمص شخصية الرئيس أو شيخ القبيلة، من خلال إسقاطات سلوكية وسيكولوجية بالغة في معظم المجتمعات العربية والإسلامية وتأثيراتها على الفرد وموقعه الوظيفي اجتماعياً أو إدارياً، حيث يتقمص في سلوكه وتصرفه شخصية الرئيس أو الملك في الموقع الذي يشغله تدرجاً من أصغر مدير دائرة أو مفوّض شرطة مروراً بشيخ العشيرة ورجل الدين، وليس غريباً أن يكون ذلك السلوك مرتبطاً في الأساس بسلوك أبٍ متسلط بإفراط أو معلم مستبد في المدرسة أو رجل دين متشدد لا يقبل الحوار والنقاش صعوداً إلى شيخ العشيرة ومن ثم إلى أعلى الهرم في الحكم المطلق للفرد.

ولا عجب في ذلك لأن منظومة التقاليد والعادات والتفسيرات الدينية الداعمة مع التراكم التربوي والاجتماعي وحتى الديني يدعم هذا التوجه والرمزية في الحكم، ولا أظنه عيباً في مجتمعات ما تزال في بدايات انتقالها إلى نمط آخر من الحياة السياسية والاجتماعية وما يواجهها من صراعٍ عنيف بين النظام الذي تعيشه والنظام البديل، خاصةً وأنه ليس من الضرورة أن يكون البديل سياسياً فقط، بل إن المتغيرات التي أنتجتها الكهرباء ومشتقاتها في عالم الاتصالات والإنترنت والتواصل الاجتماعي أحدثت ارتباكاً شديداً في عملية الانتقال المفاجئ إلى النظام الجديد دونما المرور في سياق التطور الطبيعي للمجتمعات وتعاملها مع معطيات الحضارة الجديدة، فكانت أشبه ما تكون في صدمتها بنتائج غزوة بدوية كالتي كانت تحصل بين القبائل قبل عشرات السنين، مما أدى الى تعطيل الانتقال النوعي واستبداله بمظهرية سطحية لم تتعدى الشكل الخارجي وإكسسواراته في السلوك أو الثقافة، والذي أنتج هجيناً غريباً لا يمت بأي صلة لا بالنظام الأول ولا بالبديل المرتج. 

نعود الآن إلى عقدة (الرئيس) المفرط بالرئاسة، كواحدة من تلك العقد التي واجهتها عملية التغيير الاجتماعي والسياسي في معظم هذه البلدان، وخاصة تلك التي تم تغيير هياكل أنظمتها، إما بانقلابات او بمساعدة قوى خارجية كما حصل في العراق وليبيا واليمن وسوريا وتداعياتها الاجتماعية والسياسية، خاصة العقد الموروثة من أنظمتها السابقة، وفي مقدمتها عقدة (الرئيس القائد) المفرطة التي أنتجتها الدكتاتوريات السياسية والاجتماعية وما يرتبط بها من كاريزما وصلاحيات مطلقة كانوا يتمتعون بها ويستخدمونها في تخدير الغالبية من الأهالي الذين يمتلكون استعداد الاحتواء (القطيعية) من هكذا كارزميات بصرف النظر عن طبيعة سلوكها، ولعلنا نتذكر تلك الجموع الغفيرة التي كانت تتغنى بهم وما زالت تمارس ذات السلوك مع غيرهم اليوم.

ومن هنا وبسبب هذا التراكم الموروث سيكولوجياً واجتماعياً تشعر كثير من الزعامات التي أنتجتها مرحلة الانقلاب إلى الوضع الجديد وبغياب دولة المواطنة وهشاشة القانون، إنها تشغل ذات الموقع الذي شغلته تلك الشخصيات في النظم الشمولية، ابتداءً من أصغر مدير دائرة يتوهم نفسه إمبراطوراً وحتى أعلى المستويات، حيث تتقمصها وتقلدها بشكل أعمى، وإزاء ذلك يبدو من الصعوبة بمكان إحداث تغيير مهم وبسرعة في هذه التركيبة من الأمراض الاجتماعية والنفسية والسياسية المتكلسة، ما لم تبدأ حملة تطهير وتنوير كبيرة تشارك فيها كل النخب المثقفة والأكاديمية بمختلف توجهاتها وعلى كل المستويات، ابتداءً من الأسرة والمدرسة ومناهجها التي تكرس هكذا سلوك وخاصة في مبدأ المواطنة الجامعة، وتنقية التعليم من عملية تعبئة الرؤوس بالمعلومات واستبدالها بمناهج معاصرة نقدية عملية بعيدة عن المتوارث من الخرافات والأساطير والهيمنة البدوية في التفكير والسلوك، وإلغاء تداخل النظام القبلي أو الدين مع الدولة بالتأكيد على مدنية الدولة والنظام، وإن أي موقع في الدولة أو في النظام الإداري والتشريعي والقضائي ما هو إلا عمل وظيفي مقابل أجر لخدمة المجتمع وأفراده، وليس منةً أو هبةً من أحد، بل هي وظيفة اجتماعية أو سياسية أو تشريعية لخدمة الأهالي دونما تأليه أو تفرد أو امتيازات مبالغ بها على حساب الآخرين.

 

ليفانت - كفاح محمود

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!