الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
صراع المواقف والمواقع
عبد الباري أحمه

منذ أن بدأ الماراثون السوري 2011، وللآن، بات الصراع بين القوى الداخلية والإقليمية والدولية للاستحواذ على أكثر المواقع استراتيجية، وبناء قواعد عسكرية ولوجستية، كي تتمكن من تمكين نفوذها وتحقيق أجنداتها، ومن خلال رؤية مواقع هذه الدول وقوى المعارضة على الأرض يمكن قراءة مواقفها السياسية والاستراتيجية بشكل واضح، لكن دون الإقرار بالفائز الأكبر.


حين نتمعن في خارطة (سوريا المفيدة) تتوضح مواقع سيطرة النظام وقواته، فهي تمتد من صحراء تدمر مروراً بالعاصمة دمشق، فمدينة حمص والساحل السوري ومحافظة درعا، وفي هذه المنطقة تحديداً، نشرت إيران قواتها العسكرية في مواقع عدة، بلغت زهاء 131 موقعاً عسكرياً، وجعلت من الجنوب السوري قاعدة لدعم النظام في عملياتها العسكرية، أما حزب الله اللبناني فقد نشر قواته في 116 موقعاً عسكرياً، تعمل على حماية طرق الإمداد والتجارة بين لبنان والنظام، وتقديم الدعم الكامل لسياسات النظام وطهران، بينما نجد تركيا، والتي تدخلت بشكل كبير في سوريا، عسكرياً ودبلوماسياً، فقد تمركزت في 113 موقعاً، تتوزّع في خمس محافظات (اللاذقية ـ حلب ـ إدلب ـ الرقة ـ الحسكة)، هذه المواقع باتت تشكل عائقاً أمام انتشار القوى الدولية والإقليمية الأخرى، وتعتبر كخطوط لصدّ لتلك القوات من الانتشار، وتحتوي هذه المواقع على قواعد للمراقبة تساعد المعارضة الموالية لها في عملها.


روسيا، ومنذ تدخلها العسكري المباشر في سوريا، عملت على تحقيق مصالحها الاستراتيجية وفق سياسات براغماتية واضحة، وتمحورت هذه السياسات ببناء مواقع عسكرية في أغلب المحافظات السورية (12 محافظة)، منها قاعدة حميميم العسكرية ومرفأ طرطوس، واعتمدت على التنافس مع القوى المتصارعة على سوريا، منها المقايضات مع شريكيه (الدول الضامنة)، وقد أكدت الكرملين، مؤخراً، بأنّ تدخلها جاء وفق مصالحها وليس لتحقيق مستقبل لسوريا ولا لللسوريين، متذرّعة بمحاربة الإرهاب في سوريا كونها امتداداً للإرهاب المتاخم لحدودها، من جهة أخرى اعتبرت روسيا سوريا بوابة لها كي تصل للمياه الدافئة ومنها لبقية المنطقة، كي تعيد للأذهان نفوذها أيام الاتحاد السوفيتي سابقاً، من جانب آخر استخدمت عشرات الأسلحة كاختبار لمصداقيتها، وكأنّ سوريا (حقل تجارب) لأسلحتها.


الملفت لكل متابع، أنّ هذه القواعد لا تسمح بدخول الجيش السوري فيها، وكذلك الفصائل المسلحة المحلية، وكأنّ هذه المواقع أنشئت على جغرافية تلك الدول، من هنا عملت واشنطن على بناء مواقعها العسكرية بخصوصية تامة، وتمركزت أغلبها في الشمال والشمال الشرقي من سوريا، كي تمنع النظام بالاستفادة من الثروات المتوفرة هناك من نفط وغاز.


عزّزت أمريكا تواجدها العسكري في سوريا خلال بناء قواعد عسكرية في مناطق عدة، منها في منطقة المالكية (ديريك) قاعدتان، وفي صباح الخير قاعدتان، وواصلت ببناء قواعد في عين عيسى وتل سمين والطبقة والجلبية، وفي حرب عشق وكوباني (عين العرب) وسيرين والتنف ومنبج، وأخيراً في حلب، وقد تكون لهذه القاعدة أهمية كبيرة واستراتيجية كونها تقع في منطقة صراع بين وحدات قوات سوريا الديمقراطية والجيش السوري الحر الموالي لتركيا.


أمام هذا الكم الهائل من القواعد الأمريكية في سوريا، أكدت واشنطن مراراً أنّها لن تدخل أي حرب مع أي طرف متواجد في سوريا، بل سوف تدافع وبكل قوة عن قوات التحالف إذا تطلب الأمر ذلك، وما يمكن أن نقرأه أنّ هذه القوات سوف تدافع عن مصالحها، لأنّها سوف تعمل على تحقيق مشروعها الاستراتيجي (الشرق الأوسط الجديد)، وهي بنفس الوقت رسائل مؤكدة لروسيا التي تعهدت بإزالة وإنهاء التوتر المتفق عليها بين الطرفين، ومن جهة أخرى، هي تأكيدات لكل الأطراف بعدم قيامها بأي تصرف أو استفزاز في شمال وشرقي سوريا.


بذات المنحى، يتوقع من بايدن أن يكون مختلفاً عن ترامب بسياساته، وكون أمريكا دولة عميقة لا تكون القرارات الحاسمة من نصيب الرئيس وحده، إلا أنّه سوف يعمل على تحسين وتطوير الاستراتيجية الأمريكية بزيادة الاهتمام بالشرق الأوسط، كونها منطقة غنية بالطاقة، والسؤال الأكثر تداولاً، هل يعمل بايدن على توسيع نفوذ أمريكا في سوريا أم سوف يزيد من نفوذ إيران فيها؟


مما لوحظ وخلال حملته الانتخابية، بات من المؤكد بأنّ بايدن سوف يولي سوريا أهمية كبيرة، وقد تُقلّص من الدور الإيراني، كونها، أي إيران، تعمل على زعزعة أمن واستقرار المنطقة عبر الدعم الدائم والكامل للنظام السوري، وتدعم بنفس الوقت كل القوى غير الحكومية، في العراق ولبنان واليمن، بالمال والسلاح، هذه القواعد أفرزت مواقف سياسية متباينة، زاد من احتدام الصراع بين الدول والأنظمة في سوريا.


في هذا الخلط اللامتجانس سوف تدخل مواقع تركيا العسكرية في اختبارات صعبة وتحديداً عندما يدخل بايدن البيت الابيض، وبالنتيجة يجب أن تنتج هذه المواقع نتائج ومواقف مهمة ومتقدمة للوجود التركي في المنطقة، ومن جملة المشاكل العالقة بين واشنطن وأنقرة صواريخ (إس 400)، وقد يكون الخيار الأصعب أمام أردوغان إذا أجبر وتعامل مع الديمقراطية بشكلها الصحيح، هذا المنحى قد يحتم نهايته ونهاية احتلاله لعفرين ورأس العين.


هذه المعضلات العالقة بين الدولتين سوف تكون سبباً مهماً في تحديد مستقبل العلاقات بينهما، وربما تهنئة أردوغان المتأخرة لبايدن بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية مؤشر واضح بعدم رضى الطرفين بالمستقبل بينهما، هذا التأخر تأكيد بأنّ العلاقات بين الطرفين ليست في شكلها الصحيح، وقد يعمل بايدن على دعم المعارضة التركية ضد أردوغان، أو أن تكفّ تركيا عن استفزاز اليونان، وتنهي تدخلاتها في منطقة القوقاز، ولا يقف عائقاً أمام تطلعات الشكل السياسي القائم في كردستان العراق، ودعم واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية في شمال وشرق سوريا.


من جانب آخر، هناك مجموعة قضايا تجمع الطرفين وتؤكد على دورهما وشراكتهما في حلف الناتو، وهذا يشكل عنصراً مهماً في الاستراتيجية الأمريكية، هذه الخطوة قد تجعل بايدن يعيد حساباته أمام تركيا، كضرورة لمواجهة توسعات روسيا في المنطقة، وقد تكون مواقع ومواقف واشنطن في هذه المرحلة مقصلة سياسية وعسكرية على رقاب قوات سوريا الديمقراطية والشكل الإداري في شمال وشرقي سوريا.


أمام هذه المراهنات، ماذا يتبقى أمام موسكو حتى تحافظ على مواقعها بدعم مواقفها السياسية لحماية مصالحها في سوريا؟ إنّها تعمل على جبهات عدة، سواء مع الدول الضامنة معها (أستانا)، فهي تعيش بصراع مع طهران التي تدعم النظام وبقوة على الأرض، والتنافس بدأ بينهما بخصوص بناء التشكيلات العسكرية، فروسيا تعمل على دعم مواقعها بتشكيل الفيلق الخامس، كون إيران تدعم الفرقة الرابعة، من جهة مازالت لعبة (القط والفأر) مستمرة بين موسكو وأنقرة، ما زالت روسيا تبتزّ تركيا جرّاء إسقاط الأخيرة للطائرة الحربية الروسية وقتل سفيرها، هذا الابتزاز ولّد صفقة صواريخ إس 400 التي شكلت بعداً سياسياً وعسكرياً بين واشنطن وأنقرة.


من جانب آخر، ما زال بوتين ينتظر ولاية بايدن حتى يحرك بيادقه (قواعده) ويعتمد على مواقف جديدة بخصوص التوازنات بينهما، ومن ثم يتقاسمان الثروات في سوريا، كلاً حسب قوة قواعده وتفاعلها في بناء الاستقرار لسوريا، فهل حقاً القواعد العسكرية للدول والأنظمة السياسية المتصارعة على سوريا هي ممرات حقيقية لموت المستقبل للسوريين، أم أنّها ستفرز معضلات مستدامة لاستمرار الأزمة نتيجة اختلاف المواقف؟.


عبد الباري أحمه


ليفانت - عبدالباري أحمه

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!