الوضع المظلم
الأربعاء ٠١ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
  • شكراً كورونا، عبارة يمكن أن تردّدها الأجيال القادمة

شكراً كورونا، عبارة يمكن أن تردّدها الأجيال القادمة
رياض علي

البارحة وأثناء ذهابي لشراء بعض الحاجيات من إحدى المحلات القريبة للمنزل الذي أسكنه، كونه من غير المسموح الذهاب لمسافة تزيد عن كيلومتر واحد من العنوان الذي يقيم فيه المرء تنفيذاً للحجر الصحي المنزلي الذي لجأت إليه الغالبية العظمى من دول العالم في الآونة الأخيرة للحدّ من انتشار جائحة كورونا (كوفيد-19) بين البشر، استوقفني رجل في العقد السادس من العمر تقريباً وسألني عن مصدر الكمامة التي أرتديها. شكراً كورونا


علَّه يحصل على جواب يطمئنه ويريح باله ويبشره بتوفر الكمامات في الصيدليات كما كان الحال قبل هذه الجائحة، كون المختصين ينصحون بارتداء الكمامات والقفازات التي تستخدم لمرة واحدة بالإضافة إلى اتّخاذ إجراءات أخرى كتنظيف الأيدي وتعقيم الأسطح والتباعد الجسدي بين البشر، والذي تسميه منظمة الصحة العالمية بالتباعد الاجتماعي، كوسائل للحماية من التعرض لهذا الوباء والحد من انتشاره أو على الأقل تقليل نسب الإصابات وبالتالي الوفيات بين بني البشر، لكن جوابي لم يكن على هوى تمنياته، إذ إن هذه الكمامة كانت من ضمن العدد القليل المتبقي من تلك العلبة التي اقتنيتها قبل أشهر وأستخدمها عادة عندما أصاب بنزلة برد أو رشح بهدف حماية كل من أختلط معهم من العدوى.


سؤال هذا الرجل على الرغم من عفويته وما يخفيه من حسرة على قطعة قماش صغيرة قد تمنحه شعوراً زائفاً بالأمان، إن لم يترافق مع احتياطات وتدابير أخرى، لأن وسائل نقل العدوى كثيرة حسب ما يذكره المختصون، لكن هذا السؤال لفت انتباهي إلى أمور لم تكن تخطر ببالي قبل هذا الوباء، فلم أكُ أتصور يوماً بأن قطعة القماش هذه يمكن أن تصبح بضاعة نادرة الوجود خاصة في الدول المتطورة تقنياً، كما هو حال الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوربي .


فحدوث هذا الأمر في دول العالم الثالث والدول الفقيرة ممكن تصوره، بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية وعدم إيلاء الاهتمام الكافي للشعوب من قبل الأنظمة الحاكمة ومعدلات الفساد الكبيرة، وأسباب أخرى قد يعجز هذا المقال عن ذكرها جميعاً، لكن في الدول المتقدمة كالتي ذكرناها كشف هذا الفيروس عن مدى هشاشة المنظومات الصحية في غالبية الدول حتى المتقدمة منها، فالتقدم الذي كانت تزعمه تلك الدول يبدو أنه كان منصباً بشكل أساسي على أمور أخرى ليس من بينها الصحية (الوقائية والعلاجية)، أو على الأقل لم تكن الأخيرة في مقدمة الأولويات التي ينبغي على الدول الاهتمام بها كوسائل ضرورية لحماية البشرية من الأخطار الوبائية المحدقة بها. شكراً كورونا


وعلى العكس من ذلك، نجد أن الغالبية العظمى من الدول حتى المتقدمة منها، ركزت اهتماماتها طوال العقود الماضية على أمور أخرى، يبدو أنها تحتل الصدارة على قائمة الأولويات، وعلى رأسها تصنيع الأسلحة الفتاكة التي تكون نتيجتها بالمحصلة قتل البشر وفناء مدن بأكملها، كالأسلحة الكيميائية والبيولوجية وأسلحة الدمار الشامل والقنابل الهيدروجينية والذرية والنترونية، فهل يعقل أن تصرف الدول مليارات الدولارات لتصنيع الطائرات المقاتلة والصواريخ العابرة للقارات والطائرات المسيرة التي تستخدم لقصف الأهداف عن بعد، وعمليات تخصيب اليورانيوم للأغراض العسكرية، ولا تكن قادرة على تأمين مستلزمات شعوبها من الأقنعة (الكمامات الطبية)والقفازات ومعقمات الأيدي؟.


هذه المستلزمات البسيطة التي قد لا تحتاج إلى الكثير من التكاليف والتعقيد، فنحن لا نتحدث عن أجهزة التنفس الاصطناعي (المنفسة) أو أجهزة التخدير وغيرها من الأجهزة الطبية التي تستخدم في العمليات الجراحية والحالات الطبية المعقدة، مع أنه من المفترض أن تكون مثل هذه الأجهزة متوفرة وبكثرة، بشكل يغطي احتياجات السكان في كل دولة، فكما يتم صناعة الأسلحة وتخزينها بكميات تكفي لحروب قد تدوم لسنوات، يفترض صناعة الأجهزة الطبية على هذا النحو، أو على الأقل أن يتم تخصيص مايعادل نصف ما يصرف على ابتكار الأسلحة وصناعتها لصالح المنظومات الصحية، مع أننا نجزم بأن الثانية تفوق الأولى من حيث الأهمية والضرورة. شكراً كورونا


فبدل أن تخصص القسم الأكبر من موجودات خزائنها على الحروب والأسلحة والتحالفات العسكرية، التي تكون نتيجتها دمار البشرية، يفترض أن يتم التركيز أكثر على المختبرات والمستلزمات والأبحاث الطبية، والبنية التحتية المتعلقة بالصحة كالمستشفيات والأَسِرَّة وغرف الإنعاش ووسائط النقل الطبية، فمن غير المعقول أن تقف بعض الدول، ولا سيما تلك التي سجلت أرقاماً كبيرة في عدد الإصابات، عاجزة عن إستيعاب قسم كبير من المصابين في مستشفياتها بعد اكتظاظها، واللجوء إلى مستشفيات دول أخرى أو مشافٍ ميدانية صممت على عجل، وكذلك تخصيص وسائط نقل غير مؤهلة لنقل الحالات الحرجة كونها غير مجهزة بالمعدات الضرورية المطلوبة في مثل هذه الحالات، وسمعنا بالكثير من الحالات التي امتنعت فيها المؤسسات الصحية عن استقبال بعض مرضى الكورونا بسبب عدم وجود الأسرة وعدم قدرتها على الاستيعاب، وترك المرضى للحجر الصحي المنزلي بدون إشراف طبي، رغم ما يولده مراجعة الطبيب أو المشفى من راحة نفسية ودعم معنوي للمريض قد تفوق أهميتها أحياناً الأدوية والرعاية الطبية التي يتلقاها، وافتقاد هذه القوة المعنوية قد تؤثر سلباً على جهاز المناعة للمريض وفق ما ذكره الكثير من الأطباء، بل لجأت بعض الدول إلى ترك الأمر لتقدير الأطباء بخصوص وضع أجهزة التنفس الاصطناعي للمرضى أصحاب الحالات الحرجة من عدمه وفقا لحالة كل مريض وسنه، وذلك بسبب عدم كفاية تلك الأجهزة لتغطية كل الحالات التي تتطلب استخدامها.


فما قيمة كل هذا التطور التكنولوجي الذي تتباهى به البشرية وتتنافس فيه الدول لعرض براعاتها إن لم يكن لصحة الإنسان وحياته الحظ الأوفر منه؟، وما الفائدة من استكشاف الفضاء الخارجي وأعماق البحار والإنسان على هذا الكوكب معرض للفناء وعاجز عن حماية نفسه ومحيطه؟،


قد تكون هذه الجائحة سبباً في مراجعة الدول لسياسياتها وأولوياتها في السنوات القادمة، بعد تجاوز هذه الأزمة بأقل الخسائر البشرية والمادية والتي تقدر بأنها ستكون باهظة جداً، وهذا ما لا نتمناه، فلو كان العالم "المتطور" متأهباً لهذه الجائحة ومثيلاتها كتأهبه للحروب التي يتم التخطيط لها وتنفيذها بشكل مستمر، لما وصل الحال به إلى هذا التخبط والهذيان، ونأمل أن يستفيد هذا العالم من خيبته هذه وتقصيره اللامبرر في التعامل مع القطاع الصحي واعتباره درساً بالغ الأهمية، لإعادة ترتيب أولوياته بحيث تكون البنود المتعلقة بالحفاظ على الحياة والصحة والبيئة في مقدمة سلم الأولويات، والعمل الجاد على ما يحقق السلام والتآخي بين بني البشر بدلاً من صناعة الحروب المدمرة وإدارتها، وإن تحقق هذا الأمر فمن المؤكد أن الأجيال القادمة ستشكر جائحة كورونا على الرغم مما خلفته من مآسٍ  ودموع لأسلافهم.  شكراً كورونا


ليفانت -رياض علي ليفانت

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!