-
سوريّا: حقيبة السفر الثقيلة على الظهور المتعبة
ولعلّ أسوأ ما يعيشه "سوريّو الداخل" المفارقاتُ السوداء الناجمة عن الغباء المستفزّ الذي يبديه مسؤولو النظام في التعامل مع الكوارث المعيشية المتصاعدة والمتأزمة. فعلى سبيل المثال عندما بات انقطاعُ التيار الكهربائي وزيادةُ ساعات التقنين الشغلَ الشاغل للسوريين، يظهر وزيرُ الكهرباء ليؤكد "بثقةٍ مطلقة" أن حلّ مشكلة الكهرباء وُضع على الطريق الصحيح لكن المسألة تحتاج إلى وقت فقط، فيما تبرّر الحكومةُ السورية الانقطاعات المتكررة ولفتراتٍ تصل إلى عشرين ساعة يومياً، بالنقص في مادتَيّ الغاز والفيول اللازم توفرهما لتشغيل محطات توليد الكهرباء. فجأة تقوم الدنيا ولا تقعد بسبب تسرّب مادة الفيول من محطة حرارية في مدينة بانياس، إحدى المحطّات الخمس المسؤولة عن تزويد البلاد بالطاقة الكهربائية.
ووسط الاستخفاف الغريب "المثير للشبهات" بمادةٍ تشكّل عصبَ الحياة في سوريا، أكدت إدارة محطة بانياس الحرارية أنّ تسرّباً، وصفته بـ"الطفيف"، وقع في إحدى خزانات "الفيول" بسبب اهتراء جدران الخزان، لتسارع إلى الإعلان، وبعد بضع ساعات عن سيطرتها على التسرّب، ونقل الفيول من الخزان المتضرّر إلى خزان آخر. ما أثبت كذبَ ادّعاءات المحطة إفادةُ السلطات القبرصية بأنّ بقعةً نفطية تهدّد سواحل الجزيرة الشمالية، لتشيرَ أشكالُ النماذج الكومبيوترية وبيانات الأرصاد الجوية إلى أنّ البقعة ستؤثر على الجزيرة خلال 24 ساعة من بدء التسرّب. وبينما يستمر الإنكار السوري، أظهرت صورٌ لأقمارٍ صناعية أنّ التسرّب ليس بالقليل بل هو "كبير وخطير"، عبارة عن بقعة نفطية بطول (36) كيلومتراً. صورٌ أحدث تشي أنّ بقعةَ النفط التي تمتد من شاطئ بانياس باتجاه شواطئ جبلة واللاذقية قد تكون أكبر من ذلك بكثير. في سياق موازٍ نشرت وكالة (سانا) صوراً استفزت الشارع السوري تبيّن طبيعة عمليات تنظيف ساحل بانياس، وتُظهرُ عمالاً يحاولون تنظيف الشاطئ البحري من البقع النفطية باستخدام "الكريك" و"القفّة"، وآخرون ينظفون بخرطوم مياه، ويجمعون الفيول بأيديهم وينقلون المادة إلى أوعية معدنية وبلاستيكية.
وتستمر المفارقاتُ السورية بالطبع في بلد العجائب، فعندما لم يعدِ القصفُ الإسرائيلي لمواقع إيرانية في سوريا خبراً مهماً، بعدما صار جزءاً من تفاصيل المسرحية الكوميدية السوداء: "المواظبة الإسرائيلية على القصف مقابل مواظبة النظام السوري وراعيه الإيراني على الصمت والقبول". حتّى العبارة الهزلية التي كان يسوّقها النظام بعد كلّ غارة: "سنرد بالمكان والزمان المناسبين" لم تعد تثير الضحك، فالنظام لا بدّ ضجر من تكرارها المملّ فكفَّ عن سوقها أصلاً. لكن أن يصبحَ القصفُ فعلاً عادياً وروتينياً وغير ذي صلة بالسياسة، فهذا أمر يستدعي التأمل!. "يبدو أنّ الصمتَ جزءٌ من قبولٍ واعترافٍ صريحين بحقّ المعتدي".
على المقلب الآخر، يبدو أن النظام لا يستقوي إلاّ على شعبه الذي عمل جاهداً على سحقه، حيث أعلنت مفوضيةُ الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في بيان نُشر مؤخراً، أنه منذ 28 تموز/ يوليو، أجبر تصعيد الأعمال العدائية ما لا يقلّ عن (18) ألف مدني على الفرار من درعا البلد، أي الأحياء الجنوبية من المدينة التي ما يزال يتواجد فيها مقاتلون معارضون وافقوا على التسوية مع قوات النظام. أتى ذلك بعدما رفضت عناصر من المعارضة السورية طلباً من قوات النظام السوري يقضي بتسليم سلاحها الخفيف، وتهجير عددٍ من أفراد المعارضة المطلوبين للنظام إلى الشمال السوري. ويرجح مراقبون أنّ قضيةَ تسليم السلاح الخفيف ووضع الحواجز الأمنية داخل درعا البلد ليست إلا ذريعة يسوقها النظام السوري للسيطرة على المدينة، وإنهاء الحراك المدني والعسكري المعارض داخلها، لا سيما وأنّ المظاهرات المناوئة لبشار الأسد لم تتوقف طوال السنوات الماضية في المدينة، رغم امتداد سيطرة النظام على جلّ مناطق الجنوب.
ولا يتوقف الأمر هنا، ففي هذه البلاد التي تفتقد لأبسط أشكال الحياة الطبيعية، لم يعد أمراً مستغرباً العثورُ على جثةِ فتاةٍ مقطوعة الرأس مرمية في إحدى حاويات القمامة، أو اغتيال طبيب معروف بتفرده وإنسانيته وسط عيادته وبأبشع أشكال العنف والاستفزاز، ولا رؤية طوابير الذلّ أمام مصادر الغذاء والطاقة، ولا تصريحات "مطبلِي الطاغية" الاستفزازية عن ضرورة الصمود والتصدي، أو تصريحات "الحكومة البائسة" المنفصمة عن الواقع بطبيعة الحال بأنّ هناك عرقلة مقصودة لعودة اللاجئين إلى وطنهم، وهم الأغلبية، والعرقلة بغرض تحقيق مآرب سياسية. بينما تخامر أفكار الهجرة كلّ السوريين، حتّى جمهور الفريق الموالي للسلطة، الذي كان الأقرب إلى تصنيف كلّ ما يحدث من دمارٍ اقتصادي إلى "مؤامرة خارجية". واليوم تتكثف حركةُ المغادرين في مطار دمشق، التي تذكر بموجة النزوح في عام 2015. وليس من الغريب أن يبلغ عددُ المغادرين حدّاً فاق التصوّر لدرجةٍ انقطعت فيها أوراق الدفاتر في دوائر الهجرة والجوازات، فيما برّر وزير الداخلية السوري مشكلة تأخير الوزارة في إصدار جوازات السفر للراغبين بمغادرة البلاد بأنها تعود لـ"أسباب فنية"، وليس إلى رغبةٍ حقيقية من قبل السوريين للنجاة بأرواحهم من هذا الكابوس المرعب الذي كان في زمنٍ ما يُدعى: سوريا.
في هذا الوقت وبينما كشفتْ دراسةٌ للمفوضية السامية للاجئين أنّ 66% من طالبي اللجوء من السوريين لدى دول الاتحاد الأوروبي لا يعتزمون العودة، المفارقة هنا أنّ الحكومة السورية تملك رؤية مختلفة، حيث أقامت في دمشق مؤتمراً لإعادة اللاجئين، في 26 يوليو/ تموز الماضي، بمشاركةٍ روسية، كاشفةً عن خطواتٍ جادة في هذا السياق. حيث أوضح وزيرُ الإدارة المحلية السوري وجود تسهيلات عدّة أهمها إصدار مراسيم عفو لتشجيع اللاجئين على العودة إلى الوطن. إلا أنّ كلّ الجهود المبذولة أو التي تُبذل ستذهب هباءً، ولا تعدو كونها رسائل مصيرها الوأد دون التوصّل إلى حلّ سياسي يضمن إعادة الإعمار الذي يكلف (440) مليار دولار على أقلّ تقدير. ولا شكّ الإعلان بأنَّ ظروف العودة قد نضُجَت وآن وقتها إنَّما هو تشويه واضح لحقيقةِ الواقع السوري الذي يزداد توحشاً، فما زال النزاع مستمراً، وحتّى المناطق التي أُعْلنَ عن أنَّها هادئة اليوم قد لا تكون هادئة غداً. وهذا سبب كافٍ كي لا يرغب اللاجئون بالعودة إلى المحرقة السورية التي تحولت إلى أمرٍ عادي وروتيني، وكأنها من طبيعة الأشياء، حيث لا أحد يحرّك ساكناً لوضع حدّ لهذه المأساة المفتوحة على الجحيم.
ليفانت - عبير نصر
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!