-
سوريا في سياق الحرب الأوكرانية.. المشروع الروسي والدور التركي
بسبب اندلاع الصراع الدولي الواسع فإن التطورات في سوريا قد أصبحت مرتبطة عضوياً بالصراع في أوكرانيا، فالتطورات الأخيرة التي تحدث في الشمال السوري ليست وليدة التفاعلات الداخلية، بل هي تطبيق لسياسة قد تم الاتفاق عليها في قمة طهران يوم 19/7/2022 رسمت دور كل دولة في سوريا بما يتناسب مع تحالف المشرق (الروسي الصيني الإيراني) الذي تسير معه تركيا أردوغان، وتتردد في الانضمام إليه دول عربية خليجية أخرى.
هناك ورقة عمل أعدها مجلس الشؤون الدولي الروسي بعنوان (تسوية الصراع السوري وسط الأزمة الأوكرانية، من منظور الاقتصاد السياسي) الصادرة برقم 67 لعام 2022، والتي نعتقد أنها أعدت قبيل قمة طهران، حيث تحدثت الورقة عن التحضير لهذه القمة.
رسمت ورقة العمل خطة التعافي لسوريا بالاعتماد على العامل الاقتصادي الذي ستساهم فيه الصين وإيران وروسيا وتركيا، وعلى القبول باللامركزية السياسية والأمنية، التي تعني بقاء واستمرار نفوذ الدول المحتلة على وضعها الراهن، وتقاسمها المصالح ومناطق النفوذ بما فيه الجنوب السوري، الذي يمكنه تطوير نظام ذاتي خاص به يلبي مصالح إسرائيل والأردن، ولم تستثنِ مشاركة الشمال السوري الذي تهيمن عليه قسد الكردية المدعومة أمريكياً، والتي بنت شبكة مصالح مع النظام تتعلق بالتعاون الأمني والعسكري والنفط والحبوب.
كما تتطرق الورقة لسيناريوهات الشمال الذي تتحكم به تركيا، الذي يعتبر المعقل الأخير للمعارضة، وتستعرض الخيارات المتوقعة، وتختار منها الأفضل التي على تركيا القيام بها، تحضيراً لإعادة دمج الشمال تحت خيمة النظام السوري عبر المصالحة التدريجية معه، بحيث تمتد هيمنة النظام الجمركية ونظامه الاقتصادي على كامل المساحة السورية وكامل الطرق والمعابر، حتى بوجود نظم تحكم ذاتية أمنية وعسكرية مختلفة، فالاقتصاد هو الأساس، وهو من سيوحد في النهاية (بحسب النظرية الماركسية)، والخلافات السياسية التي لا حل لها، يجب القفز فوقها والاعتراف بانتصار النظام العسكري، وهو الأمر الواقع الذي يعتبر مصدراً للشرعية عند الروس.
لا تتطرق الورقة لأي تغييرات أمنية أو سياسية مستقبلية من أي نوع، بل ترسخ الواقع الأمني السياسي العسكري الراهن كما هو، مستخدمة العامل الاقتصادي فقط كمتغير يجب الاعتماد عليه، هذه النظرة تدعوها دوماً للإصرار على تطبيق قرار مجلس الأمن 2642 حول برامج التعافي المبكر، الذي هو محاولة روسية للقفز فوق القرار السابق 2254 الذي يشترط الحل في سوريا بقيام سلطة انتقالية وإجراء انتخابات وتطبيق العدالة.
تنظر الورقة بإيجابية لانفتاح بعض الدول العربية والخليجية على النظام السوري، وتشجعها على المباشرة بمشاريع مع النظام السوري، خاصة مشروع خط الغاز والطاقة المصري نحو لبنان، وكذلك على تحرك بعض الدول الأوروبية في هذا الإطار، نحو إعادة العلاقات الاقتصادية والديبلوماسية والأمنية مع النظام السوري، باعتبارها واقعية سياسية.
في حين تعترف الورقة بتفوق قدرات الصين وترجيح هيمنتها المستقبلية كداعم أقوى للاقتصاد السوري، فهي لا تقلل من قدرة إيران ومن تمدد نفوذها داخل النظام الاقتصادي والأمني والسياسي والاجتماعي والعسكري، مما يجعلها حالياً تمسك بالدولة السورية، التي يغرق قادتها في التناحر فيما بينهم (بحسب الورقة)، بينما تكتفي روسيا بالهيمنة على الخامات والثروات الباطنية كالنفط والفوسفات، والإشراف السياسي الكامل على قرارها السيادي.
تنظر الورقة بإيجابية لاحتمال عودة إيران لاتفاقية التعاون النووي المشترك مع الغرب والتي ستضخ مبالغ ضخمة تسمح لإيران بزيادة استثمارها في الاقتصاد السوري، وترسخ وجودها على الأرض السورية، وتعزز قوة النظام الإيراني في طهران، وبذات الوقت تستفيد روسيا من تواجد ايران على الأرض السورية، وفي العراق ولبنان، فمشروع الهلال الشيعي هو القسم الأخير من مشروع الزحف الصيني الحزام والطريق، فتحالف روسيا والصين وإيران مهم وراسخ، ويسميهم النظام السوري بالأخوة.
فكل تفكير بمشاريع إعادة الإعمار التي يحلم بها الغرب في سوريا سوف يكون غبياً إذا تجاهل وجود الصين وإيران وروسيا وتركيا ودول الخليج وهي الأقدر والأسرع، فالصين قد بدأت منذ عقود استثماراتها في سوريا، وزيارة وزير خارجيتها لسوريا تتكرر باستمرار، ولا يجب نسيان أكثر من 15 فيتو صينياً في مجلس الأمن لصالح النظام. وهي تشرف بشكل مباشر على مفاصل وبنى أساسية في الاقتصاد الإيراني والعراقي، وتخطط للامتداد نحو سوريا ولبنان، وقد بنت علاقات خاصة مع المصارف اللبنانية، وأقامت قطاعات إنتاج في سوريا تتعلق بالإلكترونيات وتوليد الطاقة الشمسية.
كما أن النفوذ الاقتصادي الإيراني في سوريا قد انطلق بسرعة منذ بداية القرن وتسلم بشار للسلطة، وتسارع أكثر مع انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، ثم أصبح بشكل متزايد هو العمود الفقري للاقتصاد السوري بعد الثورة، إيران تسيطر حالياً على قطاع الوقود والحبوب والمصارف والخليوي وصناعة الحديد والآليات والصناعات العسكرية، رجال الأعمال المرتبطون بها يشكلون الأغلبية في قطاعات الاقتصاد، تمتلك منطقة صناعية ضخمة وسط سوريا في حسية ولها حصة هامة في المنطقة الصناعية قرب حلب ودمشق، وتخطط لبناء سكة حديد وطرقات تصل طهران ببيروت واللاذقية، ولديها مشاريع إسكان وتوطين كبيرة في حمص ودمشق وحلب، ناهيك عن حملات التشييع والتغيير الديمغرافي، تمتلك الكثير جداً من العقارات في المدن السورية، وبنت العديد من القواعد العسكرية والصناعية، وأطبقت نفوذها على مؤسسات الدولة وأجهزة الأمن.. وهي تمول حالياً معظم مشاريعها من تجارة المخدرات التي تدر عليها ما يقارب الأربعة مليارات دولار سنوياً.
إن نشر الصورة التي ظهر فيها ماهر الأسد (رجل إيران الأول في النظام السوري) برفقة قائد القوات الروسية في سوريا قصد منه الإعلان عن التحالف والتنسيق بين إيران وروسيا، خلافاً للشائعات عن توتر بين أنصار إيران وأنصار روسيا في الجيش السوري، الذي هو عملياً الجهة الأضعف بين القوى التي تحكم الأرض.
ما تقوم به تركيا يؤكد انخراطها في الخطة الروسية
مباشرة بعد قمة طهران تغير خطاب أردوغان وخطاب وزير خارجيته قبله، وتحدث وزير الخارجية عن لقاءات أمنية وسياسية بين البلدين وعن لقائه مع فيصل المقداد، وزير خارجية النظام، ثم تحدث أردوغان عن لقاءات بين البلدين وتنسيق أمني وعن احتمال لقائه الأسد، وعن ضرورة المصالحة بين المعارضة والنظام.
على إثر ذلك خرجت مظاهرات عارمة في الشمال السوري وفي تركيا، يرفض فيها السوريون هذه المصالحة، ودعمت بعض الفصائل المسلحة هذه المظاهرات، مما أزعج التركي.
تغير الفريق التركي المشرف على الملف السوري كله، وتحركت هيئة تحرير الشام لمعاقبة الفصائل التي ترفض الانصياع، وهو التحرك المنوّه عنه سابقاً في الورقة، الذي يهدف لفرض سيطرة تامة للهيئة المصنفة إرهابياً على السلاح والمقاتلين والشارع، وهي التي فتحت معابر خاصة تربطها بالنظام وتتبادل معه البضائع والتنسيق.
سوف يستفيد النظام وروسيا والصين من هذا التحرك لهيئة تحرير الشام (الإرهابية) لتبرير إغلاق المعبر الإنساني الوحيد الذي لا يمر عبر سيطرة النظام، بحجة أن منطقة الشمال هي طالبان جديدة ودولة إرهاب، حيث سيفشل مجلس الأمن بتجديده مطلع العام القادم بدعم روسي صيني، وهذا ما تحدث عنه التقرير مسبقاً.
وبحسب مقربين من فهيم عيسى، القائد في الشمال والمقرب من تركيا، فقد ذكر أمامهم قبل شهرين، أي بعد قمة طهران (أن هيئة تحرير الشام سوف تتحرك للهيمنة على الفيلق الثالث في شهر نوفمبر)، وهذا ما حصل فعلاً لكن بتوقيت أبكر بأسبوعين بسبب عمليات الاغتيال التي حصلت وتسارع الأحداث المتعلقة بها، وهذا يفسر الصمت التركي المطبق على ما يجري، ويؤكد أنه مبرمج ومخطط له تركياً.
فالمتوقع من تركيا لاحقاً أن تجر الائتلاف ولجنة التفاوض (تقع تحت سيطرتها التامة) نحو نقل التفاوض لدمشق والقبول بسلطة الأسد ومشاركة شكلية في السلطة، مقابل تمتعها بحكم ذاتي في الشمال الذي تحكمه أمنياً هيئة تحرير الشام التي هي الجناح العسكري لتنظيم الإخوان المسلمين حلفاء إيران، لتشكل تلك الإمارة الإسلامية (غزة جديدة) تدخل ضمن حلف المقاومة الذي تقوده إيران في المنطقة.
تبدي الورقة انزعاج روسيا من نشاط حزب الله في الجنوب، ومن الضربات الجوية الإسرائيلية، لذلك ستحاول روسيا استرضاء إسرائيل بتخفيف التوتر بينها وبين حزب الله، والسماح بتشكيل ما يشبه الحكم الذاتي في الجنوب يطمئنها، مع تسهيل ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان، لمنع اندلاع صراع بين حزب الله وإسرائيل، من شأنه أن يخلط الأوراق من جديد في المنطقة، ويفتح الصراع فيها على احتمالات جديدة.
استنتاجات
إذا كان ما سبق عرضه هو خطة روسيا تجاه سوريا والشرق الأوسط، فما هي خطة الغرب، هل بدأ الغرب في التفكير بخطة مواجهة أم أنه يراهن فقط على احتمال وحيد هو خسارة بوتين الحرب في أوكرانيا ثم خسارته للسلطة بعدها، في حين يراهن بوتين على توسيع دائرة الصراع في الشرق الأوسط، وعلى تفاقم الأزمات في العالم الغربي المتصدع أصلاً؟ هل ما يزال الغرب يعتمد استراتيجية الحل في سوريا عن طريق التفاوض في جنيف الذي سيخرج الاحتلال الروسي والإيراني والتركي من سوريا ويعيد اللاجئين إليها، كما أصرت دول أصدقاء سوريا في اجتماعها مؤخراً؟
نحن في سباق مع الزمن، فالمتغيرات الجديدة توحي بتفاقم الأزمات واتجاهها نحو التفجر، من يسبق من؟ ومن هو الأسرع والأكثر حسماً؟ ومن هو الأقل تحملاً؟ الدول الديمقراطية التي تتساقط فيها السلطات لأقل أزمة أم الدول الشمولية التي تحكم السيطرة على شعوبها؟
لا جدوى عملياً من خطوات روسيا في أوكرانيا وسوريا (الوصول للمياه الدافئة) من دون اختراق الحاجز التركي، الذي يفصل بينهما، من هنا تكمن خطورة التحالف التركي الروسي على ميزان القوى في الصراع العالمي الدائر، هل سيقبل أردوغان ومن وراءه باحتمال خسارتهم للسلطة في الانتخابات القادمة في يونيو 2023، أم سيلجأ لأساليب ديكتاتورية للفوز بها، أو لتأجيلها لما بعد ترتيبه تموضع تركيا الجديد بعد انتهاء اتفاقية لوزان في 24/7/2023؟
هل سيفتح الصراع على السلطة في تركيا بين روسيا والناتو الباب لتفجر صراع داخلي يودي بتركيا كدولة، ويفتح الطريق أمام روسيا نحو المتوسط؟ هل سيفاجئ أردوغان العالم بإعلان انسحاب بلاده من حلف الناتو، بمجرد انتهاء موعد الاتفاقية أو حتى قبلها؟ وهل سيقبل الناتو الانسحاب من تركيا ببساطة هكذا في غمار الحرب مع روسيا، أم سيتخذ إجراءات عسكرية مضادة، هنا هل سيصبح تهديد روسيا باستخدام النووي، خياراً محتملاً، كوسيلة ردع حقيقية تحمي تركيا من تدخل الناتو العسكري فيها؟
بالنظر لما تقوم به تركيا في سوريا مؤخراً يصبح من المؤكد انحيازها التام للتحالف مع روسيا، فتركيا قد وسعت نفوذها نحو أذربيجان ثم ليبيا، وتريد الهيمنة على شرق المتوسط، بتهديدها اليونان، وهذا يتماشى مع المشروع الروسي الذي يخطط للتحالف مع العالم الإسلامي بعد الصين لكسر التوازن مع الغرب.
سوريا لا يمكن اعتبارها ورقة مؤجلة وذات ترتيب متدنٍ في سلم الأولويات، بل هي في صميم الصراع العالمي الراهن، والخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه الغرب وإسرائيل في تجاهل الصراع فيها واستثماره كساحة استنزاف للخصوم، عبر السماح لقوى التطرف والميليشيات الإيرانية وبعدها للجيش الروسي بالهيمنة عليها والتقاتل على أرضها، سوف تدفع ثمنه غالياً، فالذي استنزف فعلاً هو السلام والأمن والحضارة ومستقبل الشعوب في المنطقة.
ليفات – كمال اللبواني
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!