الوضع المظلم
الأربعاء ٠١ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
سنة أُخرى في الجحيم السوريّ (أزمتنا عرّتنا)
عبير نصر

عبر التاريخ لم يكُ لسوريا تاريخ سياسيّ مضطرب فقط، بل واقتصادي أيضاً، ورغم إنّها مرّت بمراحل كان الوضع المعيشي فيها مضبوطاً بطريقة أو أخرى، إلا أنّ مظاهر الحياة الأخرى كانت تتأرجح على كفّ عفريت، الأمرُ الذي رسّخ ومنذ البداية بنيةً اجتماعية هشّة، سنرى نتائجها لاحقاً في مملكة الصمت، ومن غير الحرب السورية أفضل مرآة لنرى ما صنعته أيدينا؟، حيث سيتّضح الجحيمُ بعدما صار المحظورُ متاحاً، والذي سيخنق ثقافةَ المواطنة ويجعل كلّ فئة ذات عقيدة (دينية أو فكرية) مغايرة تنسحب إلى وكرها الطائفي. الجحيم السوريّ


ولا يخفى على أحد، أنّ الصراعات العسكرية الدائرة في سوريا، والتي تفتقر إلى الأشكال التنظيمية لمؤسسات الدولة الاقتصادية، تقودها قوى متحاربة لا تمتلك الدهاء السياسي أو العقلية الاقتصادية المتقدمة والقادرة على تسوية صراعاتها لمنع الانهيار الاقتصادي، حيث جُيّرت معظم موارد الدولة لصالح الوضع الأمني والعسكري، وفي بلد شمولي مُطلق كسوريا، ستنهار فيها حُكماً أعمدة الحياة الأخرى بعد انهيار الاقتصاد الذي هو الركيزة الأساسية لتقدّم أيّ بلد.


ومن الطبيعي أن تَطرح الحالة السوريّة الاستثنائية -منذ ربيع 2011- أسئلةً وجودية حول معاني الهوية والانتماء، في ظل حربٍ مزّقت البلادَ شرّ تمزيق، وهذا طبيعي إذ إنّ الطابعَ المسالم الذي عاشته سوريا خلال عقودٍ طويلة كان يشي بنوع من الخضوعِ الضمني وهيمنةِ نظام أخفى حقيقةَ المجتمع السوري، وهذا ما كان يُشار له من قبل أصوات كثيرة، نادتْ بالمجتمع المدني والانفتاح الاقتصادي في بداية الألفية الثالثة، أصواتٌ غُيّبت لاحقاً أو هُمشت أو اعتقلت أو قُتلت، في بلدٍ منغلقٍ ومخنوق، تعايش معه السوريون بقدرة إلهية، لينفجر لاحقاً في وجه الجميع. الجحيم السوريّ


ولم يكُ من الغريب أن ينهارَ البلدُ الهشّ المُتعب، حتى سكانه كانوا يجهلون ما يحصل فيه أيام السلم الأمني، فهربوا منه عندما تعرّض لأول أزمةٍ حقيقية، وبين عامي 2012 و2015 شهد البلدُ أكبر حملة نزوح قسرية، هرباً من مواجهة القتل اليومي العشوائي، ولم يبقَ لهم فيه لا مكان ولا ذاكرة ولا حقيقة تُذكر.


في البداية كان على السوريين - الذين لا حول لهم ولا قوة - الكفاح من أجل البقاء، ومواجهة كلّ البشاعة التي أنتجتها الحرب، ولم يكُ الموت أو الفقر أو الاستبداد أو التشرّد أو الظلم أو الذلّ أبشع ما أفرزته الحرب، إنما كان القدرة على تصديقِ وهضمِ المفهوم الواضح وضوح الشمس: (السوري يأكل لحم أخيه السوري)، وهو الذي فتح البابَ أمام التدخل العالمي السافر دون ضوابط أو قيود، إذ كان دودُ الخلّ منذ البداية وبحسب التعبير المحليّ (منّو وفيه)، وبسبب هذا النخر القديم في بنية المجتمع المستلقي على بركان هادئ سينفجر في أيّ لحظة، انتشرت جميع أنواع الابتزاز الإنساني بحقّ الفقراء الذين لم ينالوا ناقةً أو جملاً من كل ما حصل ويحصل، بل كانوا كبش الفداء المستعدّ للتضحية متى طُلب إلى المذبحة. الجحيم السوريّ


ومن أهم الممارسات البشعة بحقّ الشعب الذي لم تتوقف مذبحته منذ بداية الحرب السورية وحتى اللحظة، شتّى أنواع التجارة بحقّ إنسانيته المنتهكة، والتي مُورست عليه من الداخل والخارج على حدّ سواء، وعلى سبيل الذكر لا الحصر تجارة (تقنين الكهرباء والماء) الذي تتراوح مدته لاعتبارات لا يفهمها المواطن، ما اضطره إلى البحث عن بدائل زادت من ثقل الحياة على كاهله، بالإضافة إلى تجارة (السفر) عبر الجوّ أو البحر الذي غدا هاجس المواطن الأساسي كبديلٍ ناجع للقتل والقهر، مقابل مبالغ طائلة اضطرت الكثيرين لبيع كل ما يملكون مقابل مغامرةٍ مجنونة قد تكون نهايتها الموت المحقق.


وأيضاً تجارة (الجنس)، خاصة بحقّ اللاجئات القاصرات وبيعهنّ كسلعٍ رخيصة، بالإضافة إلى تجارة (الأعضاء البشرية) من قبل جماعاتٍ متخصصة بتهريب السوريين المنكوبين إلى تركيا وغيرها من الدول، وتجارة (السلاح وتصريف القطع الأجنبي)، ولن ننسى بالطبع تجارة (الخطف) بهدف الابتزاز المالي، (والتعفيش) الذي مارسته اللجان الشعبية بحقّ فقراء هربوا من بيوتهم ليسلموا من الموت فما سلموا من الذل والقلة، هذا ولم تسلم (المساعدات الإنسانية) من فساد بعض تجّار الحرب دون رقابة أو مساءلة. الجحيم السوريّ


واليوم ماذا سيضيف وباء (الكورونا) الذي قابله السوريون بموجات من السخرية اللاذعة وغير المبالية، كردّ فعل على الموت اليومي الذي يعانيه المواطن والذي عزّزته الإجراءات الحكومية المثيرة للسخط، وفي الوقت الذي يعكس فيه استسلام السوريين لواقعهم المحتّم، يقوم السكانُ المحتجزون في البيوت (في إسبانيا) مثلاً بالخروج إلى الشرفات، وكذلك الشرطة في الشوارع، يقومون بعزف الموسيقى للتأكيد على أنّ الشعبَ يدٌ واحدةٌ وأن لا شيء يهزمهم ما دام الحبّ هو الخلاص الأخير.


وفي ذات الوقت يظهر الرئيس الإيطالي مخاطباً شعبه: (في الحروب السابقة كان الشعبُ يموت من أجل أن تحيا إيطاليا، أما في هذه الحرب يجب أن تموت إيطاليا لكي يحيا هذا الشعب العظيم)، كما شاعت أخبار عن اجتماع أحد عشر زعيماً من المافيا الإيطالية وإعلانهم التبرّع بمبلغ سبعة مليارات دولار لدعم الحكومة في مواجهة الوباء، في حين ظهر مصمم الأزياء الشهير جورج أرماني ليقول: (لن أدع إيطاليا تسقط على ركبتيها حتى وإن أنفقتُ عليها كلّ ثروتي)، وفي سياق موازٍ يصرّح رئيس وزراء كندا أن كلّ أسرة ستحصل على مبلغ (2000) دولار شهرياً لمدة ستة أشهر إضافة للخدمات المجانية المتاحة، وكذلك الرئيس الروسي يقرّر منحَ الأسر رواتب شهرية وإعفاءً تاماً من الضرائب والفوائد على القروض، ونظيره الرئيس الفرنسي يعلن بدوره عن إعفاء المواطنين من فواتير الماء والكهرباء والإيجار. الجحيم السوريّ


وسط كلّ هذا الحبّ وكلّ هذه التضحية من حكومات العالم المتحضّر تجاه شعوبها المنكوبة، ما الذي يحصل في سوريا _التي باتت تنتمي لدول العالم السفلي_ ولم يتفشَّ الوباء بعد؟، كل ما حصل أنّ تجارة جديدة بدأتْ، سأسميها تجاوزاً (تجارة الحجر الصحي) تتجسّد بارتفاع أسعار الكمّامات والمعقّمات، حيث وصل سعر علبة (الديتول) في إحدى مولات دمشق إلى (22) ألف ليرة سورية، أي ما يعادل تقريباً نصف راتب الموظّف في القطاع العام، هذا بالإضافة إلى ارتفاع غير منطقي في أسعار المواد الغذائية تحت مبررات واهية، أثارت سخط السوريين الذين يفضلون الصمتَ _حتى اللحظة_ رغم أن لا شيء آخر يملكونه ليفقدوه وقد ضاع ما ضاع من كرامةٍ ووطن وهوية وانتماء.


وإذا الأملُ أفلس فيما يخصّ الحكومةَ وتجّار الحرب، أتساءل ماذا فعلت وزارة الأوقاف كقيمة إنسانية وأخلاقية من المفترض غايتها إرضاء الله فيما يتعلّق بعبده، غير تكريس السلطة الدينية في سورية المدنيّة، الأمر الذي سيمكّن الوزارة من التحكّم بمؤسسات مالية وتربوية بالإضافة إلى مؤسسات الإنتاج الفني والثقافي، وتأميم النشاط الديني في البلاد، وسيشرّع عملَ جماعةٍ دينيةٍ تحت مسمّى (الفريق الشبابي الديني) خلافاً لما ينصّ عليه الدستور الذي يؤكد على أنّ السوريين جميعاً متساوون في الحقوق والواجبات. الجحيم السوريّ


ويقول ناشطون وسياسيون سوريين: (إن القانون لا يشير إلى خضوع عمل وزارة الأوقاف للمراقبة أو المراجعة من قبل أي سلطة تشريعية أو قضائية، مما يجعل الوزارة فوق المحاسبة)، ولاحظنا بوادر هذه الصلاحيات عبر إقامة الاحتفالات الدينية (الهاي كلاس) التي لا تخدم المواطن في شيء، أو التحريض على الاحتشام في اللبس في الشوارع والجامعات، والقادم أعظم في بلد متهالك وعلى وشك الانهيار.


بعد كلّ ما سبق، من الغباء أن نتساءل عن السبب الذي دفع بالسوريين لبيع أراضيهم ومنازلهم بهذه السهولة، والمغامرة بالموت أملاً في مكان آمن قد لا يتوفر إلا بحظّ مطلق أو صدفة غير متوقعة، وفي الوقت الذي ساعدت فيه عقوبات الاتحاد الأوروبي على دعم واقع أثرياء الحرب من أجل زيادة الضغط على النظام، قامت (بقصدٍ أو بدون قصد) بتضييق الخناق على أحلام السوريين بحياةٍ كريمة، حيث فرضت بروكسل عقوبات على النفط ومنتجات الغاز السورية، الذي يعتبر واحداً من أهم القطاعات في اقتصاد البلاد، لكنّ المدنيين (وحدهم) من يدفع ثمن هذه القيود، ووحدهم من يعاني النتيجة المترتبة على الانهيار الاقتصادي وزيادة الأسعار، ولن أستطيع بالطبع تجاوز ذِكر أكثر الإجراءات التي اتخذتها الحكومة إثارةً  للسخط (برأيي الشخصي)، وهي صدور ما يسمى (بالبطاقة الذكية).


والهدف من هذه البطاقة العجيبة المفعول _بحسب مصادر حكومية سورية_  تحديد كمية الاستهلاك والاستمرار بتوفير المواد الغذائية ومنع الاحتكار، خاصة في ظلّ العقوبات الاقتصادية وصعوبة الاستيراد وغياب الحركة الصناعية الثقيلة من البلاد، وأسفرت هذه البطاقة عن ارتفاع كبير في أسعار الوقود، وطوابير طويلة للحصول على كمياتٍ قليلة منه.


ومن المفيد بالذكر، إنّ كثيراً من العائلات لا تحصل على أسطوانة غاز (واحدة) إلا بعد أشهر من الانتظار، أسطوانة تجعل المواطنَ يحرص على استخدامها بكثير من الحذر، أو شرائها بأربعةِ أضعاف ثمنها إن تواجدتْ، وفيما يتعلّق بتوزيع المواد الغذائية فإن استخدام هذه البطاقة المدعومة من الحكومة يخوّل كل أسرة الحصول على أكياس من الرز والسكر لا تكفي إلاّ لأيام قليلة، بعد تدافع مُهين لا يُبقي على ذرّة كرامة للمواطن المسحوق أساساً، تدافع يعكسُ الذلَّ في أقبح صوره، قد يُجبر المسؤولون عن توزيع المواد إلى إحضار الشرطة للفكّ بين المتزاحمين أمام المؤسسات التجارية.


كل ما سبق ليس بذي قيمة أمام الحملة العجيبة الغريبة المسمّاة (ليرتنا عزّتنا)، والتي أُطلقت بعد انهيار قيمة العملة السورية وانخفاض القدرة الشرائية للسوريين، ولابدّ من تذكّر أنّ أزمة الليرة السورية تعود إلى التوقف شبه الكامل في تدفق الدولار الأمريكي إلى السوق السورية، والذي اعتمد بشكل أساسي على السوق اللبنانية منذ بدء الصراع عام 2011، عندما لجأ التجارُ السوريون إلى المصارف اللبنانية لإيداع أموالهم فيها، والتي بلغت عشرات المليارات من الدولارات على أقل تقدير. الجحيم السوريّ


وفي الوقت الذي سيشهد فيه تجمعاً لطوابير البشر للحصول على أي شيء بقيمة ليرة واحدة، ليرة واحدة فقط، وهي شبه المفقودة أصلاً، سيُسلط الضوء على الذلّ اليومي والفقر المدقع الذي يعيشه السوريون دون أدنى رحمة من زعماء القرار، وجاءت الحكومة كعادتها لتدلي بدلوها قائلة: (إنّ سبب هذه المبادرة كانت في الأساس لرفع معنويات الشعب السوري)، هذا الشعب الذي عاد (بفضل حكومته الحكيمة ذات الأفكار الرشيدة) إلى العصور الحجرية.


وما عاد يثير اهتمامَ السوريين لا كرامة ولا فن ولا جمال ولا موسيقى ولا إبداع أمام التضخم الاقتصادي الذي اجتاح البلاد وأرهق العباد، كل هذا أصبح مجرد ترفٍ باذخٍ قياساً بالرغيف الحلم، هذا الرغيف وحده من سيدفع الشعب المنكوب إلى التجمع بالعشرات أمام الأفران أو مؤسسات المواد الغذائية أو مراكز توزيع الغاز غير آبه بالموت القادم من الشرق أو الغرب أو حتى السماء، فأي وباء ألعن من الجوع؟.


وما زاد الطين بلّة حملة أخرى شعارها (سوريا خالية من التهريب) تضمنت انتشاراً جديداً لدوريات الجمارك، لمنع البضائع المهرّبة من الوصول إلى الأسواق، إلا أن ذلك لم يتحقق لغاية اليوم بل ارتفع نشاطُ المهرّبين مع تدهور الوضع الاقتصادي وتأزّمت الأوضاع في لبنان جرّاء افتقاد السوق السورية للعملة الصعبة اللازمة للاستيراد، والذي أدّى إلى تدهورٍ حادّ في قيمة الليرة السورية.


إنّ الحقيقةَ الوحيدة التي رسّختها الحربُ السورية التي كانت لتكون (ثورةً متقدمة)، أنّ كلَّ شيء متغيّر ومتحوّل في هذه البلاد التي تعيش في قلبِ القهر والفقر، المرمية على هامش العالم كجثةٍ هامدة، لكن الثابت المطلق والوحيد أنّ زعماءَ الحرب لن يفلسوا أبداً ما دامتْ معاناةُ الشعب في تصاعد طرديّ، هم الذين أغرقوا قاربَ النجاة، وما من قشّة بات ينتظرها المواطن بعدما بخُستْ قيمتُه وما من خلاص مُنتظر.


فشلٌ حكوميّ، أطماعُ مُحدثي النعمة، جشعُ تجّار الحرب، إنسانيةٌ ماتتْ، وهي الزعيم الأكثر جنوناً وفتكاً إذا ما انطلق غولُ جشعه وغضبه، سوريّ يأكل لحمَ أخيه منطلقاً من المصطلح الشعبي الرائج (حوالينا ولا علينا)، ولّد أزمةً عندما عرّتنا حتى النخاع، ساقتْ الشعبَ السوريّ الذي طمح بالتغيير والحياة الكريمة إلى الهلاك، وبفضل استهتار الكثيرين بوطنٍ لم يشعروا بالانتماء إليه يوماً، وطن كان يعيش بين مطرقة الاستبداد السياسي الملتهب منذ عقودٍ طويلة وبين سندان التطرف الديني النائم تحت جمرٍ لم تبرد حرارته يوماً، بسبب كل هذا لم يُكتب لهذه البلاد النجاح في الوصول إلى برّ الأمان، أسوة بثورات كثيرة اندلعتْ حول العالم وتمخّضت عن مجتمعاتٍ متقدمة لها ثقلها الذي لا يُستهان به وسط كلّ هذا الجنون والجشع.


ليفانت - عبير نصر

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!