الوضع المظلم
السبت ٠٩ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
دلائل على فشل أنظمة الحكم المركزي- سوريا نموذجاً
حسن صالح

عانت البشرية كثيراً، ولزمن طويل، من حكم الإمبراطوريات، وشهد القرن الماضي نشوب حربين عالميتين، أزهقت فيهما أرواح عشرات الملايين من البشر، ودمرت مراكز بشرية كثيرة، وساد الجوع والفقر والتشرّد، بيد أنّ المجتمع الدولي استطاع النهوض من جديد، وحقق نجاحات كبيرة في كافة المجالات، وظهرت عشرات الدول المستقلة، من بينها دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تفاءلت شعوبها بمستقبل مشرق وحياة حرة كريمة وآمنة، لا سيما وأنّ جيوش الدول الأوروبية التي كانت توصف بالاستعمارية، قد خرجت من المنطقة، فأفسح المجال للشعوب في ظلّ الاستقلال، أن تدير شؤون أوطانها بنفسها. 


ولكي ندرك ما جرى بعد تسلم الحكومات (الوطنية) لإدارة الحكم، بعد إنجاز الاستقلال، سوف ألقي الضوء على نموذج الحكم المتبع في سوريا، بعد حصولها على الاستقلال في ١٦ نيسان عام ١٩٤٦، وجلاء فرنسا عن أراضيها. نموذج الحكم الذي اتبع وما يزال في سوريا هو الحكم المركزي، في حين أنّ سوريا بلد متعدد القوميات والأديان والطوائف، ولو عدنا قليلاً إلى الوراء، زمن بداية الانتداب الفرنسي على سوريا، والذي تم بموجب اتفاقية سايكس _ بيكو عام ١٩١٦، نلاحظ بأنّ التوجّه بشأن شكل الحكم، آنذاك، كان جعل سوريا دولة اتحادية، كي تستجيب لطموحات ومصالح المكونات المتعددة فيها.


وهكذا ظهرت دويلات محلية داخل سوريا، مثل دولة دمشق_ حلب_ جبل الدروز_ جبل العلويين، ودولة لبنان، وطالب ممثلو الشعب الكردي، مسؤولي الانتداب الفرنسي، بحكم ذاتي في مناطقهم، ولكن سرعان ما فشل هذا المشروع الفرنسي، بسبب بروز النزعة القومية الضيقة، لدى الأكثرية العربية، فكان لها السيطرة على مقاليد الحكم المركزي، الذي شهد انقلابات عسكرية متكررة، وفرضت قانون الطوارئ والأحكام العرفية، وكان أسوأها انقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي في ٨ آذار ١٩٦٣، حيث ساد الاستبداد، واحتكار السلطة، والعسكرة، والتغنّي بشعارات العروبة والاشتراكية، وباتت سوريا _لا سيما بعد مجيء الدكتاتور حافظ الأسد بانقلاب آخر عام ١٩٧٠_ دولة الأجهزة الأمنية، التي تمارس التهميش والإقصاء والسجن وحتى الإعدام بحق أي شخص معارض.


ساد الحكم المركزي الشمولي في سوريا، وباتت البلاد أشبه بسجن كبير، حيث الاستبداد المطلق، وخنق الحريات العامة، واحتكار السلطة والثروة، ورفع شعارات طنانة، لا تسمن ولا تغني من جوع، وادعاءات مضللة للرأي العام، بأنّ سوريا تواجه تحديات كبيرة، وينبغي مواجهتها، مثل ما كان يسمى بالعدو الصهيوني، والقضية الفلسطينية، حيث تحت هذه الذرائع، جري توسيع القوات المسلحة، والإكثار من حجم الأجهزة الأمنية القمعية، وخصصت معظم ميزانية الدولة لأجل هذه الأهداف المزعومة، لكن في الجانب العملي، كان هذا كله ذرّ للرماد في عيون أبناء وبنات الشعب السوري، فالجيش والأجهزة الأمنية، استخدما فقط لقمع الشعب وحماية النظام، وإستولى رأس هرم السلطة، على الاقتصاد الوطني، لا سيما واردات البترول والغاز، واداعئه على الدوام بأنّ الأموال في أيد أمينة.


كل هذا وغيره كان يتم، على حساب بؤس وشقاء المواطن السوري المغلوب على أمره، أما التنمية وحقوق المواطنة، وحقوق المكونات، فقد جرى تجاهلها تماماً، وجوبهت الحركة السياسية للشعب الكردي، الذي يعيش على أرضه التاريخية منذ آلاف السنين، عبر القمع والملاحقة، وتنفيذ المشاريع العنصرية والتغيير الديموغرافي، بهدف إنهاء الوجود القومي الكردي لهذا الشعب المضحي والمسالم، وبسبب زيادة وتيرة الاضطهاد بحقه، انتفض الشعب الكردي في عام ٢٠٠٤، مطالباً برفع الظلم عن كاهله وإيجاد حلّ سياسي لقضيته العادلة.


ورغم أنّ الانتفاضة كانت سلمية، لكنها عوملت بكل قسوة ولم تستجب السلطات السورية لأيّ من مطالبها. النظام الاستبدادي كان وما يزال، يحاول تجميل نفسه، عبر مؤسسات شكلية، لخداع الرأي العام العالمي، حيث يجري كل فترة انتخابات مزيفة استعراضية، لأعضاء مجلس الشعب (البرلمان)، وتقوم الأجهزة الأمنية بتزكية القوائم الموالية للنظام المستبد وتقصّي الوطنيين الشرفاء، أما انتخاب رئيس الجمهورية، فيجري كل سبعة أعوام، والمرشح الوحيد، يكون الدكتاتور الحاكم، أما الدستور فهو يصاغ بحيث يلبّي مصالح الحزب الحاكم وأمينه العام، وحتى لو وجدت في الدستور بنود إيجابية.


لكنها تبقى حبراً على ورق، وفي هذا الدستو،ر رغم تعديله عام ٢٠١٢، تم تجاهل وجود وحقوق المكونات غير العربية، ومارس حزب البعث الحاكم، بحق الشعب الكردي، سياسة التعريب والتبعيث، والقمع المفرط. من جانب آخر، عندما تشكلت دولة سوريا، سواء في زمن الانتداب الفرنسي، أو بعد الاستقلال، كان اسمها الرسمي، الجمهورية السورية، لكن هذا أيضاً تعرّض للتعديل، انطلاقا من سياسة حزب البعث في تعريب البشر والحجر، فصارت سوريا تسمى الجمهورية العربية السورية، في تجاهل متعمد للحقائق التاريخية والبشرية.


وإمعاناً في سياسة صهر المكونات الأخرى في بوتقة القومية العربية، فكل مطلع على حقائق التاريخ والجغرافيا، يدرك بأنّ سوريا تضم شعوباً متعددة من غير العرب، مثل الكرد والآشور والسريان والأرمن… إلخ، وكذلك أديان عدة مثل، الإسلام والمسيحية والإيزيدية، وطوائف عديدة، مثل الدروز والعلويين.


لقد أدّى تراكم الظلم والقهر والاستبداد والفساد، وغياب آفاق الإصلاح ودولة القانون والمؤسسات الديمقراطية، الى انفجار الشارع السوري في عام ٢٠١١، بداية في مدينة درعا، ثم سرعان ما عمّت الثورة في معظم أنحاء البلاد، وبشكل سلمي وحضاري، ورفعت شعارات تمجّد الحرية والكرامة، بيد أنّ النظام وداعميه، لا سيما النظام الإيراني، استخدموا بشكل متعمد، القوة العسكرية المفرطة بحق المتظاهرين السلميين، فسالت الدماء دون مبرر، وتدريجياً دفع النظام الثوار، إلى التفكير بحماية أنفسهم، وهذا ما استغلته قوى محلية وإقليمية ودولية، فتدخلت بذريعة إمداد الثوار بالمال والسلاح، مما أدّى إلى انحراف الثورة عن سلميتها، وتحوّلت سوريا إلى ساحة حرب مفتوحة، ذات طابع طائفي مدمر، وبرزت فيها تنظيمات دينيّة متطرّفة وإرهابيّة، وتدخلات خارجيّة.


وهكذا عمّت الفوضى والدمار والتهجير والنزوح، ورغم مضي قرابة عشرة أعوام على الأزمة السورية، فما تزال آفاق الحل السياسي مسدودة، بسبب تعنّت النظام السوري، وداعميه. لقد أدّى طغيان النظام المركزي الاستبدادي إلى دمار سوريا، وخلّفت الحرب الداخلية القذرة ويلات ومآسي تقشعر لها الأبدان، وتحوّلت سوريا إلى دولة فاشلة.


مما سبق يمكن القول بشكل جازم، بأنّ النظام المركزي الاستبدادي في سوريا (وهذا ينطبق على معظم دول الشرق الأوسط) قد فشل تماماً في توفير الحرية والعدالة والحياة اللائقة للمواطن السوري، كما أدّت سياساته، لا سيما في مرحلة الأزمة الحالية، إلى انقسام المكونات السورية، بعدما انعدمت الثقة، فبات كل مكون قومي أو ديني أو طائفي، يركز على ذاته ومصالحه الخاصة، ويبحث عن حلول جذرية للمسألة السورية، وفق العهود والمواثيق الدولية، وشرعة حقوق الإنسان، وحق الشعوب في تقرير المصير بإرادتها الحرة. برأيي وفي قراءة متأنيّة للواقع في سوريا، فإنّ الحل الأمثل للأزمة السورية، هو في توافق جميع المكونات، وتحت إشراف الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، على جعل سوريا الجديدة، دولة اتحادية، والاعتراف الدستوري بحقوقها المشروعة، لضمان الأمن والاستقرار وإعادة الأعمار والتنمية. 


ليفانت – حسن صالح  

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!