الوضع المظلم
الأحد ١٥ / سبتمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • حوار مع الروائية السورية ابتسام تريسي حول روايتها الأخيرة "ذات الشعر الأحمر"

  • الرواية هي الرئة التي أتنفّس بها بمطلق الحريّة دون مواربة
حوار مع الروائية السورية ابتسام تريسي حول روايتها الأخيرة
ميرنا الرشيد 

تقديم وحوار: ميرنا الرشيد 

في المشهد الافتتاحي من روايتها الأخيرة "ذات الشعر الأحمر- السيرة الذاتية للسيّدة أمل خيّاط"، الصادرة عن دار كنعان بدمشق، تعرفنا ابتسام تريسي إلى بطلة حكايتها الواقعية، أمل خيّاط، السيدة العراقية الأصل، وهي تجالس أمها الراقدة في مستشفى الأميري في الكويت عام 1990. ليست حكاية أمل حكاية تقليدية، يمكن لأيّ منا أن يمر بها، ذلك أنّ موت والدتها في ذلك الحين، لم يطوِ صفحة من حياتها، وذكريات ومحطات جمعتها بالإنسانة التي أنجبتها وربتها. كان مسار حياة والدتها «فَيلم» لغزاً، جعل من حياتها هي لغزاً أيضاً. ومن أجل أنْ تجد حلاً له، كان لابد لها أن تعود بالزمن إلى الوراء، وتطرق أبواباً كان يُفترض أنّها أغلقتها، وتتجول في أزقة وشوارع تغيرت معالمها، في البصرة والموصل وبغداد، بعد أنْ أصبح من الصعب أن تستحضرها من ذاكرة الطفولة وأحاديث أمها.

تحيل الرواية إلى أسئلة كثيرة عن الحقوق والهوية والدين، وتضع من يقرؤها أمام تكهنات واستنتاجات، ربما لم تخطر في بال أمل نفسها، فالفضاء الروائي، وإنْ كان يسرد قصة واقعية، إلاّ أنّه يحفّز العقل القارئ على التدخل، والغوص في تحليلات، قد تحرفه بعيداً عن مسار الحكاية.

في هذا الحوار، تجيب ابتسام تريسي عن بعض الأسئلة التي قد تراود من يقرأ الرواية، وتشركنا بمعرفتها الشخصية عن أمل، وطريقة رؤيتها للحياة، وما يجري فيها، وعن المكانة التي يحتلها التعبير الروائي بالنسبة إليها، وما تمنحه لها شخصياته من قدرة على تقمص حيوات لا تشبهها، والبوح بآراء تخص أناساً آخرين، ممن يحتاجون في كثير من الأحيان إلى من يبوح عنهم بما يعتمل في داخلهم.

 وُلدت الروائية السورية ابتسام تريسي في إدلب عام 1959، وتخرجت من قسم اللغة العربية بجامعة حلب، وصدر لها إلى الآن ثلاث مجموعات قصصية وسبع عشرة رواية. وصلت من بينها راوية "عين الشمس" إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية عام 2010، كما حازت مجموعتها القصصية "جذور ميتة" على الجائزة الأولى لمسابقة سعاد الصباح عام 2001. تقول ابتسام أنّ اهتمامها الروائي والبحثي، قد "انصب على البيئة الاجتماعية السورية، وطبيعة تكوين المجتمع السوري والأسرة السورية، بمحورها الأساسي المرأة، من خلال القصص التي كتبتُها في ثلاث مجموعات"، كما أنّها وجّهت اهتمامها في رواياتها ومقالاتها إلى "الإنسان السوري، وما يعانيه في مواجهة التحديات من حوله داخل البيئة السورية وخارجها".

أود أن أعرف بداية ما الذي جمعك ببطلة الرواية، أمل خيّاط، وكيف تعرفتِ إليها، وما هي المؤشرات التي جعلتكِ تهتدين إلى سرد قصة حياتها دوناً عن غيرها من النساء؟

لم تكن أمل خيّاط صديقتي، ولم أكن أعرف عنها شيئًا قبل عام 2010. التقيت ابنتها الشابة مصادفة عند صديقة لي، وحين عرفتْ أنّي روائية قالت لي: "لو أنّك تستمعين لحكاية أمّي وتكتبينها، فهي أغرب من الخيال". ضحكتُ، وأبديت استعدادي لسماعها، على الرغم من أنّي لم آخذ الموضوع على محمل الجد. لكنّي فوجئت بأمل تزورني في بيت صديقتي بعد أشهر لتحكي لي حكايتها، وتطلب مني أن أكتبها.

في الواقع لم نكن على وفاق فكري، ولا سياسي، وقد وضعتُ مسافة بيني وبينها منذ اللقاء الأوّل، لكن للحكاية غوايتها التي أخضعتني لخوض التجربة. وعدتُ أمل بكتابة قصتها، وانشغلت عنها بروايات أخرى. لكنّ أمل لم تيأس، حين علمت أني موجودة في الكويت، اتصلت بي، وزارتني مجددًا عام 2015، وأعادت سرد حكايتها. هذه المرّة سجّلت المعلومات في ملف، ووعدت أمل بكتابتها. لكنّ خللًا أصاب الحاسوب، وطارت أعمالي كاملة ممّا أدخلني دوامة اكتئاب لم أخرج منها بسهولة. وبمساعدة الأصدقاء بدأت من جديد، وكتبت عدّة روايات قبل أن ألتقي بأمل عام 2019. هذه المرّة سجّلت الحكاية على هاتفي بصوتها، ثمّ نقلتها إلى الحاسوب، وفرّغت الملفات الصوتية، ونقلتها إلى هارد خارجي. لكنّي لاحظت أنّ أمل نسيت بعض التفاصيل التي ما زلت أذكرها من المرات السابقة.

حين بدأت الكتابة قرّرت التخلي عن سيرة أمل الذاتية ما بعد عام 2000؛ لأنّها غير مفيدة روائيًّا، وستجعل الحكاية مترهلة. واخترت الكتابة عن رحلة بحثها عن نسبها بعد موت أمّها. وهنا كنت أمام خيار صعب، فالحكاية المروية كانت عبارة عن خطّ عام للبحث، لا تحمل تفاصيل المكان ولا الزمان.

لم أختر أمل دونًا عن غيرها من النساء، بل هي التي اختارتني، وألحّت عليّ لأكتب حكايتها. أمّا أنا فقد اخترت أنْ أكتب سيرة ذاتية لسيّدة أخرى حكت لي قصتها من دون أن تطلب كتابتها. وقد كتبتها فعلًا بعد موافقة صاحبتها، ومازالت -منذ سنة- تنتظر دورها في إحدى دور النشر.

تبحث أمل "ذات الشعر الأحمر" عن هوية والديها الحقيقية، بعد أنْ رفض إخوتها أنْ تحصل على حصتها من الميراث عقب وفاة والدتها «فَيلم»، وأُخبِرت حينها أنّها ابنة بالتبني، ولا يحقُّ لها أنْ ترث. لماذا هذا الإصرار برأيك على العودة إلى جذورنا، والبحث في الماضي، كأنّنا غير مكتفين باللحظة الحاضرة، أو غير آبهين بها؟

قد أختلف معك بالرأي في مسألة العودة إلى الجذور والبحث في الماضي غير آبهين باللحظة الحاضرة، إذ لم تفكر أمل في هذه المسألة على سبيل البحث العلمي أو الحنين إلى الماضي، وإنّما بدافع الحصول على حقوق مادية فرضها واقع محدد، وما يجب التنويه إليه هنا أنّ أمل ليست نموذجًا روائيًا يعكس ظاهرة عامة، وإنّما شخصية واقعية تكاد لا تمثل غير ذاتها. ما يمكن التساؤل حوله هنا هو "هل قوة الحياة تعادل قوة الدين أم أكثر أم أقل". من وجهة نظري يبقى الدين هامشيًا أمام قوة الحياة، فالنّاس في مراحل السّلم تتعايش بشكل جميل، ويهيمن الحبّ على الكثير من الشباب والشابات، ويكون من الطبيعي اختلاط العروق، والمذاهب، والأديان. خاصة وأنّ منسوب الدين في النفوس متفاوت، ولا يمكن قياسه، وشخصية أمل عايشت تلك المرحلة، حيث كانت منسجمة مع أفكارها ورؤاها، منساقة وبشكل جميل مع قوة الحياة.

ذكرتِ في المقدمة أنّكِ أدخلتِ تفاصيل وأحداث اقتضتها الضرورة الروائية، بهدف سدّ الفجوات التي سببتها عدم دراية أمل بكثير من التفاصيل التي تخص حياة زوجها «حسن» وأمها «فَيلم»، هل لكِ أنْ تذكري بعضاً من تلك الأحداث والتفاصيل، وهل وضعتِ فيها شيئاً من تجربتك الحياتية وأفكارك الشخصية، أم أنّها جاءت متوافقة مع مجريات الرواية بمعزل عن ذاتكِ الداخلية؟

ذكرتْ لي أمل أنّ حسن تزوّج من فوزية، الفتاة المصرية، وأنجب منها ابنه هيثم، ثمّ طلّقها لأسباب عديدة. وذكرت أنّه كان يدرس في القاهرة حيث تعرّفت عليه. لكنّها لا تعرف أيّ تفصيل آخر. كان عليّ البحث عن المكان الذي درس فيه حسن، والمكان الذي سكن فيه، وتفاصيل زواجه من فوزية. هذا ما كتبته أنا بعيدًا عن تجربتي الشخصية، بل بما يتناسب ودراستي لشخصية حسن ومزاجه من خلال حديث ابنته والصور التي زودتني بها. بالنسبة لفلم أو فيلم كما يلفظونها -والتي لم أعرف معنى اسمها رغم البحث المكثف الذي أجريته، ولم تكن أمل تعرف معناه أيضًا- المعلومات التي حصلت عليها من أمل هي المكان الذي درست فيه، واسم شقيقها وزير الصحة، واسم زوجها الأول، وشقيقه الذي أحبّها وأخذ منها أولادها بعد موت أخيه؛ لأنّها رفضت أن تتزوجه، السنة التي توفيت فيها، وتفاصيل موتها ودفنها. وكيف تعرّفت أمل على الطبيبة "دعد" التي فجّرت الحكاية، ونبشت الذكريات.

ما تبقى من حياة والدة أمل فيما يخص علاقتها بخيري النائب، والأماكن التي سافرت إليها، كانت من عملي. لم تكن أمل تملك ذاكرة مكانية، ولم تهتم بالتفاصيل الصغيرة، روت لي الحكاية، وتركت لي مهمة معرفة التفاصيل عن طريق دراسة الشخصيات من حيث البيئة، والمكان، والزمن الذي عاشت فيه.

ما روته أمل عن أمّها أنّها كفّت عن التنقل في المدن العراقية هربًا من خيري النائب حين علمت بموته. وذكرت لي أسماء المدن التي سافرت إليها، وتركت لي مهمة البحث عن تلك المدن. كان الزمن ملتبسًا في ذهن أمل، فهي كانت تذكر أنّها سافرت إلى مصر، والتقت بحسن، وحضرت عرضًا عسكريًّا احتفالًا بعيد الثورة، قالت إنّه في عهد السادات. لكن حين قارنتُ تاريخ ميلادها وعمرها آنذاك، اكتشفتُ الخطأ الذي وقعتُ فيه. كما ذكرت لي أنّ أمّها كانت أول خريجة من دار التمريض، وحدّدت لي العام، لكنّي بالبحث اكتشفت أنّها أخطأت أيضًا بفارق عشر سنوات.

لم تكن أمل تتذكر اسم الكنيسة التي قصدَتها للسؤال عن وثيقة ميلادها، فكان عليّ معرفة كل الكنائس في المدينة، وأن أسأل ابنتها إلى أي طائفة كانت تنتمي، وأن أحدد الكنيسة. لم أكتفِ بذلك، بل قرأت عن كلّ القساوسة الذين مروا على الكنيسة، لأتأكد إن كان اسم أحدهم هو الذي ذكرته أمل في حكايتها. بالإضافة إلى بحثي عن الكنيسة التي ذكرتها في الكويت ومعرفة التفاصيل الدقيقة عنها.

تأتي الرواية على ذكر مسألة إشكالية جداً في المجتمعات العربية، وهي مسألة الزواج من غير دين، بالإضافة إلى التحول إلى ديانة أخرى. لقد تزوجت أمل المسيحية من حسن المسلم، وشقيقتها فعلت الأمر نفسه، كما أنّ والدتهما تزوجت من رجل مسلم بعد وفاة زوجها الأول المسيحي. ألا تحمل الرواية برأيكِ تلميحاً للقرّاء والقارئات، بأنّها تؤيد التشريع الإسلامي في هذه النقطة، علماً أنّه يشكل جزءاً أساسياً من المشكلة، فهو يمنع منعاً باتاً زواج المسلمة من مسيحي، ولا يتساهل بأيّ من الأشكال مع تحوّل المسلم أو المسلمة إلى أيّ شريعة أخرى؟

لا تتعلق المسألة هنا بتأييد أو رفض التشريع الإسلامي، فالإسلام كما ذكرتِ يمنع المرأة من الزواج بغير المسلم، لكنّه يبيحه للرجل وبشكل كامل، إذن لسنا هنا أمام إشكالية زواج للرجل المسلم، وإنّما قد تكون ثمّة إشكالية للمرأة غير المسلمة عندما تتزوج من غير دينها، كما حصل مع والدة أمل، ومع أمل ذاتها، لكن بقيت المعاناة منحصرة بنتائج الإشكالية الدينية، حيث لاوجود لشهادة ميلاد في الكنيسة، وبالتالي لا يوجد إثبات يمكنها من الحصول على حقوقها المادية، ولو نظرنا للأمر من زاوية أخرى، لوجدنا أنّ أمل وأمّها كانتا تعيشان الحياة وفق سياقها الإنساني، في وقت لم تكن فيه الفوارق الدينية أو المذهبية، تُشكّل إشكالية بين الناس.

تدور الوقائع اليومية لأمل بين مجموعة من الشخصيات المسيحية والمسلمة، لكن ثمة جملة من المشاهد تُظهر أفضلية لصفات المسلمين على صفات المسيحيين، فالقساوسة التي لجأت إليهم أمل مرات عديدة، كانوا قساة القلب وغير عابئين بالإنسانية، كما أنّ «حنا» شقيق زوج والدتها، كان شخصاً سيئاً وغير أخلاقي، لماذا جاء الطرح بهذه الطريقة، ولماذا لم يُعالج بأسلوب يحافظ على سير الأحداث، ولا يُخل بحقيقة الشخصيات، حتى لا تؤخذ الرواية إلى منحى ديني غير متوازن؟

لم تقصد الرواية الإساءة إلى رجال الدين المسيحي على الإطلاق. ما حدث يمكن أن نفسّره بمنطق أمل نفسها التي قالت إنّ الله وضع في طريقها هؤلاء الأشخاص كي يهديها إلى الإسلام. ومن منطقها نفسه أستطيع القول إنّ هؤلاء لا يمثلون جميع رجال الدين، لكنّهم يعبّرون عن طريقة فهمهم لقوانين عملوا على سنها -هذا بالنسبة لرجل الدين في الكويت الذي لم يفتح لها باب الكنيسة- وأيضا بالنسبة للمفتي الذي رفض شهادة حسن على إسلام والدة أمل. هي القوانين أولًا وأخيرًا. أمّا الذين عاملوها بقسوة في البصرة، أو الموصل، فهم -من وجهة نظرهم- يتعاملون مع امرأة مرتدة عن دينها. لم تذكر الرواية رجل دين مسلم -حسن المعاملة والأخلاق- وتقارنه برجل دين مسيحي؛ كي نقول إنّه لا يوجد توازن. الحكاية كانت تسير كما حدثت في الواقع.

 أفهم أن هذا السؤال ناجم عن إشكالية بعض مصطلحات النقد التي سادت مرحلة نهوض المفاهيم الاشتراكية، وأقصد هنا تحديداً مفهوم (النمذجة) في الأدب. برأيي الخاص كلّ إنسان هو عالم متكامل ومختلف عن الآخر، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نأتي بشخصية واحدة، ونعمّمها على شريحة اجتماعية واسعة، ربّما يصح ذلك فقط في عالم الأحزاب السياسية، أو عند التفكير بالطبقات الاجتماعية اقتصاديًا، أمّا على صعيد الحياة، فأعتقد أنّ الأمر مختلف كليًا.

عندما تزوجت «فَيلم» من زوجها الثاني المسلم، أهداها قرآناً، لكنّها كانت تخشى أنْ تطلع عليه مخافة أنْ تغيّر دينها الذي نشأت عليه، وفي الوقت نفسه، كانت ابنتها أمل تسعى جاهدة في سبيل إثبات أصلها الذي نشأت عليه. أليس في هاتين الصورتين تناقضاً، علماً أنّ الدين هوية متينة، يحمل بداخله مزيجاً من الثقافة والتاريخ والإرث الاجتماعي والتربية البيئية، وليس من السهل التحول عنه إلى دين آخر، أو التخلي عن المنظومة الدينية برمتها، إلاّ بعد بحث مضني، وجدل فكري يحيل إلى أسئلة جوهرية؟

أيضاً في هذا السؤال اسمحي لي أن أخالفك الرأي بشأن أنّ الدين هوية متينة، ويحمل بداخله مزيجًا من الثقافة والتاريخ والتربية. فالدين واحد من مكونات الثقافة، صحيح أنه يُسهم وبشكل فعّال في التربية، لكن ثمّة عوامل كثيرة تُسهم أيضًا في التربية وبشكل فعّال، وأهمها الأعراف والتقاليد المتوارثة، وكلنا يعرف أنّ كثيرًا من العادات تأصلت فينا من مراحل زمنية قد تسبق مرحلة ظهور الدين. في رواية (ذات الشعر الأحمر) لسنا أمام شخصية يختمر في عقلها جدل فكري، يحيل إلى أسئلة جوهرية يمكن له أن يؤدي إلى التخلي عن الدين، أو تغيير الدين. هذه الأسئلة يمكن أن تأتي للقارئ بعد أن يعيد إنتاج النص الروائي، ويعيد ترتيب الأزمنة، ويُجهد فكره في التساؤل عن الجدوى، إنّها أسئلة الفهم والتأويل والاستنتاج وملء البياض، وهذا بالضبط ما تريده الرواية من قصة واقعية حدثت بهذا الشكل، وضمن تلك الأطر المفاهيمية البدهية.

توفيت أمل خيّاط في عام 2022، وكانت حينها قد عرفت هوية والدها الحقيقي، هل برأيك قد أحدثت معرفتها هذه تغييراً في حياتها، علماً أنّ الموت سيغيب الجميع، مهما اختلفت أصولنا وهوياتنا ومعتقداتنا؟

التغيّر الذي حدث في حياة أمل كان قبل معرفتها بهوية والدها. لقد تزوجت من حسن، واعتنقت الدين الإسلامي قبل معرفتها بنسبها. التغيير الذي حدث بعد معرفتها لا يكاد يتخطى الراحة النفسية، وإحساسها أنّ القدر رسم لها حياتها بهذا الشكل، وجعلها تنفصل عن خطيبها الأول، وتتزوج حسن تتويجًا لحقيقتها التي كانت تجهلها. عندما كانت تروي حكايتها، كانت ترويها بدهشة الاكتشاف الأوّل، والإحساس بأنّ مصير الإنسان مرسوم مسبقًا؛ وأنّه لا يمكن أن يتدخل بأيّ تفصيل آخر من حياته.

حكت لي أمل عن خلافاتها مع حسن التي يمكن أن تحدث بين أيّ زوجين، وقد تؤدي أحيانًا إلى الانفصال أو الكراهية، لكنّها كانت على يقين أنّ مصيرها مرتبط به، وأنّ حياتها تدور في فلكه، فتنسى كلّ أخطائه، وخلافاتهما، وتعود الحياة إلى مجراها من جديد.

وعلى الرغم من كونها سيّدة متعلمة ومكافحة، وأصبحت أرملة وهي في سن الشباب، إلّا أنّها ذات تفكير قدري، تستطيع التسليم بما يحدث حدّ الإيمان بالخرافات، وإحدى تلك الخرافات التي روتها لي عن "الحورية" التي أخبرت حسن بأنّه سيتزوج منها!

ثمة منهج في التفكير يتجاوز الارتباطات العائلية والصلات الاجتماعية التي تشكّل هوية أساسية في أغلب المجتمعات، لأنّ الجسد ليس إلاّ رداءً نخلعه عند الموت، وتخرج منه الروح بما ارتكبته من أفعال، وتبقى منتظرة رداءً آخر ترتديه، وتتوالى في الولادة إلى أنْ تسدد ما عليها، وتأخذ ما لها. وبناءً على تفكير كهذا، ليس علينا أنْ نتمسك بهذا الأصل أو ذاك، فالواقع الذي نحن فيه الآن، من ناحية الوالدين والوسط الاجتماعي والمسار الحياتي بأكمله، سببته كارما أفعالنا المتعلقة بنا، ما رأيكِ بذلك؟

للأسف هذا المنهج بالتفكير لا نجده خارج الثقافة الهندية إلا عند إخواننا الموحدين (الدروز)، وهو في المحصلة فكرة دينية خاصة هدفها حثّ الإنسان على العمل الصالح من أجل الحصول على المآل الحسن، ولا أجده يتعارض مع مجمل ما جاء في الأديان جميعها إلا بشكل المآل، فهو عند المسلمين، إمّا الجنة  أو النار، حسب العمل؛ لأنّ الإسلام لا يَعد بالتناسخ والولادة من جديد، في حين أنّ هذا المنهج يؤمن بذلك، وبالتالي على الإنسان أن يخاف من الولادة بشكل أسوأ، مثلما يخاف المسلم من النار، وبالتالي عليه العمل جيدًا في هذه الحياة؛ كي يكسب حياة أفضل بعد انتقال الروح وحلولها في حياة أخرى. عندما ننظر إلى جوهر الأديان نجده واحدًا، تأتي الاختلافات من رجال الدين الذين يضيفون ما يعتقدونه مفيدًا للفرد، أو للمجتمع، وغالبًا يضعون منافعهم الشخصية في المقدمة، وذلك من خلال احتكار الوساطة مع الإله.

من هي أمل خيّاط بالنسبة إلى ابتسام تريسي؟ كيف تصفينها بعيداً عن أحداث قصتها الواقعية؟

بعض الشخصيات العابرة تترك أثرًا كبيرًا في حياة الروائي، حتّى وإن كانت شخصيات سلبية، أو غير متوافقة مع المنهج الفكري للكاتب. باختصار، أمل لم تكن صديقتي، ومعرفتي الشخصيّة بها لم تتجاوز عدّة لقاءات عابرة، لكنّها تركت أثرًا لم يكن عابرًا.

مع هذا يمكنني القول، إنّ تلك اللقاءات جعلتني أفهم شخصيتها جيدًا، فهي تؤمن بشكل مطلق بسيادة السلطة وأحقيتها في التحكم بمصائر الشعوب، وهذا ما أراه منافيًا لطبيعة الإنسان الحرّ.

كما تؤمن بوجود الظواهر غير الطبيعية في البشر والحياة، أي أنّها تصدّق المعجزات، وأكاذيب الحكّام، والخرافات. وتعيش حياتها بتسليم مطلق بالقضاء والقدر الذي يمثله الحاكم أحيانًا. كانت أمل تحمل عدّة جنسيات منها الأمريكية، وعاشت حياتها مستمتعة بما كسبته من الدنيا "المال والبنون"، والسياحة في بلاد الله الواسعة.

ربّما كان اختلافنا الجذري حول قضايا سياسية حسّاسة، وقضايا فكرية لا تعني القارئ الذي يبحث عن الحكاية، السبب الرئيس الذي جعلني أروي حكايتها من دون اندماج بين ذاتي كروائية وذاتها كشخصيّة أكتب عنها.

ما الذي جعلك تلجئين إلى كتابة الرواية، وما الذي تودين قوله من خلال الأدب، ولا يمكنك البوح به بطرق أخرى من التعبير؟

عمومًا لا أجد صعوبة في قول ما أريد، والتعبير عن رأيي بحريّة وشجاعة، قد يفتقدها البعض بسبب ظرف خارجي، أو عدم مقدرة على المواجهة. الرواية ليست ملجأً أتوارى خلفه، أو داخله؛ لأكتب رأيي وأعبّر عنه؛ لأنّي أعبّر بأكثر من طريقة عمّا أفكر به، "مقال، قصة، حكاية، سيناريو". لكن الرواية هي الرئة التي أتنفّس بها بمطلق الحريّة دون مواربة. وهي المكان الذي أستطيع أن أتجوّل فيه من دون رقيب، وأترك شخصياتي تحمل عني جزءًا من العبء في قول أشياء تخصّ الآخرين. كروائية أستطيع العيش بأكثر من شخصية، وأعبّر عن وجهات نظر مختلفة عني كإنسانة. هذا ما تمنحني إياه الرواية، أفكّر بطريقة مختلفة عني، أعيش حيوات أخرى لا صلة لها بواقعي.

على سبيل المثال، سُئلت مرّة عن "يوسف" بطل روايتي المعراج، من يكون؟ فقلت هو أنا. كنت أعيش شخصية يوسف على مدى عامين من كتابة الرواية. بمجرد طباعتها لم يعد يوسف يعنيني؛ لأنّي لبست شخصية أخرى في رواية جديدة. ما أودّ قوله إنّ الحياة يمكن أن تُعاش بسبل كثيرة جدًا، تكاد تكون بعدد البشر على سطح هذا الكوكب، لكن دائمًا ثمّة قيود يصنعها من يُنصِّبون أنفسهم قادة للبشر، من سياسيين، ورجال دين، وأحيانًا مفكّرين، وفلاسفة. يحاولون تغيير مجرى نهر الحياة حسب أهوائهم؛ فتنشأ الحروب، والعداوات، وتُبنى الجدران العازلة فتتكرّس الأحقاد والضغائن. وأعتقد أنّ الروائي الحقيقي هو من يحاول تفكيك هذه القيود، وهدم الجدران بأسلوب سلس وممتع، وبفكر منفتح على هذا النّهر العظيم.

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!