-
حقوق قُبرص في التنقيب بالمتوسط رهنٌ لتعديات جارها الشمالي!
رغم أنها جزيرة، وكانت حتى العام 1974 مُتحدة، إلا أن قدرها السيئ فيما يبدو قد جعلها مُجاورة للجانب التركي الذي تعد شواطئه الأقرب لها من حيث المسافة، لكنه الأبعد عنها من حيث السياسة، حيث لا تخفي أنقرة أطماعها في الجزيرة الصغيرة نسبياً مقارنة معها، وهو ما دفعها إلى غزوها في العام 74، عندما حدث إنقلاب سعى للإتحاد بين الجزيرة واليونان، حيث جرى تقسيم قبرص، لتحتل تركيا أجزاءاً شمالية منها بحجة وجود أتراك فيها، وتعلنها جمهورية "غير شرعية"، إذ لا تعترف بها أي جهة سوى أنقرة ذاتها.
ومنذ ذاك الحين، تعيش الجزيرة حالة صدام مع تركيا، التي تقوم سياستها تجاه الجزيرة على منطق القوة وليس قوة المنطقة، فيما لم ينجح الدعم الذي تلقته الجزيرة من اليونان وأوروبا كونها جزءٌ منه في حماية سيادتها، في ظل مساعي أنقرة للسيطرة على كامل الجزيرة، والاستحواذ على حقوقها التنقيبية في مياهها الإقليمية مؤخراً، وهو ما رفع من حدة الصراع بين الجانبين.
صراع على التنقيب
وعقب سنوات من الهدوء الحذر بين الجانبين، تصاعدت في الأشهر الأخيرة الفائتة حدة الصراع بينهما، خاصة على أحقية التنقيب في المياه الأقليمية للجزيرة، فقد قال الرئيس القبرصي، نيكوس أناستاسياديس، في الخامس من ديسمبر 2019، إن بلاده طلبت من محكمة العدل الدولية في لاهاي، حماية حقوقها في الموارد المعدنية البحرية التي تنازعها تركيا السيادة عليها، مشيراً إلى أن بلاده ملتزمة بحماية حقوقها السيادية بكل الوسائل القانونية الممكنة، وأوضح في نيقوسيا “هذا بالتحديد هو الغرض من الشكوى التي قدمناها إلى لاهاي”.
إقرأ أيضاً: ما مدى جدية الغرب في حظر “الإخوان المسلمين”؟
وجاء الحديث القبرصي ذاك، بعد أن تبنى وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، في نوفمبر 2019، آلية تسمح “بمعاقبة أفراد أو كيانات مسؤولة عن أنشطة التنقيب غير المصرّح بها عن الهيدروكربونات أو المشاركة فيها”، وبذلك توصل الاتحاد الأوروبي إلى نظام عقوبات على تركيا، يمكن الدول الأعضاء من تقديم أسماء أولئك الذين تعتقد أنه ينبغي إدراجهم في القائمة.
وفي السابع عشر من ديسمبر، أكدت مصادر قبرصية، أن قوات بحرية فرنسية وإيطالية ستعمل على حماية سفن الشركات التابعة للدولتين والتي كان من المخطط أن تبدأ عمليات بحث وتنقيب عن الغاز في المياه القبرصية، وقال وزير الطاقة القبرصي جورج لاكوتريبيز، في حديث مع سكاي نيوز عربية، إن بلاده تعمل على ضمان ألا يتكرر ما وقع العام الماضي، عندما اعترضت القوات البحرية التركية سفينة تنقيب تابعة لشركة إيني الإيطالية، ومنعتها من العمل في أحد حقول الغاز القبرصية، وأضاف الوزير القبرصي "منذ أن وقعت تلك الحادثة عملنا بشكل مكثف، ليس فقط مع الشركات المعنية، لكن كذلك مع الدول التي تتبعها هذه الشركات لضمان ألا يتكرر مثل هذا الأمر. ولهذا السبب نرى الآن تحالفاً أقوى بين شركتي توتال الفرنسية وإيني الإيطالية في كل أحواض الغاز".
وتعليقاً على ذلك، صرّح رامي خليفة العلي، أستاذ الفلسفة السياسية، لـ "سكاي نيوز"، إن "تركيا تنتهج مؤخراً سياسة فرض الأمر الواقع مثلما فعلت في شمال قبرص، وشمال سوريا، والآن فرض الأمر الواقع عبر وجود عسكري في مياه البحر المتوسط، الأمر الذي يتجاوز القانون الدولي، وبالتالي هذه السياسية تتطلب رداً مختلفاً"، مضيفاً: "الدول الأوروبية هذه المرة مستعدة أكثر من أي وقت مضى لاتخاذ خطوات جادة في مواجهة السياسة التي يتبعها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان"، قائلاً: "السياسات التركية الأردوغانية تتجاوز ثروات البحر المتوسط للتدخل في شؤون الدول الأخرى، وانتهاج سياسة إمبراطورية، رغم أن تركيا لا تمتلك المقومات لذلك".
إقرأ أيضاً: السعودية ركناً في مُواجهة أحلام أنقرة التوسعية
من ناحية أخرى، اعتبر الوزير القبرصي أن إطلاق تركيا طائرات مسيّرة من شمال قبرص يأتي في إطار التصعيد التركي المستمر ضد قبرص، ومحاولاتها إثارة التوتر في المنطقة لتخويف الشركات الأجنبية من العمل فيها، وتابع "لقد شهدنا تصعيداً من تركيا طوال السنوات الماضية، التصعيد التركي ضد قبرص ليس أمراً جديداً هو متواصل، هذه خطوة أخرى في هذا الاتجاه، والهدف التركي هو خلق توتر في المنطقة لتخويف الشركات من الاستثمار هنا، ونحن في قبرص لا نرغب في ممارسة هذه اللعبة لخلق مزيد من التوتر، ومنع الشركات من القدوم".
العدائية التركية تجاه الغرب:
وضمن البحث عن إجابات عن أسباب العدائية التركية تجاه الغرب، قال دانييل بايبس رئيس منتدى الشرق الأوسط عند تغطيته لحلقة نقاش بعنوان: "هل تركيا عائدة؟"، عقدت في 9 ديسمبر 2019، إن عهد أردوغان أطلق بداية نقاشاً بشأن الثقة في تركيا كحليف، ولكن عدائيتها المتواصلة نحو أصدقاء الأمس أنهت ذلك الخلاف في الرأي، وباتت اليوم النقاشات الرئيسية تدور حول أسباب وتوقعات بشأن مدة تحول تركيا من عماد المنطقة الجنوبية الشرقية لحلف الناتو إلى نقطة ضعف في أوروبا.
ونوه بايبس، ومعه عدد من أعضاء الكونغرس وخبراء من خارج الحكومة الأمريكية، إلى تلك التحولات على أنها اجتماعية/ ثقافية، ولذا من غير المرجح أن تتغير عما قريب، وتنعكس تلك التحولات في انهيار شعور سابق بحسن النية لدى الأتراك تجاه الولايات المتحدة، فقد أعرب أكثر من نصف من استطلعت آراؤهم من الأتراك في عام 2000عن رضاهم عن أمريكا، فيما تراجعت أخيراً تلك النسبة إلى 18%.
إقرأ أيضاً: من موسكو إلى واشنطن: حان الوقت لمُغادرة شرق الفرات!
إلى ذلك، عبر رؤساء ثلاث منظمات عرقية تمثل أكراداً ويونانيين وأرمناً- وجميعهم ضحايا تاريخيون لعدوان عثماني – تركي، عن إحباطات مماثلة حيال قصر نظر الانتهازية الغربية، وأجمعوا على أن مصاعب تركية معاصرة تعكس مشاكل منتظمة في الثقافة التركية، لا تقتصر على سياسات أردوغان وحسب، وقال إندي زيمينديس، المدير التنفيذي للمجلس اليوناني – الأمريكي، إن مثل تلك السياسات تجعله يرغب بإصدار قانون إدانة بحق واشنطن، فقد تمكنت تركيا خلال عقود من الاسترضاء من الوصول إلى موقفها الحالي، وواصلنا الخروج بمبررات جديدة كي لا نأتي على ذكر المجزرة الأرمنية، أو عنف ضد أقليات دينية وعرقية تركية أخرى.
قبرص تسعى لحلف متوسطي في مواجهة أنقرة
المساعي التركية الرامية إلى إنشاء مواطئ قدم لها في حوض المتوسط، تضمن لها الاستيلاء على أكبر كمية ممكنة من الغاز المستكشف في الحوض، دفعت بعدة دولاً على المتوسط للتعاون في مواجهة تلك المساعي، ففي العشرين من يناير الماضي، وجهت مصر في بيان رسمي تحذيراً من أي محاولات لانتهاك حقوق قبرص في مواردها بمنطقة شرق المتوسط، في إشارة إلى عمليات التنقيب التركية والتي لاقت ردود فعل دولية غاضبة لا سيما من قبل اليونان ومصر، وأشار المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية، في بيان رسمي، عن تأكيد مصر على حقوق جمهورية قبرص وسيادتها على مواردها في منطقة شرق المتوسط.
وقال البيان أن حقوق قبرص تأتي في إطار ما يقضي به القانون الدولي واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، بما في ذلك المناطق التي منحت فيها قبرص ترخيصاً للتنقيب البحري عن النفط والغاز، منبهاً من تداعيات أي إجراءات أحادية تنتهك الحقوق القبرصية وتهدد أمن واستقرار منطقة شرق المتوسط، مُؤكداً ضرورة الالتزام باحترام وتنفيذ قواعد القانون الدولي وأحكامه.
إقرأ أيضاً: العقوبات الإقتصادية والأخطاء تُنبئ “روحاني” بـ (ثورة)
تحذيرٌ مصري لاقى صداه في بروكسل، فتوجه الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات على اثنين من المواطنين الأتراك فيما يتعلق بأنشطة التنقيب عن الغاز قبالة ساحل قبرص، الدولة العضو بالتكتل، وذلك بحسب ما قال دبلوماسيون أوروبيون لوكالة الأنباء الألمانية، في الرابع من فبراير، وقد أودت الأنشطة البحرية التركية - التي يعتبرها الاتحاد الأوروبي غير شرعية - إلى توتر العلاقات المتوترة بالفعل مع أنقرة، حيث أعدت الدول الأوروبية في نوفمبر الماضي، الإطار القانوني لفرض حظر السفر وتجميد الأصول في التكتل على المواطنين التركيين اللذين شاركا في أنشطة الحفر في البحر الأبيض المتوسط، بعد فشل التدابير العقابية السابقة في تغيير مسار أنقرة.
وطالبت نيقوسيا شركاءها في الاتحاد الأوروبي بالتحرك بعد أن أرسلت تركيا سفينتين العام الماضي، للحفر في المياه التي تعتبرها قبرص جزءاً من منطقتها الاقتصادية الخالصة، فيما تدعي أنقرة أن أنشطتها للتنقيب عن الغاز تتماشى مع القانون الدولي، وهو ما دفع محللين للإعتقاد بأن تركيا المصمّمة على توسيع نفوذها في حوض البحر الأبيض المتوسط حيث تثير الموارد النفطية التوترات، قد تعمل على تكثيف الضغط على قبرص، معتبرةً إياها “الحلقة الضعيفة” في تحالف إقليمي يقف في وجه طموحات أنقرة في المنطقة، فيما يأتي التوتر بين أنقرة ونيقوسيا في وقت تكثف فيه تركيا اختبارات القوة على كل ضفة من المتوسط، متدخلة في نزاعي سوريا وليبيا.
وفي إطار البحث القبرصي عن حلف قوي يحميها من الهجمات التركية التي قد تقع لو تصاعد النزاع أكثر، وقعت قبرص واليونان واسرائيل مطلع يناير، اتفاقاً حول أنبوب “شرق المتوسط” للغاز، لمواجهة مطالب أنقرة حول حقول المحروقات في المنطقة، ونبه متابعون إلى نية أنقرة لرفع مستوى الضغوط على نيقوسيا لثنيها عن مواصلة عمليات التنقيب عن المحروقات، وتعارض أنقرة أي عملية تنقيب أو استثمار للمحروقات تستبعد الشطر الشمالي من قبرص حيث يقيم القبارصة الأتراك.
واشنطن ما بين نارين
الخلاف القبرصي التركي وضع واشنطن ما بين نارين، نار تأييد حق قبرص في حماية مصالحها، ونار حليفها التركي الذي أدخلها ولا يزال في كثير من الصراعات التي يصعب فيها أخذ الخيار كما حصل شمال سوريا، لكن يبدو أن المعادلة مختلفة بعض الشيء في قبرص، إذ أعربت الولايات المتحدة عن دعمها لحكومة قبرص في خلافها مع تركيا على التنقيب عن الثروات الباطنية في شرق المتوسط في الخامس من فبراير، وفق ما صرّح به مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الطاقة فرانسيس فانون، الذي أكد أن واشنطن تدعم الشراكة الإقليمية في مجال الطاقة والتي تعزز التعاون السياسي وازدهار دول المنطقة، محذراً من “خطوات استفزازية مزعزعة للاستقرار”.
إقرأ أيضاً: “أردوغان” يواصل تقييد المجتمع التركي بذريعة الانتماء لـ”غولن”
وأعرب عن تأييد واشنطن حق حكومة نيقوسيا في تطوير موارد الطاقة، مع تقسيم العائدات بين الشطرين اليوناني والتركي من قبرص، بموجب اتفاق يعيد توحيد الجزيرة المنقسمة، وتابع: “نحث جميع الأطراف على الامتناع عن اتخاذ أي خطوات استفزازية قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار بشكل أكبر"، وذلك على خلفية تصعيد التوتر بين تركيا من جهة، وقبرص والاتحاد الأوروبي من جهة ثانية، في ظل قرار أنقرة إرسال سفن للتنقيب عن الموارد الطبيعية إلى المنطقة الاقتصادية الخالصة للجزيرة.
وفي الأثناء، وقعت قبرص بداية فبراير، عقدين مع شركة أوروبية بهدف شراء صواريخ مضادة للطائرات والسفن، وأشارت وكالة الأنباء الفرنسية نقلاً عن مصدر مقرّب من الملف، إن الجيش القبرصي أمضى في ديسمبر 2019، على عقد مع مصنع الصواريخ الأوروبي "إم بي دي إيه" بقيمة 150 مليون يورو، حيث تضمنت الصفقة توفير صواريخ أرض - جو قصيرة المدى من نوع "ميسترال"، مؤكداً معلومات نشرتها جريدة "لا تريبون" الفرنسية بهذا الشأن، كما وقع المصنع عقداً آخر بقيمة 90 مليون يورو مع البحرية القبرصية، بهدف توفير صواريخ مضادة للسفن من نوع "إكزوست" تعمل على بطارية ساحلية.
وفي السياق، قال الرئيس القبرصي في التاسع من فبراير، أن الجزيرة لن ترجئ خططها للتنقيب عن الغاز على الرغم من محاولات تركيا إجبار بلاده على وقف أنشطتها عن طريق إجراء عمليات تنقيب عن الغاز في المياه القبرصية، وأشار الرئيس نيكوس أناستاسيادس إن وقف التنقيب نتيجة الضغوط التركية سيكون بمثابة تنازل قبرص عن حقوقها السيادية، مشدداً على استعداده للتفاوض مع تركيا في رسم مسار لاتفاق يعيد توحيد قبرص، منوهاً إلى أن هذا لن يحدث إذا وضعت تركيا شروطًا مسبقة مثل تعليق التنقيب لإجراء محادثات السلام هذه.
إقرأ أيضاً: مُشكلة أنقرة في إدلب.. (خسارتها) دون كسب كوباني
وصرّح أناستاسيادس، رئيس حكومة قبرص المعترف بها دولياً، "إن التشكيك في الحقوق السيادية أو وضع شروط مسبقة مثل القول: "أنا أخرق القانون الدولي وفي المقابل، يجب أن تتخلى عن حقوقك السيادية حتى نتمكن من التفاوض.. هذا لا يُظهر النوايا الطيبة أو النوايا الحسنة". فقط تركيا تعترف بالدولة القبرصية التركية الانفصالية في الثلث الشمالي للجزيرة".
ورغم القوة العسكرية التي تمتلكها أنقرة وهي الثانية على صعيد حلف شمال الأطلسي (أو هكذا كانت)، فإن قوتها تلك لا يمكن بأي حال أن تتغلب على الحقوق الواضحة للعيان، ويمكن التأكيد بأنها لن تستطيع الصمود أمام كل التحديات التي خلقها لها نهجها التوسعي في المنطقة، والذي أكسبها الكثير من الخصوم، فالتحالفات التي تبدو ملامحها بالإرتسام، ستكون كفيلاً بالتأكيد لوضع حد لأطماع أنقرة في بناء أمبراطورية عثمانية ثانية!
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!