-
“حفار القبور” السوري.. تلك الجثة وهذا العالم الميت
لم يكن ممكناً بالنسبة لي وأنا أقرأ ما كشفته شهادة “حفار القبور” السوري أمام محكمة جرائم الحرب في سوريا، بمدينة كوبلنز غرب ألمانيا، سوى أن أكون تلك المرأة “الجثة” المرمية في أسفل كومة الجثث التي كان ينقلها لدفنها في مقبرة جماعية بدمشق، شعور مفزع، ولكن الأكثر فزعاً هو هذا العالم الذي يستطيع تجاهل وجود القاتل وتاريخ الجريمة، وأعداد الضحايا، واستمرار القتل والقتلة دون عقاب.
الجثة لا اسم لها
لا يهم أن نعرف اسم تلك الجثة الآن، فحفار القبور لا يأخذ على عاتقه مهمة التعريف بالموتى، فقط الأحياء لهم أسماء، والقتلة كذلك، لهذا يمكننا ببساطة تخيّل آلاف الأسماء، ومن بينها أسماؤنا، ما يهمّ هو قصة الجثة التي لا يسردها أحد، فهي لم “تنجُ” لتخبرنا عن تفاصيل التعذيب أو عن ما ارتكبته من جرم يستحق الموت، ولم تختار الموت احتجاجاً على لا عدالة الحكم كما فعلت المحامية السجينة (إبرو تيمتكتيمتك) في تركيا، أو يذكر اسمها في مطالبات الهيئات الدولية مثل (نسرين ستودة) في إيران، إنّها مجرد رقم بين المختفين قسراً بأيّ من سجون الدكتاتوريات، التي بلغت في سوريا (129989) شخصاً، منذ آذار 2011 إلى آذار 2020، حسب تقرير الشبكة السورية.
فالاعتقال والاختفاء القسري في مراكز الاحتجاز الرسمية وغير الرسمية التابعة للنظام، ولبقية الأطراف السورية، شكلت جانباً معتماً من جوانب الحرب السوداء، لهذا يمكننا وضع آلاف الروايات حول الجرم، والمحاكمات غير العادلة -إن وجدت-، فقصة موتها تبدو أشد وضوحاً، وجميعنا كسوريين نعرف محرّمات السلطة، لقد حفظناها مذ كنا صغاراً يوم أخبرونا أن (نمشي الحيط الحيط، ونقول يارب السترة) ويوم قالوا (للحيطان آذان) ثم أشبعونا بفكرة (ما متت، ماشفت مين مات)، لندخل حالة تمويت قسري، المخرج منه كان ضمن خيارين، أن نستمر فيه بانتظار موتنا البطيء أو نتجاوزه لنصير جثة، وفي كلا الحالين هناك الكثير من الوسائل الممكنة والمباحة في الموازين الدولية.
كذلك أخبرونا أنّ استباحة المحرّمات ورفض الذل والإذلال اليومي يعادل (مؤامرة كبرى على الوطن)، أو (وهن لعزيمة الأمة)، وانتقاص من (هيبة الدولة)، هذه الأفكار التي تشبعنا بها جعلت البعض منا يتأقلمون مع الفظائع التي يرتكبها النظام بوصفها حالة طبيعية، ليبقوا حيث هم يلوكون الصمت كما الجثة، فالجثث لا تصرخ لا ترفض ولا تسأل حول محاكمة “الجناة” على “جريمة” لا أحد يعرف حقيقة كيف ومتى وأين وبماذا تُرتكب، فتلك المصطلحات رغم أنّها ليست طارئة لكن توصيف حدودها ومعاييرها، أمر لم يدركه السوريون يوماً، لقد أدركوا فقط، أنّ كل ما يطالبون به لصنع حياة أفضل على الأقل لأولادهم، هو مؤامرة تجعل هذه “الأمة” تأنُّ وهناً، والدولة تهتزُّ هيبتها، لتتراوح العقوبة بين أن يحمل جرح السجن وندبة التعذيب كوشم يرافقه طيلة عمره، أو يستلم جثته “حفار القبور”. لتكون “ضحية” يغصّ البعض حين يفكر بمجرد وجودها، ويعتبر البعض الآخر موتها ضرورة، ليبقى القاتل طليقاً.
تلك الجثة
تلك الجثة تُختصر قصتها، بأنّها إحدى جوانب (نظام القتلة) الذي تؤسّسه الأنظمة الاستبدادية والفاشية والممتدّ من الأعلى إلى الأسفل، فأشدّ الأنظمة في العالم أسّست نظامها على سلسلة من القتلة، لهم مؤيديهم الذين لا يرون فيما يحدث جريمة، إنما ضرورة، تقودها الكثير من المبررات، كالحماية والحفاظ على الأمن في مقابل شيطنة الخصوم، كائن من كانوا ومن أي فئة كانوا، إنّها مبررات متأصّلة في التاريخ البشري لتكوين نظام يقوم على عماء “الثقة”، أو التكيّف مع ما يشاع حول ضرورة القتل للمخالفين والمختلفين، كجزء غير منفصل عن عرف السلطات وإمكانية استمرارها عبر التاريخ.
وفي الوضع السوري واختلالاته، ما زال النظام بكافة أركانه يجد من يصدّقه ويثق بكلامه، فهناك شريحة كبيرة من السوريين لا ترى في هذا النظام ورأس النظام مجرم حرب، وهو ما يعرفه النظام جيداً ويؤكد عليه، ففي الحوار الذي أجراه التلفزيون العمومي السويسري الناطق بالألمانية (1 SRF) مع الرئيس الأسد، وأذيع بتاريخ 20 أكتوبر 2016، لقد جاء رده على السؤال المباشر والمرعب، هل أنت مجرم حرب؟ (إنّ دستور البلاد يكفل له الدفاع عن الشعب السوري بقتل الإرهابيين) مشيراً بنفس التقرير أنّ تشبيهه بأدولف هتلر وصدام حسين لا يتمتع بالمصداقية، فأهمّ شيء بالنسبة له هو كيف ينظر إليه الشعب السوري، فالشعب بالنسبة له هو الجزء الغارق في التطبيع مع مبررات الحرب والقتل التي جرى ترويجها منذ بدء الحراك، وما يزال متمسكاً بظل نظام الخراب والإجرام، ليكون الضامن في استمراره حتى الآن، ويكون تلك الجثة التي تحتضن طفلاً، جزءاً من الانتصار المزعوم للنظام ومؤيديه.
هذا العالم الميت
كشفت المأساة السورية عن حقيقة أننا نعيش في عالم مُفزع، عالم تختصّ خطوطه الحمراء في تقنين أدوات الجريمة بدل إزالتها، فيحدد المسموح والممنوع بنوع السلاح فقط، ولا يكتفي بهذا إنما يستطيع اختلاق الأعذار والتخلّي عن الضحية، حتى لو تمّ استخدام سلاح محرّم، لتجعل المعوّلين على (مسؤولية الحماية الدولية) أكثر خيبة وشعوراً بالظلم، فتتبع مقرراتها حول حماية السكان من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، يبدو بعيداً عن التنفيذ على أرض الواقع.
وكما كل الجرائم التي حدثت بالماضي وفي أكثر من زمان ومكان ستسمر للمستقبل، فبعض الجرائم لا تجد إجماعاً لدى منظمات حقوق الإنسان الفاعلة كمنظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان، وهو ما حدث في إيران بتاريخ (12 سبتمبر 1988) والجريمة الواسعة النطاق التي تعادل الإبادة الجماعية ضد المخالفين لنظام الخامنئي من مجاهدي خلق واليساريين، وبعضها تطمر معها حقيقة الفاعل كمجزرة حلبجة يومي 16 و17 آذار 1988 ضد الأكراد التي لم تتحدّد المسؤولية عنها ضد العراق أم إيران، وبعضها لا تجد إجماعاً لدى ما يُسمى (المجتمع الدولي) كما في سوريا، وسيكتفي بإدانة الجريمة وشجبها.
هذا الشجب والإدانة، لم ينقذ الجثث، وكذلك ما صرّح به المبعوث الخاص لوزير الخارجية الأمريكي إلى سوريا “جيمس جيفري”، بأنّ دولته القوية أمريكا، تعتقد أنّ (بشار الأسد) وصمة عار على البشرية، وهو مجرم حرب لا يرحم، ربما كان أكبر وأقسى مجرمي الحرب في العالم في الوقت الحاضر، ولكنها لا تسعى إلى تغييره بل تريد تغيير سلوكه.
شهادة حفار القبور لم تصف جثة تعانق طفلها الميت بين ذراعيها لتحميه من الموت، بل وصفت عالماً فقد كل ما فيه من إنسانية، عالماً كان شاهداً على الموت القسري مراراً وتكراراً بأكثر من مكان وزمان، وبأكثر من طريقة، وصفت توحّش البشر في عالم يكتفي فقط بأن يرى الجريمة المروّعة ولا يتحرك لوقفها ومحاسبة المجرم، إنقاذاً للقيم قبل الضحية، وللعدالة قبل الحقّ.
ليفانت – هوازن خداج
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!